آفاق الشيخ الخشن: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي
ادارة الموقع
حاوره: حسين زين الدين
في حواره مع مركز أفاق للدراسات والبحوث أوضح الباحث الشيخ حسين الخشن أن مشكلة الأديان تتبلور في الخطاب اللاهوتي من جهة زعم كل جماعة دينية باحتكار الحقيقة المطلقة ونفيها أن يكون لدى الآخر شيء منها. والإشكال الثاني تشكل في الخطاب الفقهي من جهة تقديم صورة نمطية عن الآخر.
مبينا أن الشخصية المتدينة تعاني نوعا من التشوه ومن اختلال الموازين، فهي تراعي حدود الله في أمور تفصيلية، لكنها لا تعيش قلقا إزاء حقوق الآخرين.
ورأى أن التجديد الديني يبدأ في المنهج وهو ضرورة إعادة إجراء فرز للتراث الديني الفقهي، لتحديد ما هو ثابت منه وما هو متغير.
ملفتا إلى أنه لا يزال أتباع المنهج التقليدي يرفضون إلى الآن إعادة النظر في الكثير من الأفكار والمفاهيم الدينية القديمة التي كانت تُقدِّم تصورات خاصة عن الوجود وعن الكون وعن بداية الحياة، إضافة إلى تحكمه في عقول شريحة واسعة من علماء الدين ودعاته.
وأشار إلى أن النص القرآني واضح في تحديد الوظيفة الأساسية للدين وهي إحياء الإنسان روحيا ومعنويا وأخلاقيا واجتماعيا، معتقدا أنّ دور الدين سيبقى دوراً محورياً وفاعلاً في الحياة الإنسانية بشتى أبعادها.
مبينا في ذات السياق أن المشكلة ليست في أصل الدين ولا في الإنسان نفسه بل تكمن في السلوكيات الخاطئة التي نقدمها لهم بصفتها صورة حقيقية ونهائية وناجزة عن الدين .
وفي سياق حديثه عن علاقة الدين بالأخلاق، أكد على أنّ الأخلاق هي جوهر الدين وروحه ولا حاجة لدين لا تكون الأخلاق هي ركيزته ومرجعيته الحاكمة، مبينا أنّ مشكلات البشر في عمقها كانت ولا تزال مشكلة أخلاق
وفي النظر للدين و للثقافة جدال كلا الحلقين ودورهما في واقع الحياة الإنسانية المعاصرة لا يرى من الصحة في شيء جعل الثقافة مضادة للدين، ولا يفترض بالفكر الديني أن يكون نقيضاً للفكر الثقافي بشتى تنوعاته وتلاوينه.
تابع قراءة كامل الحوار:
إحياء الإنسان.
ماذا عن ماهية الدين؟ و هل هناك حاجة وجودية للدين أم أنه ضرورة إنسانية ؟
إنّ النص القرآني واضحٌ في تحديد الوظيفة الأساسية للدين، وهي بناء الإنسان روحياً ومعنوياً وأخلاقياً واجتماعياً، إنّه يريد أنسنة الإنسان، وترويض نزعاته، وتفجير طاقات الخير الكامنة في أعماق نفسه، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال 24]. وإذا كان المخاطب بالدين هو الإنسان، وكان الإنسان محور الرسالات السماوية، فهذا يحتم علينا أن نعي ونفهم الإنسان جيداً، فلا يكفي أن نقصر السؤال على ما يريده الدين في شريعته من الإنسان، بل لا بدّ أن نتساءل عما يريده الإنسان ويتطلع إليه في كينونة إنسانيته وعمق فطرته من الدين، فإذا كانت الآية المباركة أعلاه قد بينت - بإجمال - الهدف الذي يصبو إليه الدين وما يريده من الإنسان، وهو إحياؤه، فإن علينا أن لا نكتفي بالوقوف عند هذا الحد، بل من المفروض أن ننتقل - وتحقيقاً لهذا الهدف - إلى دراسة الإنسان جيداً لنفهم ونعي ما الذي يحييه، وإذا لم ندرس الإنسان جيداً لن نعي ما الذي يحييه، ولهذا أعتقد أنه كلما فهمنا الإنسان أكثر - في حاجاته الروحية والنفسية والاجتماعية في أسئلته وقلقه وفي تطلعاته وطموحه - استطعنا أن نعي رسالة الدين نفسه أكثر ونكتشف أبعاد الخطاب الديني أكثر.
واستطراداً لا بأس بالإشارة إلى أمرين:
الأول: أن تحقيق الهدف المنشود المشار إليه، وهو إحياء الإنسان، يتوقف على توفير بيئة ملائمة يتوفر فيها حدٌّ معقول من انتظام الحياة الإنسانية، ما يفرض العمل على إقرار نظام عادل يحفظ للإنسان كرامته، قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } []. إنّ إقامة مجتمع العدل الذي يتيح لكل أبناء الإنسان أن يعيشوا بحرية وكرامة هو الشرط اللازم لتحقق الهدف المذكور وهو إحياء الإنسان وسموه مادياً ومعنوياً، فردياً واجتماعياً.
الثاني: وصولاً إلى الهدف المذكور، تم إمداد الإنسان بالطاقات الداخلية والخارجية الكفيلة بنجاحه في مهمته، وجُعل هذا الكون مسخراً له وطوع بنانه، ولكن أريد له أن يقوم بدوره في عمارة الأرض، مبتعداً عن العدوان والفساد فيها، فالتسخير لا يعني أنه مطلق العنان ليعبث في النظام ويتلاعب بالنواميس ويهلك الحرث والنسل. وعلى هذا فمن الطبيعي أن يكون لانتظام الإنسان كامل الأثر على استقرار النظام الكوني برمته، وأن يكون انحرافه عن خط الخلافة سبباً ليس في هلاك الإنسان، بل وفي تدمير البيئة الطبيعية التي أريد لها أن تكون حاضنة لمشروع خلافة الله، وإن ما يفعله الإنسان في الكثير من دول العالم من هذا العبث في النواميس ومحاولات تغيير خلق أو من خلال الاستنزاف المجنون لمصادر الطبيعة بما يصادر حق الأجيال الآتية هو خروج فاضح عن هذا الهدف، وهو يهدد الكوكب برمته.
الدين ودوره المحوري في الحياة الإنسانية.
اين تقع أهمية الدين في الحياة الإنسانية و ما مدى تأثيره فيها؟
أعتقد أنّ دور الدين سيبقى دوراً محورياً وفاعلاً في الحياة الإنسانية بشتى أبعادها، كما كان أكبر فاعل ومحرِّك للتاريخ البشري برمته، ويمكن لنا الإشارة إلى أهم أبعاد الدين في الحياة ما يجعله حاجة للإنسان:
البعد المعرفي: إنّ الدين من خلال أطروحته حول المبدأ والمعاد، وما بينهما من تجربة إنسانية على الأرض، يقدم تصوراً مكتملاً ومعقولاً وقابلاً للحياة، وهو قد أقنع ولا يزال يقنع الشريحة الأوسع من بني الإنسان، وأهميّة هذا التصور أنّه يعطي للحياة تفسيراً منتظماً ومستجيباً لفطرة الإنسان، وهو يمدُّ المؤمن به بطاقة وحيوية كافية تمكنه من مواصلة رحلة الحياة بالكثير من الانتظام، ويخرجه من أسر العدمية واللامعنى. طبيعي أنّ هذا التصور قد اعترته الكثير من التحديات وواجهته الكثير من الإشكالات، ولذا فهو يحتاج إلى الكثير من التصويب أو التطوير في بعض الجوانب، ولا سيما بلحاظ ما بني منه على أفكار ونظريات فلسفية وكلامية اجتهادية قديمة وقد تجاوزتها حركة البحث العلمي والفلسفي.
البعد الروحي: إن واحداً من أهم الحقول الخصبة التي تشكل حاجة للدين ويمكنه أن يملأها هي المجال الروحي، واللافت أنّ النبوات قدّمت منظومة متكاملة يضمن الالتزام بها وصول الإنسان إلى السعادة الروحية والهداية المعنوية. الفطرة - أو الوجدان - لا تستطيع أن تشكّل الضمانة الكافية لهداية الإنسان ووصوله إلى مرحلة الكمال على المستوى المعنوي والروحي، لأنّ الفطرة قد تتلوّث، وهي بحاجة إلى من يسددها ويصقلها ويكتشف العناصر الطيبة فيها فينميها، وقد رأينا الإنسان في مسيرته التاريخية ومع امتلاكه للفطرة الصافية قد وقع ولا يزال في الأخطاء الكبيرة والانحرافات الخطيرة التي أبعدته عن خط الفطرة.
البعد الاجتماعي: أمّا فيما يتصل بالبعد الاجتماعي، فيمكن القول: إنّ الحياة الاجتماعية لا بدّ لها من قانون يحكمها، لأنّ الاجتماع مظنة التصادم التشاجر والتنازع، الأمر الذي يفرض الحاجة إلى القانون الذي ينظم هذه الحياة، ويمنع البغي والظلم ويعطي كل ذي حق حقه، ولا ريب أن الدين يستطيع الإسهام على هذا الصعيد من خلال الإسهام في تشريع أو إمضاء القوانين الناظمة لحركة الاجتماع البشري، والإيمان بأنّ القوانين تنتسب إلى الله تعالى يمنحها قوّة خاصة وزخماً كبيراً يساعد على تطبيقها، ويعطي المؤمن بالله دفعاً روحياً خاصاً يجعله يتحرّك لامتثالها، لأنّه في الحقيقة يعبد الله ويتقرّب إليه بامتثال هذه القوانين، كما أنّه يستحضر رقابة الله تعالى قبل رقابة الضابطة العدلية. ولو شكّك مشكك في أهميّة دور الأنبياء (ع) على صعيد سن القوانين، على اعتبار أنّ الأجدى في أمر القوانين هو أن تترك إلى العقل البشري واجتهاده الذي يراعي تغيّر الحياة، فلا أظنّ أحداً ينبغي أن يشكّك في أنّ القوانين أياً كان مصدرها تحتاج إلى ضمانات لتطبيقها ولا ريب أنّ استشعار الرقابة الإلهية يضخ في القانون بعداً روحياً كبيراً، ويدفع الإنسان المؤمن إلى الالتزام بالقوانين من موقع أنّه يعبد الله بذلك كما يعبده بالصلاة والصيام، فالحياة كلّها في شتى مواقعها وساحاتها في بيوتها وأسواقها هي معبد ومختبر لإرادة الإيمان، وأما لو كانت القوانين من وضع الإنسان نفسه فلن تمتلك القداسة نفسها التي تمتلكها القوانين والتعاليم والإرشادات التي جاء بها الأنبياء (ع)، استناداً إلى وحي الله تعالى، أو أمضوها وأقروها، ولا يشعر أنّه يتعبّد إلى الله تعالى بالتزامها.
ومن أهم الأبعاد التي يسهم الدين في تزويدها بالحيوية اللازمة هي البعد الأخلاقي، وهو ما نتطرق إليه في الإجابة لاحقاً.
إعادة الفهم الديني.
قيمة الدين بحاجة لقراءة متجددة و مقاربة موضوعية على ضوء معطيات الواقع بحسب نتاجات فعل التدين، كيف يمكن ضبط فعل التدين و تحرير حقيقة الدين و قيمته في الحياة؟
إنّ ثمّة مقولة تبريرية شائعة نرددها دوماً إزاء المفارقة التي تواجهنا حول غربة الإنسان المتدين عن تعاليم الدين الذي ينتسب إليه، والمقولة هي أنّ المشكلة لا تكمن في الفكر الديني نفسه بقدر ما تكمن في الإنسان الذي انحرف وابتعد عن رسالة الدين وتعاليمه، ولطالما سمعنا من يقول: المشكلة هي في المسلمين لا في الإسلام وفي المتدينين لا في الدين، وأنا لا أؤمن كثيراً بإطلاقية هذه المقولة، وأعتقد أنّ الفكر القوي لا بدّ أن يشقّ طريقه بنفسه إلى الحياة وأن تتلقفه العقول وترنو إليه القلوب كما ترنو الأرض العطشى إلى قطرات ماء المطر المنساب عليها. ولا سيما إذا تسنى لأصحابه أن يقدموه بخطاب جاذب وقالب جميل.
إن الواقع هو المختبر للأفكار والأطروحات، دينية كانت أو غير دينية، والذي يُقنع الإنسان ولا سيما في هذه الأيام، هو صدقيّة الأفكار وصوابيتها على أرض الواقع وقدرتها العملية على حلّ مشكلاته، وتحقيق رغباته وأمنياته، إنه يتطلع إلى التجارب الناجحة والنماذج العمليّة، أكثر مما يتطلع إلى الأفكار المثالية التجريدية.
هل يعني هذا أنّ المشكلة في الدين نفسه وأن علينا أن نعيد النظر في أصل التدين؟
الأمر ليس كذلك بتاتاً، والمشكلة ليست في أصل الدين، كيف والدين - كما أسلفنا - حاجة وجودية للإنسان، إذ لا يمكنه أن يعيش بدون إيمان وتدين، والمشكلة أيضاً لا تكمن في الإنسان نفسه، ولا يصحّ إطلاق القول بأنّ الإنسان هو المشكلة وهو العصيّ على التدين، وأنه بسوء اختياره يأبى التدين.. هلا فتشنا عن سرّ هذا الانحراف ودوافعه؟ هلا تساءلنا عما يدفع كثيراً من الشباب المسلم أو غيره إلى حضن الإلحاد واللادينية! هل صحيح أنّ الدافع هو أنهم لا يشعرون بالحاجة إلى الإيمان والتدين؟ أم أنّ السبب وراء ذلك هو في السلوكيات الخاطئة والمخيفة للكثير من المتدينين وفي الصورة التي نقدمها لهم بصفتها صورة حقيقية ونهائية وناجزة عن الدين، والحال أنها صورة اجتهادية ويعتريها الكثير من الشوائب والعيوب! إنّ علينا - وقبل أن نرمي هذا الجيل بأنه عصيٌّ على التدين - أن نجدد فهمنا للدين وأن نعيد النظر في وظيفته ورسالته، ونسمح بنقد القراءة المهيمنة والسائدة لنصوصه، والتي نتج عنها هذا الطرح الديني الذي أقل ما يقال عنه أنه لم يعدْ جذاباً للكثيرين من المتدينين فضلاً عن غيرهم، ونتج عن ذلك كله أيضاً هذه النسخة من التدين التكفيري الإقصائي.
إنّ حالات الارتداد عن الدين وحالات القلق المعرفي والروحي التي تجتاح الكثير من المسلمين وغيرهم، والأسئلة المكبوتة لدى البعض، أو التي يجاهر البعض الآخر بطرحها إلى حدّ إعلانهم صراحة عن عدم قناعتهم بالكثير من الأحكام الشرعية أو المفاهيم والتصورات الدينية، إن ذلك يفرض على أعلام الدين من المفكرين والفقهاء:
أولاً: أن يعيدوا النظر في تشخيصهم لدور الدين في الحياة ويعيدوا النظر في تصوراتهم القديمة عن دور الدين، ومن الضروري أنْ نؤكد على ضرورة إعادة فهم وظيفة الدين على ضوء فهمنا لحاجات الإنسان، كما أسلفنا في إجابة سابقة، ومن هنا كان لزاماً عليهم أن يبحثوا عما ينتظره ويترقبه الإنسان من الدين، وبالمناسبة فالإنسان لا يتطلب من الدين الشيء الكثير إنه يطلب منه الجواب المقنع على أسئلته وقلقه. وإنّي أعتقد أنّ أهم وأغلى ما يمكن أن يقدمه أهل الدين في هذه المرحلة المعقدة من تاريخنا والتي اتسم فيها الوعي الإنساني بنضج كبير وغير مسبوق، والتي غدا الإنسان فيها يتطلع إلى حياة آمنة سهلة وبعيدة عن الإرهاق والمعاناة، هو إعطاء تصور عقلاني عن الدين يجعله أكثر تقبلاً وأقل إرباكا للحياة، بالإضافة إلى تقديم الدين بوصفه الملاذ الآمن للإنسان فكرياً وروحياً واجتماعياً، بحيث يحتضن طموحات البشر ويخفف من معاناتهم ويمنح الحياة حيوية خاصة، لا يبدو معها - أي الدين - وكأنه يعرقل حركة الحياة وانسيابيتها.
وثانياً: أن يعملوا جاهدين على تحرير الدين نفسه من أسر القراءات المتزمتة والحرفيّة والتي حولته إلى طقوس جوفاء لا روح فيها، وعلينا - فيما نأمله من الدين في بناء الإنسان - أن نكون واقعيين، فالدين في حدِّ ذاته وبعيداً عن وعي الإنسان وإرادته لا يجترح المعجزات على هذا الصعيد. الدين يقدم لنا المصباح الذي علينا أن نشعله ونسير على ضوئه في ظلمات الحياة، ولكنّ الذي يحمل هذا المصباح ويتعامل معه ويعي كيف يحركّه هو الإنسان لا غيره، فالإنسان هو الذي يفترض به أن يصنع المعجزة في السعي نحو إشباع ظمأه الروحي من معين الدين، وفي إرساء سلمه الاجتماعي واستقراره الاقتصادي وأمنه الأخلاقي على ضوء تعاليم الدين، ويؤسفنا القول: إنّ بعض أتباع الدين الإسلامي ربما يخطئون في وعي حقيقته وفهم مقاصده وتمثل قيمه، فيتلقف هذه الحقيقة وتلك القيم أناس آخرون، {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام - 89].
الأخلاق جوهر الدين
يتميز مفهوم الدين بالسعة و العمق و المركزية في حياة الإنسان العامة و الخاصة، كيف يمكننا استيعاب ماهية الأخلاق في ظل هيمنة قيمة الدين و أي علاقة يمكن تصورها بين الدين و الأخلاق؟ا
الذي أعتقده أنّ الأخلاق هي جوهر الدين وروحه ولا حاجة لدين لا تكون الأخلاق هي ركيزته ومرجعيته الحاكمة، والسبب في ذلك: أنّ مشكلات البشر في عمقها كانت ولا تزال مشكلة أخلاق، وإنّ نظرة بسيطة إلى الأزمات الإنسانية المتنوعة، السياسية والاقتصادية، والاجتماعية كافية لكي ندرك أنّها - في العمق - تنطلق من ضعف الوازع الأخلاقي وربما انعدام القيم، فالوحشية غير المسبوقة التي نشهدها في أيامنا والتي تدفع الإنسان لافتراس أخيه الإنسان دون أن يرفّ له جفن هي تعبير عن هذه الأزمة الأخلاقية، وكذلك التهتك الذي وصل إلى حد الفجور وشرعنة الشذوذ الجنسي يعبّر هو الآخر عن أزمة أخلاق، وكذلك هو الحال في الأزمة الاقتصادية المتمثلة بكل هذا الجشع والطمع والإثراء غير المشروع هو في جوهره تعبير عن انعدام المشاعر لدى الإنسان.. وهذه الأزمات الأخلاقية آخذة بالتصاعد من زمن لآخر. ومن هنا ولأهميّة الأخلاق، ولأنّها تمثّل الحجر الأساس في بناء الحياة الإنسانية، كان جوهر كل الرسالات السماوية في بعدها الاجتماعي والإنساني هو الأخلاق، ولم يكن عبثاً أنّ الرسول الأكرم (ص) يختصر هدف بعثته ونبوته بالقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقد رأى الإسلام أنّ المشكلة الأخلاقية هذه لا حلّ لها إلاّ بمنهج متكامل يرتكز على قاعدة أساسية، وهي قاعدة الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بالله هو الركيزة والمرجعية التي ستضفي على الأخلاق فاعليتها، وذلك من خلال هذا البعد الرباني الذي تضفيه عليها، حيث تغدو ممارسة الأخلاق عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، وفي عقيدتنا فإنّه لن يتسنى لأي منظومة أخلاقية أن تمنح الإنسان الاستقرار التام والشامل إلاّ بالارتكاز على هذه القاعدة، ولذا تكون عودة الإنسان إلى الله تعالى شرطاً ضرورياً لاستقراره الاجتماعي والنفسي والروحي .. والعلاقة السويّة بالله تعالى هي التي ستمنح هذا الإنسان الذي يعيش القلق والتوتر والتشرذم .. سلاماً داخلياً وسلاماً اجتماعياً.
وإذا كان المتعارف تقسيم المعارف الإسلامية إلى ثلاثة أنواع، وهي: العقيدة والأخلاق والفقه، فهذا لا ينبغي أن يفهم منه أنّ الأخلاق هي صنف مغاير للعقيدة والشريعة، كلا، فالمنظومة الاعتقادية ترمي - في بعدٍ أساسي من أبعادها - إلى تزكية النفس وإصلاحها، فالإيمان بالله لا بدّ أن ينعكس على سلوكنا العملي، ومن هنا ورد في الأحاديث الشريفة هذا الربط بين الإيمان والأخلاق، لاحظ على سبيل المثال الأحاديث التالية: "لا إيمان لمن لا حياء له"[1]، أو "لا إيمان لمن لا أمانة له"[2]، أو "لا يؤمن بالله واليوم الآخر من لا يأمن جاره بؤائقه"[3]، وورد أيضاً: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع"[4]، إلى غير ذلك من أمثال هذه التعبيرات الرائعة التي تعبّر عن دور الإيمان في ضبط الأخلاق والسلوك.
والإيمان بمحكمة العدل الإلهي يوم القيامة لا بدّ أن ينعكس - هو الآخر - على أخلاق الفرد المؤمن وتعامله مع الآخرين ، بما يساهم في تشكيل محكمة داخلية لديه تمارس دور الرقابة والتنبيه والتوجيه بما يسهل عليه الوقوف في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة.
وكذلك الإيمان بالنبي الأكرم(ص)، فإنّه ليس مجرد عقيدة تجريدية لا تمتّ إلى حياة الإنسان بصلة، كلا، فمحمد (ص) ليس مجرد "طوباوي" ندّخره ليوم الخلاص الأخروي ليكون شفيعنا ومخلصنا، بل هو قبل ذلك مثل أعلى للإنسانية جمعاء لا بدّ أن نتمثله في أخلاقه وهديه ونجسّد ذلك كله في حياتنا وسلوكنا.
باختصار: إنّ الربانية هي أهم ميزة في الأخلاق الإسلامية، فالأخلاق لا يمكن فصلها عن الإيمان، والإيمان لا صدقية له بدون أخلاق، إنّ بينهما رابطاً وثيقاً، ولا إيمان لمن لا أخلاق له، وقد ورد في الحديث عنه (ص): "الدين النصيحة"[5].
وفي ضوء ما تقدم يكون لزاماً علينا أن ننبّه إلى أنه قد حصل انحراف وابتعاد عن هذا البعد الجوهري للدين، وهو البعد الأخلاقي، ما انعكس على حياة المسلمين فضلاً عن غيرهم، فسادت بينهم سلوكيات مملؤة بالتدابر والتنافر والتناحر وتقدمت "قيم" النفعية والأنانيات على قيم التضحية والنصيحة والإخاء.
وقد نتج عن الانحراف المذكور أمران في غاية الخطورة: أحدهما: التفكيك بين الإيمان والأخلاق، بحيث أصبحت تجد شخصيات متدينة، ولكنها لا تتورع عن ممارسة أبشع الجرائم الأخلاقية. وثانيهما: تمدد وتوسّع البعد الفقهي للدين على حساب البعد الإيماني الروحي والأخلاقيّ التربوي، إلى حد أنّنا لا نبالغ بالقول: إنّ البعد الفقهي قد صادر كل الأبعاد الأخرى، وأصبحت الشخصيّة المسلمة شخصيّة يسيطر عليها الأداء الفقهي الذي أخذ - نتيجة الجمود الذي العقل الفقهي - مساراً طقوسياً جامداً ومعطلاً لحركة الحياة في كثير من الأحيان.
تكامل الدين مع الثقافة.
بالنظر للدين و للثقافة في واقع الحياة الإنسانية المعاصرة نلاحظ أشكال من التزاحم و التداخل و الجدل بين كلا الحقلين و على مدى عدة مسطرات معرفية ، أي علاقة بينهما و ما مدى التباين بينهما و أين يتحدد التداخل الوظيفي لهما في التأثير على مستقبل الحياة الإنسانية؟
لا أرى من الصحة في شيء جعل الثقافة مضادة للدين، ولا يفترض بالفكر الديني أن يكون نقيضاً للفكر الثقافي بشتى تنوعاته وتلاوينه، أجل، قد تنشأ الإشكالية الجدلية في مقارنة الثقافة بالدين عندما ننظر إلى الدين بلحاظ مصدره الغيبي المعصوم عن الخطأ، فالدين بهذا الاعتبار هو مقدس ومطلق وليس عرضة للخطأ وبالتالي فعلى الجميع أن يتكيفوا معه، بينما الثقافة هي حصيلة فكر ونشاط إنساني، فهي نسبية ومتحركة وعرضة للتغير. لكنْ لا أرى أن هذا يفترض أن يشكل مانعاً من تكامل الديني مع الثقافي، وذلك لأنّنا في هذه المرحلة لسنا في زمن الأنبياء (ع) الذين ينزل عليهم الوحي وتكون قراءتهم للوحي مقدسة وغير محتملة للخطأ، وإنما نحن في زمن الاجتهاد، وفي زمننا هذا لو أننا نظرنا إلى الدين من خلال تمثله في الذهن البشري، فهو ليس معصوماً عن الخطأ، وإنما هو حصيلة اجتهاد في فهم النص، وعليه سيكون الاجتهاد الديني نشاطاً بشرياً وعرضة للخطأ، وليس مطلقاً ولا متعالياً على النقد، ومن هذه الجهة يتساوى الاجتهاد الديني مع أي نشاط ثقافي آخر أكان نشاطاً فلسفياً أو أدبياً أو علمياً.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإنّ الثقافة إذا نظرنا إليها باعتبارها حركة وعي ونشاط فكري هادف، فإنّها بذلك تتجاوز مرحلة عدم المصادمة مع الدين، لتكون مؤازرة له ومنسجمة إلى حد كبير مع أهم أهدافه وتعاليمه، فمن أهداف الدين التي تلتقي بالثقافة ورسالتها في الحياة السعيُ إلى رفع مستوى الإنسان ثقافياً ومعرفياً، وغير خافٍ أنّ النص القرآني يؤكد صراحة على أهمية العلم وضرورة التفكر والتعقل، وينعى الجهل والأمية والتقليد الأعمى للآباء والأجداد، إنّ القرآن الكريم من خلال نصوصه الداعية إلى التفكر والتدبر في الكتابين التكويني والتدويني يريد بناء الإنسان المثقف لا المقلد ولا الجاهل.
وأعتقد أن كل مسارات الثقافة إذا كانت هادفة وليست عابثة فإنها تقدم خدمات جليلة للدين، وتساهم في رفع مستوى الوعي الديني. ولو أننا أخذنا الثقافة العلمية وما يمكن أن تقدمه للدين من خدمات كمثال، فسوف تتضح الصورة جيداً. إنّ بإمكان الجهود والاكتشافات العلمية أن تقدّم الكثير للمعارف الدينية، سواء ما يتّصل منها بالحقل التشريعي أو العقائدي، فعلى المستوى التشريعي، تقوم البحوث العلمية بدورٍ مهمٍّ في تحديد موضوعات الأحكام الشرعيّة، كتحديد مفهوم وحقيقة الموت الدماغي أو ولادة الهلال، إلى غير ذلك من الموضوعات التي يستطيع التطور العلمي أن يساعد على إيضاح الصورة فيها وأمّا على المستوى الاعتقادي، فإنّ بالإمكان الاستفادة من المعطيات العلميّة على أكثر من صعيدٍ:
الصعيد الأوّل الذي يمكن الإشارة إليه في المقام: هو دور العلم والاكتشافات العلميّة في إثبات أو تعزيز وتأكيد المفاهيم العقدية أو مقدماتها، ونذكر في هذا المجال مثالاً وهو أنّ برهان النَظْم يمثّل أحد أهمّ البراهين على إثبات وجود الله ووحدانيّته، ويتألّف هذا البرهان من مقدمتين: إحداهما حسيّة، وهي: أنّ هذا الكون يقوم على نظام متكامل ومترابط، والثانية عقليّة، ومفادها: أنّ النّظم يدلّ على وجود المنظّم، كما أنّ وحدة النظم تدلُّ على وحدانيّة المنظم، ومن الواضح أنّ المنجزات والمعطيات العلمية المستجدّة، تعزّز وتؤيّد هذا البرهان في مقدّمته الأولى، ما يجعله برهاناً حيوياً متجدداً، يستلهم روح العصر بالأرقام والشواهد العلميّة الحديثة، بدل أن يعتمد على شواهد عفا عليها الزّمان.
الصعيد الثاني: إنّ حركة التطوّر العلمي قد أسهمت في تفسير المفاهيم الدينية، وما تضمّنته النصوص القرآنية من إشاراتٍ بديعة إلى بعض القوانين أو المنجزات العلميّة، ومآل هذا الإسهام التفسيري، هو تعزيز مكانة الدين وموقعية القرآن في النفوس، وتوضيح ذلك: أنّ بعض التفسيرات التي كانت تقدّم لهذه الآيات غير مقنعة، لكن تطوّر العلوم وتقدّمها استطاع تقديم تفسيرات مقبولة، وهذا الأمر لا يعني أنّ القرآن كتاب في علوم الطبيعية، لأنّ ما ورد في القرآن هو مجرّد إشارات جاءت في سياق بيان الأهداف القرآنية الرسالية، والأمثلة على ذلك كثيرة، من قبيل: الإشارة إلى بصمة البنان في قوله تعالى: }بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4]، أو الإشارة إلى قانون انخفاض الضغط الجويّ في طبقات الجوّ في قوله تعالى: }وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ{ [الأنعام:125]..
وما يمكن أن تقدمه الثقافة العلميّة من خدمات للدين وللثقافة الدينية، يمكن للثقافة الفلسفية أيضاً أن تقدم نظيره، فهي تمدّ المتدين بقدرة على التفكير وتمدّ المفاهيم الدينية بقوة برهانية وهو ما يساعد المتدينين على عقلنة أفكارهم والابتعاد عن المعتقدات الخرافية، وهذا يخدم رسالة الدين، لأنّ الدين - كما العلم – يرفض الخرافة، وهو أيضاً يريد لمفاهيمه أن تقنع الإنسان، ولا يريد فرضها عليه، إذ { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } [].
وبدوره، فإنّ الدين يقدم خدمات جليلة للثقافة بكل مساراتها، لأنّه من خلال تصوره المتماسك عن الحياة ورؤيته حول العالم يقدم إجابة معقولة ومحكمة على سؤال المبدأ والمعاد، سؤال الوجود والنشأة وما بعد الموت، وهذا ما يجعل الثقافة تتحرك في نطاق هادف ويخرجها عن مسارات العبثية والعدمية والتشاؤمية.. وهو أيضاً يؤكد من خلال تعاليمه على ضرورة مراعاة الهدفية في كل نشاط أكان نشاطاً فكرياً أو عملياً، فهو يعطي الثقافة معنى إنسانياً مسؤولاً، وينأى بها عن الأفكار الهدامة والضارة، والتي قد تكون منشأً لشقاء الإنسان.
التعددية الدينية.. أمر واقع.
في ظل اختلاف الوعي لماهية الدين تتولد التعددية الدينية، و بحد ذاتها و إضافة لجدليتها شكلت التعددية الدينية إشكالات و مشكلات في مشاريع الاستقرار لدى العديد من المجتمعات، لماذا لا يزال حوار الأديان شائكا و هل التعددية الدينية منشأ الصراعات و الأزمات في المجتمعات المعاصرة؟
أولاً: إنّ حوار الأديان لا يزال متعثراً لأكثر من سبب:
من ذلك: أن المؤسسات التي تعنى بالحوار وترعاه - وبسبب انبثاقها عن الأنظمة السياسية التي تحكمها المصالح الضيقة - تقود حوارات في معظمها حوارات نخبوية لم تنزل من البروج العاجية إلى القاعدة لتلامس همومها وتعلمها ثقافة التسامح، وهي أيضاً وللسبب عينه غير جادة في مساعيها وتنحو إلى اعتماد أسلوب تطغى عليه المجاملة والمداهنة والتعمية على الأمور، ولا تدرس مشكلة العدائية بين الأديان في العمق لتتعرف على أسبابها وتعمل على تفكيكها، وهذا ما يفقد الحوار المذكور فاعليته وتأثيره.
ومن الأسباب أيضاً: أنّ حركة النظام السياسي المهيمن في العالم، لا تساعد على طيِّ صفحة الماضي الأليم، الأمر الذي يجعل الذاكرة تستحضر – باستمرار - الإرث التاريخي الثقيل والمؤلم من الصراعات الدموية بين أتباع الأديان، وهو بالمناسبة إرثٌ ملؤه المجازر التي لم تتم - إلى الآن - عملية الاعتراف بها وإدانتها والاعتذار منها، ولذا لا يزال يُفتح بين الفينة والأخرى، ما قد يُشعر السواد الأعظم من أتباع الأديان أنّ تهديد الآخر لا يزال قائماً وأنّ الجرح لا يزال مفتوحاً، وأنّ التعايش مع الآخر غير ممكن، وتغذي هذا الشعور السياسات الظالمة والممارسات العدوانية التي لم تتوقف يوماً من الأيام بحق شعوب منطقتنا العربية والإسلامية، ومنها الشعب الفلسطيني على سبيل المثال، وهذا ما يسمحُ للكثيرين أن يقرؤوا ذلك على أنه استمرار للحروب الصليبية مثلاً، وهذا بطبيعة الحال صبّ في خدمة الاتجاه السلفي الرافض لفكرة الحوار مع الآخر من أصلها، وولّد شعوراً لدى الكثير من المسلمين بأن الحوار مع الآخر هو حوار الضعيف مع القوي. وفي المقابل، فإنّ المناخ الذي ساد في الغرب ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول من العام 2011م في أمريكا وما نتج عنها من تعزيز وترسيخ وتعميق خطاب الكراهية وتعزيز الخوف من الإسلام، (الاسلموفوبيا)، قد ولّد انطباعاً راسخاً لدى الغربيين أنّ الإسلام هو خطر على نمط حياتهم، بل وعلى وجودهم.
ثانياً: إنّ النظرة المنطقيّة إلى الأمور تقول لنا: إنّ التعددية الدينية هي أمر واقع، اعترفنا بها أم أنكرناها، بل إنّ إنكارها أو تجاهلها لن يقدم شيئاً ولن يساعد في حلّ المشاكل التي تنشب بين أتباع الديانات، وعلينا من موقع إيماننا بالدين ورسالته الملهمة، ومن موقع حرصنا على أتباع الديانات خاصة وعلى استقرار الحياة الإنسانية عامة، أنْ نسعى لتكون التعددية مصدر غنى للدين وللإنسان، بدل أن تكون مصدر دمار وسبباً للصراعات والحروب المدمرة، بما يسيء للدين ويشوه صورته، وهذا ما يفرض علينا أن نجد قواسم مشتركة مع الآخر الديني، وأن ننطلق من "كلمة سواء" في إدارة عملية الحوار معه فيما نختلف فيه. إنّ عملية الحوار مع الآخر تعبّر عن رؤية خاصة في كيفية إدارة الاختلاف معه، وتنطلق من منهج خاص ينظم العلاقة معه، ومن المفترض أن يبعدنا الأخذ بهذا المنهج عن الحروب الدينية الإلغائية للآخر، وأن يحدث ذلك تطوراً في مقاربة العقل الكلامي واللاهوتي لقضايا الاختلاف مع الآخر، وفي نظرته إليه، ومع الأسف فإنّ النظرة الكلامية واللاهوتية إلى الآخر لا تزال قائمة على مبدأ الضدية والندية، ما يجعل الخطاب الكلامي - اللاهوتي أسير هذه النظرة، فهو يتحرك على قاعدة تسجيل النقاط على الآخر وبيان مثالبه، بدل التفتيش عن عناصر اللقاء معه واكتشاف نقاط الضوء لديه.
غياب قيمة التواصل بين الأديان.
هناك عدة شعارات و مشاريع حوارية تهدف لتفعيل الانفتاح بين أطراف التعدد الدياناتي بينما الواقع لا يكاد يتعافى من جراحات بإسم الأديان حتى يتعرض لأخرى، هل السبب يعود لعدم دراسة الظواهر الدينية بحيادية و بهدف فهم الدين أم ماذا؟
عطفاً على ما جاء في الإجابة السابقة أقول: إنّ مشكلة الأديان هي في الخطاب اللاهوتي من جهة، والخطاب الفقهي من جهة أخرى، أما الخطاب اللاهوتي والكلامي لكل جماعة دينية فمشكلته أنه يقوم على زعم احتكار الحقيقة المطلقة لأتباعه، ونفيه أن يكون لدى الآخر شيء منها، وبذلك قدم تصوراً مظلماً عن الآخر، فكفره وأقصاه وأخرجه من رحمة الله تعالى، ولم يجد له عذراً، ثم جاء الخطاب الفقهي ليعزز تلك الصورة النمطية عن الآخر، فأفتى بأن الآخر نجس، وأنه كالكلب والخنزير، ودعا إلى احتقاره، فنهى عن مصادقته ودعا إلى التضييق عليه، وسوّغ إهانته، حتى اشتهرت في بعض كتب الفقه عبارة " المسلم يكرم والذمي يهان".
وهذا الخطابُ لم يجنِ على الأديان فحسب، ولم تنحصر ضحاياه في الآخر الديني، بل إنه جنى على أصحابه أنفسهم حيث أسهم في إنتاج شخصيات دينية متعصبة، تربّت على خطابٍ غَرَسَ فيها روح الاستكبار والاستعلاء على الآخر باسم الدين، وغدت الشخصية "المتدينة" شخصية يتملكها الغرور، والغرور الديني من أخطر أنواع الغرور، لأنّ المغتر بدنياه كثيراً ما توقظه المواعظ، وأما المغتر بدينه فلا تنفعه المواعظ، ولا يتقبلها، وكيف يتقبلها وهو يرى نفسه في موقع الواعظ لا المتعظ، بل ربما تذمر بالنصيحة، على حد قول الله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } [البقرة 206 ]، إنه يخيل إلى نفسه أنه يمتلك الحقيقة من ناصيتها، والحال أنه يعيش في وهم كبير، وربما كان مصداقاً لقوله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف 103 - 104]، وقد ورد في بعض الأخبار أنّ أحد الخوارج سأل علياً (ع) من هم أهل هذه الآية؟ فقال: أنتم يا أهل حروراء (وهم الخوارج).
هكذا أصبحت الشخصيّة المتدينة تعاني نوعاً من التشوّه ومن اختلال الموازين، فهي تراعي حدود الله في أمور تفصيلية في الصلاة والوضوء إلى حدّ الوسوسة، لكنها لا تعيش قلقا إزاء حقوق الآخر ولا يجتاحها شيء من الوساوس إزاء حماية الإنسان وحفظ حقوقه. وهذا ما يذكرنا بما قاله بعض الصحابة لرجل من أهل الكوفة، وقد سأله عن المحرم يقتل ذباباً أو بعوضاً: تسألون عن كفارة دم البعوض وقد قتلتم ابن بنت رسول الله (ص)!
التجديد من أين يبدأ؟
هناك جدلية مفهوم الدين و اشكاليات التجديد الديني ، أين المنهج في ترتيب الوعي الديني بما يؤسس لحياة إنسانية راشدة؟
إنّ مسألة التجديد هي من أهم المسائل الملحة على العقل الديني ولا سيما العقل الفقهي، ولا يمكن الحديث عن التجديد في الدين بعيداً عن التجديد في المنهج. وإن واقع الحال ينبئنا أنّ المنهج التقليدي الذي لا يزال متحكماً في عقول شريحة واسعة من علماء الدين ودعاته لا يزال يمتلك قدرة على الاستقطاب والتأثير لدى جمهور واسع من أبناء الأمة، وأتباع هذا المنهج يرفضون إلى الآن إعادة النظر في الكثير من الأفكار والمفاهيم الدينية القديمة التي كانت تُقدِّم تصورات خاصة عن الوجود وعن الكون وعن بداية الحياة، مع أنها اليوم تبدو غير منسجمة مع أبسط النظريات العلميّة، ما يشعر المسلم بأن بعض أفكاره هي في صدام مع حركة العلم. هذا على الصعيد الكلامي، وأما على الصعيد الفقهي فلا يزال المنهج السائد لدى غالب المدارس الفقهية يرفض التجديد في المنهج الأصولي الموروث، ويرفض التمييز بين الثابت والمتغير، ويرفض الإفادة من مقاصد الدين واعتمادها كمرجعية حاكمة في عمليات الاستنباط الفقهي.
ولهذا كله نعتقد أنّ عملية التجديد لا بدّ أن تبدأ من المنهج، وإلا فإنّ جهود المجددين ستذهب أدراج الرياح، وسنبقى ندور في حلقة مفرغة. وفي إطار التجديد في المنهج نشير إلى منعطف أساسي لا بدّ أن ينطلق مسار التجديد منه، وهو ضرورة إعادة إجراء فرز للتراث الديني الفقهي، لتحديد ما هو ثابت منه وما هو متغير، وبعبارة أخرى: ما يدخل منه في نطاق التدبيرات، وما يدخل في نطاق التشريعات الثابتة. وكذلك بغية تحديد ما يدخل منه في نطاق التجربة البشرية للأنبياء (ع) وما يدخل في نطاق الوحي الإلهي. فإنّ للنبي (ص) - باعتقادنا - أكثر من بُعدٍ في شخصيته، ولا تنحصر تصرفاته في نطاق التشريع المحكوم بالإطلاق العابر للزمان والمكان، بل هناك الكثير الكثير مما يدخل في نطاق التدبيرات أو التجربة البشرية، من قبيل النصوص الواردة في موضوع الدواء والعلاج وما إلى ذلك، فإنّ هذه النصوص الواردة عن النبي (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) على فرض صحتها - والكثير منها ليس صحيحاً - قد تعكس تجربة بشرية محددة بإطار الزمان والمكان الخاص الذي عاش فيه النبي (ص)، وهو (ص) في هذا المجال ليس مشرعاً ولا مانع من أن يتكلم على ضوء التجربة البشرية وما وصلت إليه في تلك المرحلة، وهذا أمر قد حققناه بشكل مفصل في بعض كتبنا، ورسمنا حدودًا فاصلة وواضحة بين الشخصيّة التشريعية للنبي وبين الشخصية التدبيرية وما يصدر عنها، وكذلك رسمنا حدوداً فاصلة بين الشخصية الوحيانية للنبي (ص) والشخصية البشرية والخبروية وما يصدر عنها من تعليمات.
[2] انظر: عيون الحكم والمواعظ ص77.
[3] مشكاة الأنوار للطبرسي ص373.
[5] دعائم الإسلام ج2 ص47.