حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> عقائدية
مصير الأطفال يوم القيامة (2)
الشيخ حسين الخشن



 

في الحلقة السابقة، تطرقنا إلى المصير الأخروي لأطفال غير المسلمين، وقلنا إن للعلماء في ذلك أربعة آراء، وفيما يلي ندرس هذه الآراء ونبين الصحيح منها.

 

مذهب التوقف:

 

أمّا القول الرابع: وهو القول بالتوقف في شأنهم، وإرجاء أمرهم إلى الله، فيشهد له بعض الروايات، لعل أوضحها دلالة: صحيحة زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله(ع) ما تقول في الأطفال الذين ماتوا قبل أن يبلغوا؟ فقال: سئل عنهم رسول الله(ص) فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم  أقبل عليّ فقال: يا زرارة: هل تدري ما عنى بذلك رسول الله(ص)؟ قلت: لا، فقال: إنما عنى: كُفُّوا عنهم، ولا تقولوا فيهم شيئاً، وردُّوا علمهم إلى الله"(الكافي3/249، الحديث 4).

 

ونلاحظ على هذا القول: أنه وفي ظل وجود نصوص معارضة لمفاد هذه الرواية ـ كما سنلاحظ ـ يبعد حصول الوثوق بها، مع أنّ ثمة ملاحظة هامة يمكن أن نسجلها على مضمونها، وحاصلها: أن قوله(ص): "الله أعلم بما كانوا عاملين"، يوحي بأن الله يحاسبهم على ما كانوا سيعملون لو بقوا أحياءً، فإن كانوا عاملين خيراً فهم إلى خير، وإن كانوا عاملين شراً فهم إلى النار. وهذا المضمون يصعب الالتزام به، لأن العقاب إنما يكون على ما فعله الإنسان وما صدر عنه من أعمال قبيحة، أما العقاب على أساس ما يمكن أن يفعله  لو بقي حياً في مستقبل الأيام، فهذا لا مبرر له في منطق العقل وشريعة العقلاء.

 

قول جماعة الحشوية:

 

أما القول الثالث الذي تبنَّاه جماعة من الحشوية، والقاضي بأنَّ أطفال الكفَّار يُحشرون مع آبائهم في النار، فهو قول مرفوض رفضاً مطلقاً، رغم وجود بعض النصوص المؤيّدة له، كما في الحديث  الذي أرسله الكليني قائلاً: "وفي حديث آخر: أما أطفال المؤمنين فيلحقون بآبائهم، وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم، وهو قول الله عزّ وجلّ: { والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم}"(الكافي3/249).

 

 والوجه في رفض هذا القول:  وضوح منافاته لعدالة الله سبحانه في تعذيب غير المكلفين من الناس، فما ذنب هذا الطفل المتولد من كافرين حتى يُعذّب قبل أن تقام عليه الحجة، أو يعاقب على ذنوب والديه؟ وهل يمتلك هذا الطفل ـ سواء كان متولداً من كافرين أو مؤمنين ـ أن يحدد عقيدة والديه، لتصح مؤاخذة هذا على كفر والديه، وإثابة الآخر على إيمانهما؟!

 

 وأما الحديث المذكور، فإنه لو كان صحيحاً لما أمكن الاعتماد عليه، فكيف وهو ضعيف بالإرسال، ومثله في الضعف خبر وهب بن وهب عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال علي(ع): "أولاد المشركين مع آبائهم في النار، وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة" (من لا يحضره الفقيه:3/491)، فإن وهب، الرّاوي للحديث، هو أكذب أهل البرية كما ذكر بعض علماء الرجال. ولا يخفِّف من بشاعة هذا القول: دعوى أنّ الله إنما يعاقب الطفل إيلاماً وايذاءً لوالديه الكافريْن، فهذا أشدّ شناعةً من سابقه، ومخالف لمنطق العقل، ولنص القرآن الكريم في أنه {ولا تزر وازرة وزر أخرى}(الإسراء:15).

 

وربما استدل الحشوية لمذهبهم المشار إليه بقوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}(نوح:26-27)، بتقريب: أن الكافر حيث إنه لا يلد إلاّ كافراً فاجراً، فمن الطبيعي أن يكون مصير الكافر النار.

 

ولكن يلاحظ على ذلك، أن نوحاً(ع) فيما حكته الآية عنه، لا يريد القول إن ابن الكافر لا بدّ أن يكون كافراً، فهذا يكذِّبه الواقع، فما أكثر الأشخاص الذين اختاروا الإيمان وحسن إسلامهم مع أن آبائهم كفرة وماتوا على الكفر! وهكذا وبطريق أولى، فإن الآية لا تريد القول إن أطفال الكافر هم كفرة فجرة، وإنهم يعاقبون عقاب الكافر، وإنما المقصود ـ والله العالم ـ الإشارة إلى حقيقة اجتماعية وهي أن الإنسان ابن مجتمعه، يتربى على عاداته وتقاليده ويتشرب أفكاره وعقائده، فمجتمع الكفر مهيّأ ليكون أبناؤه كفرة، ومجتمع الإيمان مهيأ ليكون أبناؤه مؤمنين، وإن مجتمع النبي نوح(ع) قد بلغ بهم التمرد على الله ورسله حداً ينعكس بطبيعة الحال على ذريتهم وأبنائهم، فيكون الأبناء على دين الآباء كما هي طبيعة الأمور.

 

وربما يقال: إن الله سبحانه إنما أدخل أطفال الكافرين النار، لأنه علم من حالهم أنهم لو عاشوا أبداً لكانوا مُصرين على المعصية، بينما أدخل أطفال المؤمنين الجنة، لأنه علم من حالهم أنهم لو عاشوا أبداً لأطاعوه أبداً.

 

وجوابه: إن هذا الكلام يفترض أن أطفال الكفار سيكونون كفرةً حتماً، وإن أطفال المؤمنين هم مؤمنون دوماً، وهذا مخالف لواقع الأمر، كما ذكرنا؛ فإن بعض أبناء الكفرة يعتنقون الإيمان، كما أن بعض أبناء المؤمنين يختارون الكفر على الإيمان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن العقاب إنّما يكون على ما فعله الإنسان لا على ما سيفعله في المستقبل لو امتدَّ به العمر. أجل، إنّ ما ذكر إنما يصلح تفسيراً لخلود أهل النار من الكفّار فيها، وخلود أهل الجنة من المؤمنين فيها، فإنَّ الخلود في الجنة أو النار يتمّ تبريره ـ عادةً ـ على أساس النوايا، إلاّ أن هؤلاء هم من المكلفَّين الذين انخرطوا عملياً في الكفر أو الإيمان، وظهر منهم التمرد والعصيان، بخلاف الأطفال الذين توفاهم الله قبل سن التكليف، وقبل أن يختاروا الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة.

 

تكليف الأطفال في القيامة:

 

والقول الجدير بأن نتوقف عنده هو القول الثاني الذي تبناه بعض المحدثين، ومفاده: إن الله سبحانه يأمر بتأجيج نار عظيمة ثم يأمر الأطفال بالدخول فيها، فمن استجاب ودخل أنجاه الله من الاحتراق، ثم أدخل الجنة، وأمّا من لم يلق بنفسه فيها فيعتبر عاصياً ويدخله الله النار، وقد وردت بهذا الرأي عدة روايات: منها: صحيحة هشام عن أبي عبد الله(ع): ثلاثة يحتجَّ عليهم: الأبكم، والطفل، ومن مات في الفترة، فترفع لهم نار فيقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى قال تبارك وتعالى: هذا قد أمرتكم فعصيتموني"(الكافي3/249). ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر(ع) (بحار الأنوار:5/290) إلى غير ذلك من الروايات.

 

إلا إنّ بالإمكان أن نسجَّل على هذا الرأي عدة ملاحظات:

 

أولاً: أن يوم القيامة هو يوم انقطاع التكليف: "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل" (نهج البلاغة1/93)؛ فكيف يُكَلَّف هؤلاء الأطفال في يوم ارتفاع التكاليف، مع أنهم لم يكلّفوا في عالم التكليف والتشريع؟! وهذه الملاحظة سجَّلها جمعٌ من علماء الكلام، قال الصدوق رحمه الله: "إن قوماً من أصحاب الكلام ينكرون ذلك ـ أعني تكليف الأطفال ـ ويقولون: إنه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء تكليف، ودار الجزاء للمؤمنين إنما هي الجنة، ودار الجزاء للكافرين إنما هي النار، وإنما يكون هذا التكليف من الله عزَّ وجل في غير الجنة والنار، فلا يجوز أن يكون كلّفهم في دار الجزاء..."(الخصال238).

 

ويزداد المشهد أو الموقف غرابةً في أمر هذا التكليف، إذا لاحظنا أن الطفل ربما كان صغيراً جداً ـ كالرضيع مثلاً ـ فهل يوجَّه إليه تكليفٌ بإلقاء نفسه في النار، وإذا لم يمتثل يحشر في جهنم مع العصاه المجرمين؟!

 

وثانياً: لو أراد الله سبحانه أن يختبرهم ويمتحنهم، فإنه يختبرهم بتكليف عقلائي، كما نختبر أبناءنا في الدنيا، أما اختبارهم بإلقاء أنفسهم في النار، ولا سيما أنها نار عظيمة كما وصفت بعض الروايات، فهو تكليف غريب وليس منطقياً، ولهؤلاء الأطفال أن يحتجوا على الله، بأنك كلّفتنا بأمر شاق لا يمكن تحمله، بينما كلّفت أهل الدنيا بتكاليف ليس فيها مشقة ولا عسر!

 

وثالثاً: لو تعقّلنا توجّه مثل هذا التكليف إلى هؤلاء الأطفال والصّغار، إلا أنّ عدم امتثالهم لهذا التكليف قد لا يُمثّل تمرداً على الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن أن يعتبر ذلك كفراً به، إذ ربما تملَّك الخوف هؤلاء الأطفال من الاحتراق في هذه النار المرعبة والعظيمة، فامتنعوا عن إلقاء أنفسهم فيها، ولا سيما بملاحظة أن الإنسان بطبيعته يفر من النار. وعليه، فلو أراد الله محاسبتهم، فليكن حكم هؤلاء الأطفال حكم العصاة من المؤمنين الذين قد يشملهم العفو الإلهي أو تنالهم شفاعة أحد الأولياء، وليس حكم الكفرة الذين يُخَلَّدون في النار.

 

هذه الملاحظات تبعث على التأمل الكبير في شأن الروايات المذكورة، الأمر الذي يحول دون حصول الوثوق بها والاستناد إليها في قضية عقدية كالتي نبحثها.

 

وفي ضوء ذلك كله، يتَّضح أن القول الأول المتقدم، والذي يقضي بدخول أطفال المشركين والكافرين إلى جنات النعيم، هو أصح الأقوال وأقربها إلى حكم العقل والمنطق، وهذا يعني أنه ليس ثمة فرق بين أطفال المؤمنين وأطفال الكافرين في أن الجميع يدخلون الجنة بغير تكليف ولا حساب.
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon