حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> عقائدية
المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار
الشيخ حسين الخشن



 

ما هو  دور الاعتقاد في بناء الهوية الإسلامية والإيمانية؟ وما هو موقعه في المعارف الدينية عموماً؟ وما هي المعارف التي تحتاج إلى عقد القلب؟ وما المراد بالاعتقاد أساساً؟ هذه الأسئلة وغيرها نعرض لها فيما يأتي...

 

تنوع القضايا الدينية:

 

إنّ القضايا والمفاهيم الدينية: إمّا أن ترتبط بأفعال الجوارح فعلاً أو تركاً، إلزاماً أو ترخيصاً، وهذه تعرف بفروع الدين ويتناولها علم الفقه بالبحث والاستدلال، وإمّا أن ترتبط بأفعال القلوب وهذه على نحوين: الأول: ما يتعلق ببناء الملكات النفسانية وما تتطلبه من التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل وهذا ما يتناوله علم الأخلاق، والثاني: ما يتطلب عقد القلب والاذعان بجملة من المفاهيم الدينية، وهذا ما يتناوله علم الكلام وأصول الدين. والاعتقاد الذي نتحدث عنه لا يراد به ولا يكتفى فيه بمجرد العلم بالمسألة الدينية، وإنما هو معنى أعمق من ذلك فهو يختزن التسليم والاذعان وعقد القلب على ما علم به المكلف، إذ ربما يعلم المرء بشيء ولا يعقد قلبه عليه، بل يبني على خلافه، عناداً وجحوداً، كما حدثنا القرآن عن بعض الناس{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}(النمل:14)، كما أنه قد لا يبنى لا على الشيء ولا على خلافه(راجع حاشية السيد اليزدي على فرائد الأصول 1/663).

 

القضايا الدينية وعقد القلب:

 

والسؤال: هل أن كل القضايا أو المفاهيم الدينية  تتطلب عقد القلب أو أن بعضها لا يتطلب ذلك؟ وما هوالمعيار في التصنيف؟

 

يستفاد من كلمات الأعلام أن بالإمكان تنويع القضايا الدينية إلى ثلاثة أنواع:

 

الأول: القضايا التي يجب الاعتقاد بها دون قيد أو شرط، أي أن وجوب الاعتقاد مطلق وغير مشروط بحصول العلم، فيجب على المكلف في هذا النوع من القضايا تحصيل العلم بها مقدمة لبناء تصوراته الاعتقادية.

 

الثاني: القضايا التي يجب الاعتقاد بها، لكن مقيداً بحصول العلم، فما لم يحصل العلم بها فيسقط وجوب الاعتقاد، ولا يجب على المكلف تحصيل الشرط مقدمة للاعتقاد، وإذا أردنا استخدام المصطلحات الأصولية لقلنا: إن المعرفة بالنسبة للنوع الأول من القضايا هي مقدمة واجب ـ كالوضوء بالنسبة للصلاة - فيجب تحصيلها، ولكنها بالنسبة للنوع الثاني مقدمة وجوب ـ كالاستطاعة بالنسبة للحج ـ فلا يجب تحصيلها.

 

الثالث : هو القضايا التي لا يجب فيها الاعتقاد أصلاً حتى مع حصول العلم بها، غاية الأمر أنه لا يجوز إنكارها والجحود بها، وقد مثّل المحقق الأشتياني لهذا النوع بالقضايا التكوينية التي أخبر عنها المعصوم، من قبيل: بيان مبدأ خلق السماوات والأرض ونحوها من الأمور الواقعية التي لا تعلق لها بالدين على حدّ تعبيره(نقله في فلسفات إسلامية:141)، وأمّا أمثلة النوعين الأول والثاني فستأتي في ثنايا البحث.ولكن قبل الحديث عن ذلك يجدر بنا بيان حكم من لم يعتقد بالمسائل الدينية من الأنواع الثلاثة المتقدمة، فنقول: لا شك أن الإسلام يدور مدار الاعتقاد بالنوع الأول من القضايا، فمن لم يعتقد به فهو خارج عن الإسلام أو الإيمان كما سنذكر، وهذا بخلاف النوع الثاني فإن عدم الاعتقاد به لجهل لا يضر بالانتماء الديني للشخص، فكل ما لا يجب بذل الجهد في تحصيله لا يدور الإسلام مداره، وبالأولى أن لا يدور الإسلام مدار النوع الثالث، شريطة عدم الانكار، لأن هذا النوع من القضايا خارج عن نطاق القضايا العقدية، بل والدينية أيضاً، لأنه وإن ورد على لسان المعصوم، إلاّ أن ذلك لا يصيّره من قضايا الدين وشؤونه، فإن المعصوم قد يخير عن الشيء لا بصفته مشرعاً أو مبلغاً عن الله، بل من موقع خبرته في شؤون الحياة، أو من موقع علمه المستقى من الوحي.

 

الاعتقاد المطلق والمشروط:

 

بالعودة إلى الصنف الأول: وهو ما يجب الاعتقاد به وبذل الجهد في معرفته، فإن المصداق البارز لذلك هو ما يعرف بأصول الدين من التوحيد والنبوة والمعاد، ويضيف الإمامية إليه الاعتقاد بالامامة، فهذه الأصول الأربعة يجب الاعتقاد المطلق بها، ما يعني أن يجب بذل الجهد في معرفتها، مع وجود فارق بين الأصل الرابع وما تقدمه من أصول، وهو أن الإسلام الرسمي ـ بما يستدعيه من التعامل مع الشخص معاملة المسلمين لجهة الزواج والميراث وغيرها من أحكام المسلمين ـ لا يدور مدار الاعتقاد بالإمامة، فلا يحكم بكفر من لم يؤمن بها لقصور أو اجتهاد، بخلاف الأصول الثلاثة الأولى، فإن الإسلام يدور مدارها ـ كما سلف ـ.

 

وأمّا سائر المفاهيم الاعتقادية مما يرتبط بتفاصيل التوحيد والنبوة والمعاد فضلاً عن تفاصيل الامامة فهذه لا تدخل في النوع الأول، وإنما هي من مصاديق النوع الثاني وربما الثالث ـ كما سنلاحظ ـ وعليه فلا يجب الاعتقاد بها أو بذل الجهد في معرفتها، وهذا ما اختاره جمع من الأعلام، خلافاً للعلامة الحلي حيث أدرج الكثير من التفاصيل الاعتقادية في عداد ما يجب الاجتهاد في معرفته، مدعياً أن الجاهل بها خارج عن ربقة الإيمان ومستحق للعذاب الدائم (الباب الحادي عشرص:3 ـ5)، وقد اعترض عليه الشيخ الأنصاري بأن كلامه في غاية الاشكال، وأنه لا دليل على وجوب معرفة هذه التفاصيل(فرائد الأصول1/559).

 

في الدليل:

 

والسؤال المهم هو: أنه ما الدليل على التفرقة المذكورة بين النوع الأول والثاني من أنواع الاعتقاد؟ ولماذا وجبت المعرفة في النوع الأول دون الثاني؟

 

والجواب: إن أدلة وجوب المعرفة قاصرة عن الشمول للنوع الثاني، وغاية ما يستفاد منها ضرورة بذل الجهد في سبيل التعرف على الأركان التي يدور عليها رحى التدين، لأن عمدة هذه الأدلة هي الدليل العقلي القاضي بضرورة البحث والاجتهاد إما دفعاًَ للضرر المحتمل أو شكراً للمنعم، ومن الواضع أن هذا الدليل المرتكز على هاتين القاعدتين لا يشمل التفاصيل الاعتقادية كما اعترف بذلك المستدل بهذا الدليل (حاشية فرائد الأصول لليزدي1/670) وأما الأدلة النقلية الدالة على وجوب المعرفـة فهي لا تدل على أكثر من وجوب المعرفة الاجمالية دون معرفة التفاصيل(م.ن)، مضافاً إلى ذلك يمكن القول بأن ثمة مانع عن شمول أدلة المعرفة لما عدا الأصول، وهذا المانع هو أن تكليف عامة الناس بالمعرفة التفصيلية هو أشبه ما يكون بالتكليف بما لا يطاق، لقصورهم عن إدراك تلك المعارف، على أن إلزامهم بتحصيل هذه المعارف يستلزم انصرافهم عن الكثير من أعمالهم اليومية ومتطلباتهم الحياتية وهو ما يؤدي إلى اختلال النظام. ويشهد لما نقول من عدم وجوب المعرفة بالتفاصيل الاعتقادية العديد من الروايات من قبيل ما روي عن أبي جعفر الباقر(ع):" ... ثم بعث الله محمداً وهو بمكة عشر سنين، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله(ص) إلاّ أدخله الله الجنة بإقراره وهو إيمان التصديق.."(الكافي2/29)، وفي الحديث عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله؟ فقال: الدين واسع، ولكن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم من جهلهم، فقلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذين أنا عليه؟ فقال: بلى، قلت : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقكم، فقال: ما جهلت شيئاً هو والله الذي نحن عليه، قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟  قال: لا، إلا المستضعفين، قلت: من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم، قال: أرأيت أم أيمن ـ حاضنة النبي(ص) ـ فإني أشهد أنها من أهل الجنة وما كانت تعرف ما أنتم عليه"(الكافي:2/405).

 

وخلاصة القول: إن ما يسوقنا إليه الدليل هو أن ما تجب معرفته بالتفصيل هو خصوص ما يتوقف عليه الإسلام والإيمان من الأصول الأربعة المتقدمة، يقول السيد اليزدي رحمه الله:"والحق والتحقيق أن الواجب من المعرفة ليس الا ما يعتبر من الإسلام والإيمان وضعاً.." (حاشية الرسائل 1/667).

 

بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار:

 

باتضاح ماسلف من أن وجوب المعرفة والاعتقاد مختصان بالأصول التي يدور عليها رحى الإسلام، فإن السؤال الذي يفرض  نفسه: هو أن القضايا التفصيلية المتصلة بأصول الدين هل يجب عقد القلب عليها في حق من علم بها فتدخل في النوع الثاني؟ أو أنه لا يجب الاعتقاد بها إنما يحرم انكارها فقط فتدخل في النوع الثالث؟ ثم ما هو المعيار أو الضابط بين هذين النوعين؟

 

قد يقال: إن كل ما كان داخلاً في نطاق الدين عقيدة أو شريعة يجب الاذعان به وعقد القلب عليه فيما لو علم به المكلف وثبت له انتسابه إلى الدين، بل إن الأمر التشريعي تجب فيه الموافقة العملية مضافاً إلى الموافقة القلبية، وأمّا إذا كان خارجاً عن نطاق الدين وهو ما أخبر عنه المعصوم من القضايا التكوينية ونظائرها فهذا لا يجب الاذعان به وعقد القلب عليه، غايته أنه لا يجوز إنكاره بعد العلم بإخبار المعصوم عنه.

 

 وهذا الكلام لو تمّ لشكّل معياراً واضحاً بين ما يجب الاعتقاد به وما لا يجب، لكنه لا يتمّ، لأنه لا دليل على وجوب عقد القلب في كل القضايا الدينية، ولا سيما قضايا التشريع، غاية الأمر أنه لا يجوز انكارها بعد العلم بانتسابها إلى الإسلام، بل ذهب الشيخ الأنصاري رحمه الله إلى أنّ الأقوى بالنسبة للقضايا الضرورية من الدين ـ ما عدا الإيمان بوجود الله وتنزيهه عن النقائص والإيمان بنبوة سيدنا محمد(ص) وبإمامة الأئمة (ع) وبالمعاد الجسماني ـ عدم وجوب الاعتقاد فيها، وعدم تقوّم الإيمان بها، وأن الذي ينافي الإيمان هو إنكارها إما من العالم فحسب أو منه ومن الجاهل(فرائد الأصول1/568)، ووافقه السيد اليزدي رحمه الله وأضاف: بأنه لم يجد قائلاً بلزوم الاعتقاد أو التدين ـ على حد تعبير الأنصاري ـ في سائر الضروريات(حاشية الرسائل1/671).

 

وما يمكن أن يكون مستنداً لهذين العلمين وغيرهما ممن نفى وجوب الاعتقاد في الحالات المشار إليها هو الافتقار إلى ما يدل على الوجوب، نعم قد يواجهنا قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}(النساء:65)، فإنه واضح الدلالة على وجوب الانقياد والاذعان لما صدر عنه(ص)، إلا أن يقال: بأن الآية واردة في القضاء، ومورده هو القضايا الجزئية، ومن الواضح أن عدم الانقياد أو التسليم له(ص) في هذه الموارد لا ينفك عن التشكيك فيما صدر عنه، والتشكيك في حكمه(ص) مناقضٌ للإيمان.
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon