أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس
الشيخ حسين الخشن
وهنا نعود إلى السؤال حول أمثل الأساليب وأفضلها في مجاهدة النفس وتهذيبها؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال، نقول (مع الأخذ بعين الاعتبار ما ذكرناه حول أسلوب العلاقة الصحيحة مع الله): إنّ الطريق الأفضل والأسلوب الأمثل للتهذيب يتمثّل في اتباع عدة خطوات:
أـ التزام منهج الكتاب والسّنة
الخطوة الأولى: هي الالتزام في عمليّة تهذيب الروح والنفس بنهج الكتاب والسُّنة المتمثّل بالعمل بالتكاليف الشرعية، والأخذ بالمنظومة العبادية والروحية التي جاءتنا عن النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع). (ستأتي الإشارة إلى هذه المنظومة) والأخذ بالمنظومة المذكورة لا بدّ أن يترافق مع إعداد وقت
لمحاسبة النفس وتهذيبها، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: ٤٠ – ٤١]. إنّ المؤمن بحاجة إلى تخصيص مثل هذا الوقت للاختلاء بنفسه لمحاسبتها ومساءلتها، وقد ورد في الحديث النبوي المشهور: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن
تُوزنوا وتجهّزوا للعرض الأكبر"[1]، وسيأتي حديث عن المحاسبة وكيفيتها وآثارها الطيبة في فقرة لاحقة تحت عنوان "الشباب والفراغ الروحي".
ب - بناء العلاقة مع الله على أساس الحبّ
والخطوة الثانية على هذا الصعيد هي السعي الجادّ في سبيل استشعار عظمة الله تعالى، وإبقاء جذوة حُبّه متقدة في النفوس، ومعلومٌ أنّ المحبّ لا يعصي حبيبه، بل يحرص على الدوام لنيل رضاه وكسب محبته.
وأعتقد أنّه ليس أمام الإنسان المسلم من طريق للوصول إلى مستوى مقبول من الاستقرار الروحي، إلاّ الطريق الذي رسمه القرآن الكريم والذي تقدّمت أهم خطواته العمليّة، وسيأتي مزيد من الحديث عنه، فهذا الطريق هو الموصل ليس إلى حالة من العروج أو السمو الروحي فحسب، بل إنّه سيغرس
محبّة الله في القلب، ومَنْ ذاق محبّة الله فلن يتّخذ معه شريكاً في الحبّ، فضلاً عن اتخاذ شريك له في الطاعة والعبادة والخالقية، وقد ورد في المناجاة "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلاً ومن ذا الذي أَنِس بقربك فابتغى عنك حِولاً"[2]. ومن يبني علاقته مع الله على أساس الحب،
فلن يُشغل بالَه حديثُ الجنة والحور، بل يغدو رضا الله غايته وطموحه، يقول أحد الشعراء:
رضاك رضاك لا جنات عدن وهل عدن تطيب بلا رضاكا
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: ٧٢].
وهكذا فإنّ من يعيش محبّة الله تعالى لن تؤلمه نار جهنم بقدر ما تؤلمه نار الهجر وفَقْد الحبيب.
يقول أمير المؤمنين(ع): "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك"[3].
ج- أهميّة القدوة في حياة الشباب
إلى ذلك، فإنّ ثمّة خطوة ثالثة تساعد كثيراً في عملية تهذيب النفس وإصلاحها، وتتمثّل باتّخاذ قدوة صالحة، والقدوة في هذا المجال هي النبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) ومن تربّى في مدرستهم من الأولياء والصلحاء والعرفاء. ولا ريب إنّ استحضار سيرة هؤلاء ومواقفهم وتجاربهم في تزكية
النفس الأمارة، هي خير معين للشباب في مهمّة التزكية والتهذيب.
ويجدر بالخطاب الديني أن يعمل على تقديم النماذج الشبابية التي تخرّجت من مدرسة الإسلام الأصيل إلى أجيالنا المعاصرة، ورغم الأهميّة الخاصّة التي يوفّرها لنا استلهام النماذج المعصومة باعتبار أنّ تجربتها وسلوكها وفكرها مصون من الخطأ والزلل، فإنّي أشعر أنّ لاستحضار النماذج غير
المعصومة، والتي تربّت في مدرسة المعصومين ميزة خاصة؛ لأنّ ذلك أدعى للاقتداء بهم وتمثّل سلوكهم، وأبعد عن محاولة الاحتجاج والتعلّل بعدم القدرة على الاقتداء، كما يدّعيه البعض عادة عندما يُدعى إلى الاقتداء بالمعصوم. مع أنّ هذا العذر ليس صحيحاً، لأنّ عصمة النبي (ص) أو الإمام (ع)
لا تلغي بشريته ولا تنفي وجود الغرائز لديه. وأضف إلى ذلك أنّ استحضار هذه النماذج الشبابية التي تخرّجت من مدرسة المعصومين(ع)، يمثّل تقديراً ووفاءً لهؤلاء وتنويهاً بأسمائهم وتعريفاً بأشخاصهم ومواقعهم، وهم في الأعمّ الأغلب شخصيّات مجهولة لهذا الجيل الشبابي بل لعامة المسلمين! وقد
يكون التقصير أو القصور في التعريف بهؤلاء من قِبَل أهل العلم والأدب، هو أحد الأسباب التي تقف خلف ظاهرة تقليد الشباب المسلم لرموز من خارج الفضاء الإسلامي من الممثِّلين أو المطربين أو لاعبي كرة القدم أو غيرهم.
د- من عرفاء مدرسة الوحي
وبالحديث عن القدوة الصالحة يمكننا القول: إنّ المدرسة القرآنية وتعاليم النبي الأكرم (ص) وأهل بيته (ع) قد استطاعت أن تربّيَ جيلاً من عباد الله الصالحين، الذين عرفوا الله حقّ المعرفة، بعيداً عن الخطوط المنحرفة للسلوك الروحي. ونكتفي بذكر عدّة من هؤلاء، وهم من الجيل الشاب:
1- الصحابي المتيقّن
ومن أبرز هؤلاء ذاك الشاب الصحابي الذي حدثنا الإمام الصادق(ع) عن قصّته قال - فيما رُوي عنه - : "إنّ رسول الله(ص) صلّى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد يخفق ويهوي برأسه مصفّراً لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله(ص): كيف أصبحت يا فلان؟
قال: أصبحت موقناً.
فعجب رسول الله(ص) من قوله، وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟
فقال: إنّه يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا منهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنة يتنعّمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل
النار وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.
فقال رسول الله لأصحابه: هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان، ثم قال: إلزم ما أنت عليه. وفي خبر آخر "أبصرت فاثبت".
قال الشاب: ادعُ لي يا رسول الله أن أُرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله(ص) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي(ص) فاستُشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر"[4].
2- مصعب بن عمير: من حياة الترف إلى الشهادة
والنموذج الآخر الذي نذكره في هذا المجال هو الصحابي الشاب مصعب بن عمير الذي ترك حياة الترف في مكة ليلتحق بالدين الجديد، ويسعى في نشر الإسلام والدعوة إليه ويبادر بكلّ اندفاع وحماس إلى حمل الرسالة الإسلامية إلى أهل يثرب (المدينة المنوّرة). لقد كان مصعب فتى مكة الجميل
المترف المدلّل، وكان أبواه يحبّانه، وكانت أُمّه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وظلّ يعيش بين أبوين يكرمانه ويفضلانه على سائر أولادهما، إلى أن دخل الإسلام قلبه فترك حياة الترف واللهو، فجفاه أبواه دون أن يفتّ ذلك من عضده أو يوهن من عزيمته. فكان مع رسول الله في الشِعْب حتّى تغيّر
وأصابه الجهد، ولكنّه في هذه الفترة اغتنى بالقرآن الكريم وتعلّم منه الشيء الكثير. ولهذا انتدبه النبي (ص) إلى مهمة جليلة، وهي مهمة الذهاب إلى المدينة لتعليم أهلها القرآن الكريم وتعريفهم بالإسلام . فكان يخرج في كل يوم يطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاسلام فيجيبه الشبان منهم، وظلّ
مصعب على إخلاصه للإسلام إلى أن استشهد في معركة أُحد بين يدي رسول الله (ص)[5].
3- الشاب التائب
والنموذج الثالث: هو أحد الشباب المعاصرين للإمام الصادق (ع)، ففي الحديث عن أحد أصحاب الإمام الصادق والمسمّى بعليّ بن أبي حمزة، قال: كان لي صديق من كتّاب بني أمية، فقال: استأذن لي على أبي عبد الله(ع) فاستأذنت له، فأذن له فلمّا دخل سلّم وجلس، ثم قال: جعلت فداك إنّي كنت في
ديوان هؤلاء القوم (بني أميّة) فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه! (أي لم أسأل ولم أهتّم: أمن حلال هو أم من حرام؟).
فقال أبو عبد الله(ع): لولا أنّ بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم ما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلاّ ما وقع في أيديهم.
فقال الفتى: جُعلت فداك فهل لي من مخرج؟
قال(ع): إن قلت لك تفعل؟
قال: أفعل.
قال: فاخرج من جميع ما كسبت من ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك على الله عز وجل الجنة.
فأطرق الفتى طويلاً، وقال: قد فعلت جُعلت فداك.
قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلاّ خرج منه حتّى ثيابه التي على بدنه، فقسمنا له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة.
قال: فما أتى عليه إلاّ أشهر قلائل حتّى مرض، فكنّا نعوده قال: فدخلت يوماً وهو في السَّوق (الاحتضار) ففتح عينيه، ثم قال لي: يا علي لقد وفّى لي صاحبك، ثم مات فتولينا أمره.."[6].
إلى غير ذلك من الأسماء الشبابية البارزة التي تركت ملذات الدنيا وهاجرت إلى الله تعالى وإلى رسوله(ص). وسوف نشير لاحقاً إلى مزيد من هذه النماذج التي استطاعت أن تنتصر على النفس الأمارة بالسوء وتخلّت عن ترف الدنيا ولهوها لأجل أن تحيا حياة متواضعة ولكنها مفعمة بالإيمان بما
يضمن لها استقراراً روحياً منقطع النظير، وكان لها أيضاً دور هام في حمل الرسالة الإسلامية[7].
4- نماذج شبابية ذكرها القرآن الكريم
هذا لو قصرنا النظر على تاريخنا الإسلامي، أما إذا ذهبنا في جولة إلى تاريخ الرسالات السابقة وفتحنا سجلاته المشرقة فسوف نجد - أيضاً - الكثير من النماذج الشبابية التي تمثّل قدوة تحتذى، فهذه القديسة مريم (ع) هي نموذج الفتاة الطاهرة العفيفة، وقد خلّد القرآن الكريم ذكرها في العديد من آياته
المباركة، حتى خصصت سورة قرآنية باسمها، وهؤلاء فتية أهل الكهف الذين فرّوا من قومهم ومجتمعهم الغارق في الشرك والوثنية والتجأوا إلى الله تعالى، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ
مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف: ١٣ – ١٦].
إنّنا نتوجّه إلى شبابنا اليوم بالقول: هؤلاء هم سلفكم الصالح وهؤلاء هم قدوتكم الذين عليكم الاستلهام من هديهم والسير على خطاهم، وليس قدوتكم المطرب الفلاني أو الممثلة الفلانية أو لاعب الكرة الذي قد لا يملك في سجله شيئاً من الإنجازات سوى نجاحه في اللعب، ولكنّه في ميزان القيم والأخلاق قد
يكون إنساناً عادياً جداً..
من كتاب "مع الشباب، في همومهم وتطلعاتهم" http://www.al-khechin.com/article/440
نُشر على الموقع في 19-10-2016
[1] وسائل الشيعة ج 16 ص 99، الباب 96 من أبواب جهاد النفس، الحديث 9.
[2] مقطع من مناجاة المحبين المنسوبة إلى الإمام زين العابدين (ع)، راجع حول سند هذه المناجاة ما ذكرناه في ملاحق كتاب: "وهل الدين إلاّ الحب؟" ص232 وما بعدها.
[3] مقطع من دعاء أمير المؤمنين (ع) المعروف بدعاء كميل.
[5] انظر: السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 296، وج 3 ص 592، وإعلام الورى بأعلام الهدى ج 1 ص 139، وقاموس الرجال للتستري ج 10 ص 86، وموسوعة التاريخ الإسلامي للشيخ محمد هادي اليوسفي ج 1 ص 653.
[7] انظر: المحور الرابع، فقرة "دور الشباب في عملية النهوض".