حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> عقائدية
كيف نفهم الخلود في النار؟(1)
الشيخ حسين الخشن



 

 

من خصوصيات عالم الآخرة التي تميزه عن عالم الدنيا أنه عالم الخلود، وهذه الخصوصية هي موضع تسالم كافة المؤمنين بالآخرة من أتباع الديانات السماوية، وتشهد بذلك نصوص الكتاب والسنة، قال تعالى بشأن خلود أهل الجنة فيها: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}(التوبة:72)، وقال في شأن خلود أهل النار فيها: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم}(التوبة:68). إلى هذه النصوص وسواها من نصوص الكتاب والسنة، فإن ما يشهد أيضاً لمبدأ الخلود، أنه يتلاءم وميل الإنسان الفطري إلى الحياة الأبدية.

 

الخلود وعدل الله:

 

 ومن الجلي أن خلود أهل الجنة في الجنة لا يثير مشكلة، فإنه حتى لو لم يكن العبد مستحقاً دخول الجنة، فضلاً عن الخلود فيها، فإنه يكفي مبرراً لإدخاله الجنة، سعة رحمة الله وعظيم فضله وامتنانه، وإنما السؤال الإشكالي هو في خلود أهل النار فيها، إذ كيف يمكن أن يُعَاقب العبد على ذنوبٍ اقترفها في سني عمره المحدودة بعذاب دائم أبدي لا ينقطع؟! ألا يتنافى ذلك ومنطق العدل الذي يفرض وجود تساوٍ بين كيفية العقوبة ومدتها وبين طبيعة الذنب والمعصية؟

 

وفي الإجابة على هذه الإشكالية طرحت أكثر من نظرية لدى علماء المسلمين، وهذه النظريات تتحرك في اتجاهين:

 

الأول: هو الاتجاه التأويلي الذي ينفي الخلود في النار، أو ينفي خلود النار نفسها، ويتجه أصحاب هذا الرأي إلى تأويل النصوص الظاهرة في الخلود.

 

الثاني: هو الاتجاه التبريري الذي يُقرّ بخلود أهل النار في النار لكنه يحاول توجيه الخلود بما لا يتنافى وعدل الله.

 

موجبات الخلود:

 

وقبل أن نتطرق إلى هذه النظريات يجدر بنا أن نتعرف بادئ ذي بدء على أسباب الخلود في النار، ومن هم المخلدون فيها؟

 

إن ما يستفاد من حكم العقل وتنصّ عليه نصوص الكتاب والسنة أن العبد إنّما يستحق دخول النار(والدخول لا يعني الخلود) بأحد سببين: الكفر بالله، أو التمرد عليه ومعصيته، أما الخلود في النار فلا يكون على مجرد المعصية مع الإيمان بالله، وإنما يكون على خصوص الكفر أو الشرك بالله، وهذا هو المعروف عند علماء المسلمين من الفريقين، قال الشيخ الصدوق(رحمه الله): "اعتقادنا في النار أنها دار الهوان، ودار الانتقام من أهل الكفر والعصيان، ولا يخلد فيها إلاّ أهل الكفر والشرك، فأما المذنبون من أهل التوحيد فيخرجون منها بالرحمة التي تدركهم والشفاعة التي تنالهم" (بحار الأنوارج8 ص324).

 

ويقول الشيخ المفيد رحمه الله: "وأما النار فهي دار من جهل الله، وقد يدخلها بعض من عرفه، غير أنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها إلى النعيم المقيم، وليس يخلد فيها إلاّ الكافرون... وكل آية تتضمن ذكر الخلود في النار فإنما هي في الكفار دون أهل المعرفة بالله تعالى، بدلائل العقول والكتاب المسطور والخبر الظاهر المشهور..."(تصحيح الاعتقادات 118).

 

وقال الإيجي: "غير الكافر من العصاة ومرتكبي الكبائر لا يخلد في النار..."(المواقف ج3، ص:501)، ولم ينسب الخلاف في ذلك كله إلا إلى المعتزلة والخوارج حيث ذهبوا إلى أن عصاة المسلمين قد يخلدون في النار(راجع شرح مسلم النووي ج7، ص:75).

 

أدلة عدم خلود المسلم في النار:

 

وقد استند مشهور العلماء في حكمهم بعدم خلود عصاة المسلمين في النار إلى العقل، والقرآن، والسنة، كما صرّح بذلك المفيد في عبارته الآنفة.

 

أما حكم العقل فيمكن توجيهه، بأنه لا مقتضى لتخليد المؤمن بالله حتى لو كان عاصياً في النار، وعصيانه وإن كان مصححاً للعقوبة لكنها لا تصل إلى الخلود، لأن المعصية مهما كانت كبيرة فإن عقابها لا بدّ أن يكون متناسباً معها، وعقوبة الخلود لو سلمنّا أنها ملائمة للكفر والشرك، فإنها لا تلائم ولا تنسجم مع المعاصي التي تصدر من المؤمن بالله، فتكون العقوبة والحال هذه ظلماً، وقد تنزه الله عن الظلم.

 

وأما من الكتاب فقد استدل بقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} ولا شك أن العاصي قد أتى خيراً وهو إيمانه، فإثابته على ذلك بالخير ـ كما نصت الآية ـ إما أن تكون أولاً وقبل دخول النار ومن ثم يدخل النار، وإما أن تكون بعد خروجه من النار وقضاء عقوبته، والأول باطل، للإجماع على أن من يدخل الجنة فلا يخرج منها، فإن ثوابها دائم، كما قال تعالى: {أكلها دائم وظلها}(الرعد:35)، فيتعين الثاني، وهو أن تكون إثابته على إيمانه بعد أن يقضي عقوبته في النار على ما صدر منه من معاصي وذنوب، ما يعني أن عذابها منقطع في حقه(راجع: شرح المواقف للقاضي الجرجاني ج8،ص309، وقواعد المرام في علم الكلام لابن ميثم البحراني165).

 

وقد يعترض على هذا الاستدلال بأنّ إثابته على إيمانه قد تصله في عالم البرزخ، أو في دار الدنيا من خلال الإنعام عليه وإيصال النفع والخير إليه، ومن ثم ينقطع يوم القيامة ليجازى على معصيته بالخلود.

 

وقد يستدل من آيات الكتاب على انقطاع عذاب العصاة بقوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير}(التغابن:10)، بتقريب أن ظاهر اسم الإشارة "أولئك" هو الحصر، ما يعني أن الخلود في النار هو لخصوص الكفرة المكذبين بآيات الله.

 

وأمّا السنّة، فالروايات التي تنص على عدم خلود عصاة المسلمين في النار مستفيضة ومروية من طرق الفريقين، فقد أورد الحر العاملي رحمه الله في كتابه "الفصول المهمة في أصول الأئمة" اثنتي عشرة رواية في هذا المجال تحت عنوان "إن فسّاق المسلمين لا يخلدون في النار بل يخرجون منها ويدخلون الجنة"، ثم علّق في نهاية الباب قائلاً: "والآيات والروايات في ذلك كثيرة جداً". ومن الروايات التي أوردها في هذا الباب ما روي عن الإمام الرضا(ع): "إن الله لا يدخل النار مؤمناً وقد وعده الجنة، ولا يخرج من النار كافراً وقد أوعده النار والخلود فيها، ومذنبو أهل التوحيد يدخلون النار ويخرجون منها والشفاعة جائزة لهم". ومن تلك الروايات أيضاً ما روي عن الإمام موسى بن جعفر(ع): "لا يخلد الله في النار إلا أهل الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك" (الفصول المهمةج1/376).

 

دليل القائلين بالخلود:

 

في المقابل، فقد تمسك المعتزلة والخوارج لإثبات رأيهم باستحقاق المسلم مرتكب الكبيرة الخلود في النار، ببعض الآيات القرآنية وأهمها: قوله تعالى:{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً}(النساء:93).

 

وقد سجل على الاستدلال بهذه الآية وأمثالها عدة ملاحظات:

 

الأولى: أنه لا بدّ من تقييد إطلاقها وحملها على غير المسلم، لتكون النتيجة أن الخلود في النار إنما هو عقوبة من قتل مؤمناً إذا كان القاتل كافراً وليس مسلماً، والموجب لهذا التقييد هو الأدلة المتقدمة والدالة على عدم خلود المسلم في النار حتى لو ارتكب الكبيرة، قال الشيخ الطوسي في تفسير الآية رداً على المعتزلة: "ما أنكرتم أن يكون المراد بالآية الكفار ومن لا ثواب له أصلاً، فأمّا من هو مستحقٌ للثواب فلا يجوز أن يكون مراداً بالخلود أصلاً"(البنيان ج3، ص:295).

 

الثانية: إن الآية ناظرة إلى من قتل المؤمن مستحلاً لقتله، أو قتله لإيمانه، وليس غضباً أو حقداً أو لعصبية أو لغير ذلك من الدواعي التي لا علاقة لها بالدين، ومن يقتل مؤمناً لإيمانه أو مستحلاً لقتله يكون كافراً أو منكراً لضروري من ضروريات الدين، ولذا يكون مستحقاً للخلود في النار، وتفسير الآية بهذا النحو قد ورد في بعض الأخبار، منها: خبر سماعة عن أبي عبد الله(ع): قال سألته عن قول الله عز وجل: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها}؟ قال: "من قتل مؤمناً على دينه فذلك المتعمد الذي قال الله في كتابه، وأعدّ له عذاباً عظيماً، قلت: فالرجل يقع بين الرجل وبينه بشيء فيضربه بسيفه فيقتله؟ قال: ليس ذلك الذي قال الله عز وجل" (الكافي ج7 ص:275) وفي حديث آخر عنه (ع) وقد سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمداً أله توبة؟ فقال:" إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له وإن كان قتله لغضب، أو لسبب شيء من أمر الدنيا فإن توبته أن يقاد منه..." (الكافي7/276).

 

الثانية: ما ذكره بعض الأعلام من أنّ "الآية وأمثالها واردة على سبيل بيان الاستحقاق للعذاب الخالد، لا على بيان الفعلية، فلا تنافي ما دل على عدم خلود المسلم في النار، لأنّ إسلامه قد يكون سبباً في العفو الإلهي عنه" (من وحي القرآن ج7، ص131 ـ132).

 

 وهذا وجه وجيه، فإنّ قوله: {فجزاؤه} لا يدل على أكثر من الاستحقاق، أما الفعلية فلا، والروايات النافية للخلود إنما تنفي الفعلية، لا الاستحقاق، فما تنفيه الروايات لا تثبته الآية والعكس صحيح أيضاً. اللهم إلاّ أن يقال: إنّ حمل الآية على الاستحقاق دون الفعلية وإن كان قد يرفع التنافي بينها وبين ما دل على عدم خلود المسلم الفاسق في النار، لكنه لا يرفع الإشكال الذي نحن بصدده وهو عدم انسجام عقوبة الخلود في النار مع المعصية، وذلك لأن الخلود في النار ـ ولو استحقاقاً ـ لا يتلاءم مع طبيعة المعصية والجرم.

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon