ج »
إنّ الفارق بين المدرستين الأخبارية والأصولية في أصول الاستنباط هو فارق كبير، وليس فارقاً عابراً وسطحياً، ولذا لا ينبغي تسخيفه ودعوى أنه غير مؤثر على النتائج العملية، وإليك بيان ذلك من خلال بعض النقاط السريعة:
الأولى: إن بناء الأخباريين على العمل بكل الأخبار الواردة في الكتب الأربعة بل وغيرها أيضاً كما يصرح بذلك الحر العاملي وغيره، سيعني حتماً التزامهم بعشرات بل مئات الفتاوى التي لن يوافقهم عليها الأصولي الذي ذهب إلى تصنيف الحديث إلى الأصناف الأربعة المشهورة: الصحيح والموثق والحسن والضعيف، وحصر الحجية بخصوص الصحيح أو هو والموثق، ومن المعلوم أنّ آلاف الأخبار التي تضمنتها الكتب الأربعة فضلاً عن غيرها هي – بنظر الأصولي – أخبار ضعيفة وغير صحيحة.. ويكفي لملاحظة النتائج الفقهية بين المدرستين مراجعة ما توصلت إليه المدرسة الأخبارية من نتائج وآراء فقهية عند الحر العاملي في كتابه "هداية الأمة إلى أحكام الأئمة" وما توصل إليه مشهور الأصوليين في زمان الحر نفسه، كما نجده لدى السبزواري والخونساري وغيرهما من الفقهاء، إن الفارق العملي شاسع وكبير وواضح ولا يسعنا الإسهاب في سرد أمثلة له.
أجل، قد كان ثمّة ما يضيق الشقة من الناحية العملية بين المدرستين، وهو انتشار بعض المقولات لدى الأصوليين من قبيل: مقولة انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور، الأمر الذي كان يوجب تصحيح العشرات من الأخبار الضعيفة، بسبب عمل المشهور بها، ولكن عندما تراجع المتأخرون عن هذه المقولة - كما نرى عند السيد الخوئي - فهذا سوف يسهم في تعميق الشقة من الناحية الفتوائية بين المدرستين،.
الثانية: إنّ الاستشهاد بصاحب الحدائق، وهو الشيخ يوسف البحراني للقول بأن الشقة بين المدرستين ليست كبيرة، بحجة أن الشيخ لا يختلف في فقهه كثيرا عما ذكره مشهور الفقهاء الأصوليين هو استشهاد لا يخلو من ضعف، وذلك، لأنّ الشيخ البحراني عند كتابة الحدائق كان قد أجرى مراجعة نقدية لمنهجه الاستنباطي القديم والذي كان منهجاً أخبارياً متشدداً، ونتيجة لهذه المراجعة ( التي أعلن عنها وبين أسسها في مقدمات الحدائق وفي كتابه الآخر: الدرر النجفية) فقد مارس جهداً كبيراً في التقريب بين المدرستين، ودان بعض رموز التشدد من الطرفين، ورأى أن الفجوة بين المدرستين مبالغ فيها وغير صحيحة، وهو ما جعله يقترب كثيرا في منهجه الفقهي الاستنباطي من المدرسة الأصولية كثيراً، وهو ما انعكس عملاً على فقهه، ولذا قد لا نجد فوارق كبيرة بين ما توصل إليه الشيخ البحراني وما توصل إليه مشهور الفقهاء الأصوليين، وهذا الاعتدال الذي اتسم به الشيخ يوسف هو ما يفسر لنا هذه الثقة الكبيرة به وبكتابه الحدائق عند العلماء الأصوليين واعتباره مرجعاً أساسياً لهم في عمليات الاستنباط .
الثالثة: هذا كله لو قصرنا النظر في ملاحظة الفارق بين المدرستين الأخبارية والأصولية على مسألة العمل بكافة أخبار الكتب الأربعة من قبل الأخباريين وعدم العمل بكل ما فيها من قبل الأصوليين، وأما لو ضممنا فوارق أخرى بين المدرستين، فإن الشقة ستزيد اتساعاً، وعلى سبيل المثال: فإنّ التزام الأصوليين بالبراءة في الشبهات الحكمية التحريمية والتزام الأخباريين بالاحتياط فيها يؤثر على النتائج الفقهية كثيراً، ويزيد من الفجوة بينهما في النتائج الفقهية، لأن عشرات الموارد يوجه الفقيه فيها شكاً في الحرمة، وهنا سيلتزم الفقيه الأصولي بالبراءة ويلتزم الفقيه الأخباري بالاحتياط.. هذا ناهيك عن وجود فوارق منهجية وأصولية أخرى قد تنعكس على النتائج العملية الفقهية.
نعم إن المسار الذي خططته المدرسة الأخبارية في العصر الأخير من قبل بعض رموزها من أمثال الشيخ محمد أمين زين الدين اقترب كثيرا من المنهج الأصولي حتى أنه لم يعد ثمة فارق جوهري بين المدرستين من الناحية العملية إلا لُماماً ونادراً..