نظرة فقهية في صلاة الرغائب
الشيخ حسين الخشن
صلاة الرغائب
شاع في أوساط المؤمنين في الآونة الأخيرة الاهتمام بصلاة خاصة تعرف بصلاة الرغائب، ويؤتى بها في ليلة الجمعة الأولى من شهر رجب، ويعمد الكثير من المؤمنين إلى الاجتماع لها في المساجد ويؤدونها سوية على نحو المتابعة لا الجماعة، باعتبار أنّ النوافل لا تشرع فيها الجماعة، إلاّ أنّ عمليّة البحث العلمي والمتابعة الدقيقة توصل إلى قناعة مفادها: إنّ هذه الصلاة لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، بل إنّ الراجح كونها من الموضوعات المكذوبة على لسان رسول الله (ص).
لماذا هذا البحث؟
وربما يتساءل البعض لماذا هذا البحث؟ وما الغرض من إثارة هذا الموضوع؟ فلنترك الناس تعبد الله وتصلي له بهذه الصلاة أو غيرها، فلماذا تصدون الناس عن عبادة الله بدل أن تنهوهم عن فعل المنكرات المنتشرة بينهم!؟ هكذا قال لي بعض الناس!
وفي الإجابة على هذه الأسئلة التي تطالبنا بتقديم مبرر لهذا البحث أو جدوى معينة من طرحه نقول: إنّه لا يخفى على أهل العلم والفضل أنّ الصلاة عبادة، والعبادات أمور توقيفية، فنحتاج إلى نص يثبت شرعيتها وإلاّ كان الإتيان بها ابتداعاً في دين الله، وهو محرّم بالضرورة والبداهة، لأنّ التشريع بيد الله دون سواه، {آلله أذن لكم أم على الله تفترون} (يونس: 59). ومن هنا ورد النهي في الأحاديث المعتبرة عن العديد من الصلوات التي لم يرد فيها أمر شرعي[1].
والوجه في ذلك - بالإضافة إلى أنّ التشريع هو حق الله تعالى - : أنّ فتح هذا الباب سيؤدي إلى أن يبتدع كل إنسان صلاة خاصة به وأن يعبد الله بالطريقة التي تحلو له وهذا يخلق نوعاً من الفوضى على هذا الصعيد، على أنّ الله تعالى الذي أراد لنا أن نعبده فإنّه أراد أن نعبده كما شاء وخطط لا كما نريد نحن، فهو أعلم بنا وبمصالحنا وما ينفعنا أو يضرنا، كما أنّه لا مبرر إطلاقاً لأن نبتدع صلوات خاصة، فإنّ الله تعالى قد نظم لنا برنامجاً متكاملاً يكفل سمونا الروحي، إما من خلال الصلوات المفروضة يومياً أو من خلال الصلوات المندوبة الليلية أو
النهارية أو التي تؤدى في مناسبات شتى، ولمن أراد الاستزادة من العبادة فقد فتح باباً عاماً لعباده من خلال الصلاة المندوبة التي تؤدى في كل وقت أو مكان على قاعدة "أنّ الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر" كما ورد في بعض الأخبار[2]، ولو أراد المكلف الالتزام بهذه الصلاة المندوبة بالعنوان العام في وقت معين أو مكان خاص كالمسجد، فلا محذور في ذلك إطلاقاً، شريطة أن لا ينسب تلك الخصوصية إلى الشريعة، لأنّها نسبة بغير دليل يوقع صاحبها في التشريع المحرّم.
وبناءً عليه، فأي صلاة أو عبادة يراد الإتيان بها بكيفية خاصة وزمان خاص مع نسبة الكيفية إلى الشرع ستكون بدعة محرمة، ويقع صاحبها في الحرام في الوقت الذي يريد هو عبادة الله تعالى.
وفيما يلي دراسة تفصيليّة حول صلاة الرغائب، وذلك وفق العناوين التالية:
-
نظرة موجزة على كيفية الصلاة وتاريخها
-
المستند الروائي لهذه الصلاة
-
سند الرواية في ميزان علم الرجال
-
الموقف الفقهي من صلاة الرغائب
-
تقييم وتحقيق.
المطلب الأول: نظرة موجزة على كيفية صلاة الرغائب وتاريخها
1- ما المراد بالرغائب؟
الرغائب أي ما يرغب فيه، وهي لغةً بمعنى العطاء الكثير[3] واحدها رغيبة، وأمّا اصطلاحاً فهي ما رغّب فيه الشارع وأثاب عليه بالثواب العظيم، وقال بعضهم: "هي ما داوم الرسول(ص) على فعله بصفة النوافل، أو رغّب فيه بقوله: مَنْ فَعَلَ كذا فله كذا ، قال الحطاب: "لا خلاف أنّ أعلى المندوبات يسمى سنة، وسمى ابن رشد النوع الثاني رغائب، وسماه المازري فضائل، وسموا النوع الثالث من المندوبات نوافل، والرغائب عند الفقهاء: صلاة بصفة خاصة تُفعل أول رجب أو في منتصف شعبان"[4].
2- كيفية صلاة الرغائب
وكيفية هذه الصلاة - على ما تنص عليه الرواية الآتية والتي شكلت مستنداً لها - أنّه بعد الغروب يوم الخميس الأول من شهر رجب، يؤدي المكلف ما بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، ويقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرّة و{ إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر] ثلاث مرات و{قل هو الله أحد} اثنتي عشرة مرة، فإذا فرغ من الصلاة صلى على النبي(ص) سبعين مرة، فيقول: "اللهم صل على محمد النبي(ص) الأمي وعلى آله"، ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة: "سبّوح قدوس رب الملائكة والروح"، ثم يرفع رأسه ويقول: "رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنّك أنت العلي الأعظم"، ثم يسجد سجدة أخرى فيقول فيها مثل ما قال في الأولى ويسأل حاجته فإنها تقضى إن شاء الله[5].
3- تاريخ هذه الصلاة
تكشف المتابعة التاريخية أنّ بدء ظهور هذه الصلاة كان في القرن الثالث الهجري ثم اشتهرت في القرن الرابع[6]، وانتشرت أكثر في القرن الخامس الهجري، وسيأتي أنه قد اتهم بعض الصوفية بوضعها، وقد شاعت في أوساط المسلمين من أهل السنة في القرنين الرابع والخامس الهجريين واستحكمت في النفوس، إلى حد أنها أضحت لدى العوام منهم أعظم وأجلّ من صلاة التراويح، ويحضرها من لا يحضر الجماعات، كما قال ابن الجوزي[7]، وربما أفتى باستحبابها بعض علمائهم، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أدرك فقهاؤهم بدعيّة هذه الصلاة وعملوا على مواجهتها مستعينين بأجهزة السلطة والحكام، لتنحسر عندهم مع مرور الوقت، ولم يعد – بحسب الظاهر- يفتي بجوازها أحد منهم، بل لم تعد تصلى حتى من قبل عوامهم في زماننا هذا وما سبقه.
والغريب في الأمر أنّ هذه الصلاة وبعد أن انحسرت في الأوساط السنية ورفضها فقهاؤهم وحكموا بكونها بدعة، وتركها العامة والخاصة منهم، إذا بها تتسرب بطريقة أو بأخرى إلى أوساط الشيعة دون أن يكون لها مصدر يعوّل عليه في كتبهم الحديثية! ويلاحظ أنّها قد احتلت في السنوات الأخيرة مكانة راسخة في النفوس وازداد الإقبال عليها عاماً بعد عام، ولا سيما بعد أن تمّ الترويج لها من خلال بعض وسائل الإعلام. ونقدر بأنّ هذا التسرب حصل بسبب تساهل بعض المحدِّثين والعلماء في روايتها من طرق أهل السنة، الأمر الذي هيأ الأرضية لرواجها بعد ذلك، وهذا الرواج والانتشار هو إحدى النتائج الطبيعية للتوسع الكبير في تطبيق قاعدة التسامح في أدلة السنن.
المطلب الثاني: مستند هذه الصلاة
وفيما يلي نلقي نظرة على المستند الروائي لصلاة الرغائب، ونبدأ بمصادر السنة، لأنّها - باعتقادنا - الأصل لهذه الصلاة، ثم نلاحظ بعد ذلك ما جاء في مصادر الحديث الشيعية.
1- الصلاة في مصادر السنة
لم ترد هذه الصلاة بكيفيتها المشار إليها في المصادر الحديثية المعتبرة لدى المسلمين السنة، وإنّما أوردها بعض المتأخرين في كتب الأعمال العبادية وكذا أصحاب كتب الموضوعات، وإليك الرواية كما جاءت في كتاب الموضوعات لابن الجوزي، قال:
"أنبأنا علي بن عبيد الله بن الزاغوني، أنبأنا أبو زيد عبد الله بن عبد الملك الأصفهاني، أنبأنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن مندة. وأنبأنا محمد بن ناصر الحافظ أنبأنا أبو القاسم بن مندة، أنبأنا أبو الحصين علي بن عبد الله ابن جهيم الصوفي، حدثنا علي بن محمد بن سعيد البصري، حدثنا أبي، حدثنا خلف بن عبد الله وهو الصغاني، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي. قيل: يا رسول الله ما معنى قولك: رجب شهر الله؟ قال: لأنّه
مخصوص بالمغفرة، وفيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله على أنبيائه، وفيه أنقذ أولياءه من يد أعدائه، من صامه استوجب على الله تعالى ثلاثة أشياء: مغفرة لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمة فيما بقي من عمره، وأماناً من العطش يوم العرض الأكبر. فقام شيخ ضعيف فقال: يا رسول الله إني لأعجز عن صيامه كله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أول يوم منه، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وأوسط يوم منه، وآخر يوم منه، فإنك تعطى ثواب من صامه كله، لكن لا تغفلوا عن أول ليلة في رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة الرغائب، وذلك أنه إذا مضى بك
الليل لا يبقى ملك مقرب في جميع السماوات والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، فيطلع الله عز وجل عليهم اطلاعة فيقول: ملائكتي سلوني ما شئتم، فيقولون يا ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوام رجب، فيقول الله عز وجل: قد فعلت ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس في رجب، ثم يصلّي فيما بين العشاء والعتمة، يعني ليلة الجمعة، اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وإنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاث مرات، وقل هو الله أحد اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين
بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى عليّ سبعين مرة، ثم يقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله، ثم يسجد فيقول في سجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة، ثم يرفع رأسه فيقول: رب اغفر لي وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت العزيز الأعظم سبعين مرة، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى حاجته، فإنها تقضى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله تعالى له جميع ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وعدد ورق الأشجار، وشفع
يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته، فإذا كان في أول ليلة في قبره جاءه بواب هذه الصلاة، فيجيبه بوجه طلق ولسان ذلق، فيقول له: حبيبي أبشر فقد نجوت من كل شدة، فيقول: من أنت فوالله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك، ولا سمعت كلاما أحلى من كلامك، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك، فيقول له: يا حبيبي أنا ثواب الصلاة التي صليتها في ليلة كذا في شهر كذا، جئت الليلة لأقضي حقك، وأونس وحدتك، وأرفع عنك وحشتك، فإذا نفخ في الصور أظللت في عرصة القيامة على رأسك، وأبشر فلن تعدم الخير من مولاك أبداً"[8].
2- الصلاة في مصادر الشيعة
يبدو أن المصدر الشيعي الأول الذي ورد فيه الحديث عن صلاة الرغائب هو كتاب "إقبال الأعمال" للسيد علي بن موسى بن طاووس ( 664 هـ)، وذلك في أعمال شهر رجب تحت عنوان "فيما نذكره من عمل أول جمعة من شهر رجب"، قال: "واعلم أنّ مقتضى الاحتياط للعبادة وطلب الظفر بالسعادة اقتضى أن نذكر عمل هذه الليلة في أول ليلة من هذا الشهر الشريف كجواز أن يكون أول ليلة منه الجمعة.."[9].
والمصدر الآخر الذي جاء ذكر هذه الصلاة فيه هو إجازة العلامة الحلي لبني زهرة الحلبيين[10]، وأما قبل العلامة وابن طاووس فلم نجد لهذه الصلاة عيناً ولا أثراً سواء في المصادر الحديثية أو الفقهية أو غيرها.
ويلاحظ أنّ الرواية بشأن هذه الصلاة جاءت في الإقبال مرسلة وفي إجازة العلامة لبني زهرة مسندة، وسنذكر السند وندرسه، ثم إنها تسّربت من السيد ابن طاووس والعلامة الحلي إلى الكتب الحديثيّة المتأخرة[11] وكذلك كتب الأدعية ونحوها[12]. وفيما يلي نذكر الرواية كما جاءت في ذينك المصدرين، عنيت بهما كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس وإجازة العلامة لبني زهرة:
المصدر الأول: هو ما رواه العلامة في إجازته الكبيرة لبني زهرة الحلبيين، فقد روى رحمه الله عن الحسن بن الدربي، عن الحاج صالح مسعود بن محمد وأبي الفضل الرازي المجاور بمشهد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قرأها عليه في محرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، عن الشيخ علي بن عبد الجليل الرازي، عن شرف الدين الحسن بن علي، عن سديد الدين علي بن الحسن عن عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري، عن الحسين بن علي، عن الحاج مسموسم عن أبي الفتح نورخان عبد الواحد الأصفهاني، عن عبد الواحد بن راشد
الشيرازي، عن أبي الحسن الهمداني، عن علي بن محمد بن سعيد البصري، عن أبيه، عن خلف بن عبد الله الصنعاني، عن حميد الطوسي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:[13] ... ما معنى قولك: رجب شهر الله؟ قال: إنه مخصوص بالمغفرة، فيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله على أوليائه وفيه أنقدهم من نزاعه[14] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من صامه كله استوجب على الله ثلاثة أشياء: مغفرة لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمة فيما يبقى من عمره، وأمانا من العطش يوم الفزع الأكبر. فقام شيخ ضعيف
فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إني عاجز عن صيامه كله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: صم أول يوم منه، فانّ الحسنة بعشر أمثالها وأوسط يوم منه وآخر يوم منه ، فإنك تعطى ثواب صيامه كله، ولكن لا تغفلوا عن ليلة أول خميس[15] منه، فإنّها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب، وذلك أنه إذا مضى ثلث الليل لم يبق ملك في السماوات والأرض إلّا ويجتمعون في الكعبة وحواليها ويطلع الله عليهم اطلاعة فيقول لهم: يا ملائكتي سلوني ما شئتم فيقولون: ربنا حاجاتنا إليك أن تغفر لصوام رجب، فيقول الله عز وجل قد فعلت ذلك. ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس من رجب ثم يصلي ما بين العشائين والعتمة اثنتي عشرة ركعة يفصل بين كل ركعتين بتسليم يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة واحدة و{ إنا أنزلناه في ليلة القدر} ثلاث مرات و{ قل هو الله أحد} اثنتي عشرة مرة، فإذا فرغ من صلاته صلى علي سبعين مرة، ويقول "اللهم صل على محمد وعلى آله"، ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة: "رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت العلي[16] الأعظم"، ثم يسجد سجدة أخرى فيقول فيها ما قال في الأولى، ثم يسأل الله حاجته في سجوده، فإنها تقضى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: والذي نفسي بيده لا يصلي عبد أو أمة هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه، ولو كان ذنوبه مثل زبد البحر وعدد الرمل ووزان الجبال وعدد ورق الأشجار، ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته
ممن قد استوجب النار، فإذا كان أول ليلة في قبره بعث الله إليه ثواب هذه الصلاة في أحسن صورة فيجيئه بوجه طلق ولسان ذلق فيقول: يا حبيبي أبشر فقد نجوت من كل سوء فيقول: من أنت فوالله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك، ولا سمعت كلاما أحسن من كلامك، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك، فيقول: يا حبيبي أنا ثواب تلك الصلاة التي صليتها في ليلة كذا من شهر كذا في سنة كذا، جئتك هذه الليلة لأقضي حقك وأونس وحدتك، وأرفع وحشتك، فإذا نفخ في الصور ظللت في عرصة القيامة على رأسك، فأبشر فلن تعدم الخير أبداً"[17].
المصدر الثاني: إقبال الأعمال، قال السيد ابن طاووس: "وجدنا في كتب العبادات مروياً عن النبي صلى الله عليه وآله ونقلته أنا من بعض كتب أصحابنا رحمهم الله فقال في جملة الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله في ذكر فضل شهر رجب ما هذا لفظه: "لكن لا تغفلوا عن
أول ليلة جمعة منه فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب"، وساق الحديث إلى آخره إلا أنه قال: "فإذا فرغ من صلاته صلى علي سبعين مرة يقول: "اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله"، ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح". ثم يرفع رأسه ويقول: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت العلي الأعظم"، ثم يسجد سجدة أخرى فيقول فيها مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله حاجته[18].
بعد أن استعرضنا أخبار هذه الصلاة فإننا نطرح السؤالين التاليين:
الأول: هل إنّ للرواية في المصادر الشيعية طريقين: أحدهما طريق السيد ابن طاووس، والآخر طريق العلامة في إجازته لبني زهرة، أم أنّ الطريقين ينتهيان إلى سند واحد ورواة معنيين؟
الثاني: هل إنّ للرواية مصدرين، أحدهما شيعي والآخر سني، أم إنّها تعود إلى مصدر واحد؟
1- مصدر هذه الصلاة عند الشيعة
أما فيما يرتبط بالسؤال الأول، فالذي يظهر لنا ونرجّحه أنّ الرواية عند الشيعة ليس لها إلاّ سند واحد وهو الذي ذكره العلامة في إجازته لبني زهرة وهو الذي يلتقي بالسند المذكور عند السنة كما سيأتي، وذلك لأن ابن طاووس أوردها مرسلة في الإقبال ولم يذكر لها سنداً، والشواهد ترجّح أن لا يكون لها سند آخر غير الذي نقله العلامة، وهذا ما نوضحه في الوجوه التالية:
أولاً: إنّ العلامة رواها عن الحسن بن علي الدربي، وهو شيخ السيد ابن طاووس، وقد قال عنه في الدروع الواقية: "وأخبرني الشيخ الزاهد حسن بن الدربي فيما أجازه لي من كل ما رواه أو سمعه أو أنشأه أو قرأه"[19]. والدربي من أجلاء علمائنا، فقد وصفه الشيخ الشهيد في الأربعين حديثاً بقوله: "الإمام تاج الدين الحسن الدربي"[20]. وقال عنه الميرزا عبد الله الأفندي[21]: "من أجلّة العلماء وقدوة الفقهاء ومن مشايخ المحقق والسيد رضي الدين".
ثانياً: إنّ العلامة لا يروي عن الدربي مباشرة، وإنّما يروي عنه بواسطة السيد ابن طاووس[22]. ما يرجح أنّ العلامة قد روى هذه الرواية عن السيد ابن طاووس عن الدربي.
ثالثاً: وإذا كانت الرواية مروية عن ابن طاووس عن الدربي، فهذا يؤشر بشكل واضح على أنّ ما أرسله السيد ابن طاووس ليس رواية أخرى بسند آخر مغاير لما رواه عنه العلامة، بل الظاهر أنّه أخذ الرواية عن أستاذه وشيخه الحسن بن علي الدربي. وهو بدوره رواها بالسند الذي يلتقي مع سند الرواية المروية في مصادر السنة كما سنرى.
2- المصدر الأساس لهذه الصلاة هو كتب السنة
أما فيما يرتبط بالسؤال الثاني، فإنّ المتابعة تفيد بأن مصدر هذه الصلاة في الأساس هو كتب بعض السنة، ومنها تسربت إلى بعض كتب الشيعة، من خلال بعض المشايخ. ثم وعلى قاعدة التسامح في أدلة السنن أباح البعض إتيانها لا بقصد الورود.
ومما يؤكد ويشهد لما نقوله من أنّ أصلها هو كتب السنة وأنّ بعض فقهائنا أخذوها من هناك، الأمور التالية:
أولاً: سند الرواية التي رواها العلامة ينتهي إلى الرواة أنفسهم الذين رووا الرواية المذكورة عند السنة، وهم عدة رجال ابتداءً من عبد العزيز بن راشد بندار الشيرازي ومن يأتي قبله في سلسلة السند وصولاً إلى أنس بن مالك، ففي هذه السلسلة من سند الرواية تلتقي الرواية الواردة في مصادر السنة مع الرواية الواردة في مصادر الشيعة. كما أنّ الدربي هو ممن روى أحاديث السنة وكتبهم وصحاحهم، ومنها صحيح مسلم وسنن أبي داوود وتاريخ بغداد، وقد رواها عنه السيد ابن طاووس[23]، وليس للرواية أي سند آخر لدى الشيعة ينتهي إلى الأئمة (ع)، ومنهم إلى رسول الله (ص) كما هي العادة في رواياتهم المنتهية إليه (ص).
ثانياً: إنّ الأمر لم يقتصر على وحدة السند في الروايتين السنية والشيعية، بل إنّ مضمون الروايتين واحد أيضاً في كل التفاصيل المتعلقة بهذه الصلاة وما أعدّ لها من ثواب. ووحدة المتن والمضمون بين الروايتين مع كون المروي عنه واحداً وهو النبي (ص) هو شاهد على وحدة الرواية ووحدة المصدر، وليس هو إلّا كتب بعض السنة، وذلك بسبب خلو كتب العبادة الشيعية من أي ذكر أو إشارة لهذه الصلاة.
ثالثاً: إنّ المتأمل في سائر الصلوات التي ذكرها السيد في أعمال رجب وشعبان يدرك أنّ هذه الصلوات لا أصل لها في كتب الشيعة، وخلوها منها أمر غير مبرر ولا مفهوم لو كانت مروية من مصادرنا، وفي الوقت عينه قد وجدنا أنّ هذه الصلوات مروية في طرق السنة، ما يرجح أنها مأخوذة من مصادرهم، كما نبه على ذلك المحقق التستري والذي جزم بما ذكرناه من أنّ أصل الرواية الواردة في شأن صلاة الرغائب هم بعض السنة، فقال رحمه الله: "وكذلك صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب رواه في الإقبال مرسلاً عن النبي (ص)، وقد ذكر العلامة في إجازته لبني زهرة سنداً عامياً لها، وكذلك ما رواه الإقبال في كل ليلة من شعبان وفي بعض أيامه مرفوعاً عن النبي (ص) لا عبرة بها لكون الأصل في روايتها العامة"[24].
رابعاً: إنّ عبارة السيّد ابن طاووس في الإقبال لا تخلو من إشعار بكون مصدر الرواية هم السنة، لأنّه يقول بشأن هذه الصلاة: "وجدنا في كتب العبادة مروياً عن النبي (ص)، ونقلته أنا من بعض كتب أصحابنا رحمهم الله .."، فإنّ تأكيده في هذه العبارة على أنّه نقله من بعض كتب أصحابنا والتي ذكرها عقيب قوله: "وجدنا في كتب العبادة مروياً عن النبي (ص)" وليس عن الأئمة (ع)، يوحي بأنّ كتب العبادة المشار إليها ليست لأصحابنا، مما يشهد لكون الرواية التي رواها العلامة هي نفس الرواية السنية. نعم ثمة احتمال آخر في تفسير حرصه على نقلها "من بعض كتب أصحابنا"، وهي أنها مما رواه الفريقان، وهو حرص على نقلها من كتب أصحابنا، فتأمل.
وتركيزنا على أنّ الأصل في الرواية هم أهل السنة أو بعضهم، إنما نهدف منه إلى حصر مصدر الرواية ليتسنى لنا دراسة هذا المصدر وتقييمه سنداً ومضموناً ، ولا نهدف من خلاله إلى الطعن بالرواية بهذا الاعتبار، لأنّ روايات أهل السنة قد لا يجد الفقيه مانعاً من الأخذ بها، إذ قد يحصل له الوثوق بصدورها عن النبي (ص)، كما أنّ من المعلوم أنّ كون الراوي غير شيعي لا يعدّ سبباً في رفض روايته، وهذا ما عليه مشهور الفقهاء[25]، ولذا انتشر في كتب الفقه الشيعية الاستدلال ببعض الأخبار المروية من طرق أهل السنة، وقد تطرقنا في مجال آخر إلى ظاهرة الأخبار السنية المنتشرة في كتب الاستدلال الفقهي عند أصحابنا[26]، وقد عُرف عن الشيعة أخذهم بروايات الكثير من الثقاة من العامة أو الفطحية أو الواقفية أو الزيدية.
المطلب الثالث: سند الرواية في ميزان علم الرجال
وإذا كان للرواية سند واحد، وهو الذي ذكره العلامة، وهو الذي يلتقي في معظمه برجالات ترجم لها أهل الجرح والتعديل من أهل السنة، فعلينا أن ندرس هذا السند دراسة رجالية وافية لنتعرّف على رجالاته ومدى وثاقتهم.
1- سند الرواية
وبداية لا بد أن نذكر السند طبقا لما جاء في إجازة العلامة لبني زهرة، يقول رحمه الله :"ومن ذلك ذكر صلاة الرغائب، روى صفتها الحسن بن الدربي، عن الحاج صالح مسعود بن محمد بن أبي الفضل الرازي المجاور بمشهد مولانا أمير المؤمنين(ع) كان قرأها عليه في محرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، قال: أخبرني الشيخ زين الدين ضياء الإسلام أبو الحسن علي بن عبد الجليل الفياضي (البياضي) الرازي ببلد الري في أول شهر رجب من سنة أربع وأربعين وخمسمائة، قال: أخبرني شرف الدين المنتجب بن الحسن بن علي الحسني قال:
أخبرني سديد الدين أبو الحسن علي بن الحسن الجاسبي، قال: أخبرنا المفيد عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري الخزاعي بالري، قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن علي، عن الحاج سموسم (مسموسم) قال: حدثنا أبو الفتح بن رجاء بن عبد الواحد الأصفهاني، قال: حدثنا أبو القاسم عبد العزيز بن راشد بندار الشيرازي، قال: حدثنا أبو الحسن الهمداني: قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد البصري، قال: حدثني أبي، قال : حدثني خلف بن عبد الله الصنعاني، قال: حدثني حميد الطوسي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله(ص)...[27].
ويمكن تصنيف هذا السند إلى ثلاثة أقسام:
-
رواة الشيعة وعلماؤهم، وهم فيما عدا العلامة وابن طاووس ستة أشخاص يبتدؤون بالحسن الدربي وصولاً إلى عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري، وعدد هؤلاء ستة رجال.
-
رواة مجهولون، وهما شخصان، أحدهما: "مسموسم" أو "سمسوسم"، والثاني هو "أبو الفتح بن رجاء (أبو نورخان) بن عبد الواحد الأصفهاني"، وهذان الرجلان المجهولان اللذان لم يذكرهما أحد من علماء الرجال هما اللذان تمّ بواسطتهما انتقال الرواية إلى الفضاء الشيعي، وبعبارة أخرى: إنّه من خلالهما تمّ وصل السند "الشيعي" بالسند "السني".
-
رواة وشخصيات معروفة في أسانيد السنة ومترجمة في مصادرهم، ويبدأ هؤلاء بـ عبد العزيز بن راشد بندار الشيرازي وصولاً إلى أنس بن مالك، وعدد هؤلاء سبعة أشخاص.
2- نقد السند
وهذا استعراض سريع لحال هؤلاء الرواة جميعاً:
أولاً: الرواة الشيعة الموثقون
-
الحسن بن الدربي، هو الحسن بن علي الدربي عالم جليل القدر من مشايخ المحقق والسيد ابن طاووس[28].
-
الحاج الصالح مسعود بن محمد بن الفضل الرازي، قال عنه الشيخ منتجب الدين[29]: "فقيه صالح"[30].
-
ضياء الإسلام أبو الحسن علي بن عبد الجليل العياضي ( البياضي ) الرازي قال الشيخ منتجب الدين في وصفه وشرح حاله:" المتكلم نزيل دار النقابة بالري، ورعٌ مناظر، له تصانيف في الأصول، منها: الاعتصام في علم الكلام، ومسائل المعدوم والأحوال، شاهدته وقرأت بعضها"[31].
-
شرف الدين المنتجب بن الحسن بن علي الحسني السروي، الموجود في المصادر هو المنتجب بن الحسين، قال الشيخ منتجب الدين في وصفه:" فقيه فاضل: قرأ على الشيخ المحقق رشيد الدين الجليل الرازي"[32].
-
سديد الدين أبو الحسن علي بن الحسن الجاسبي، قال الشيخ منتجب الدين: " الفقيه الدين أبو الحسن على بن الحسين بن على الحاستى[33]. صالح ، حافظ ثقة ، رأى الشيخ أبا على بن الشيخ أبي جعفر والشيخ الجد شمس الإسلام حسكا ابن بابويه وقرأ عليهما تصانيف الشيخ أبي جعفر رحمهم الله"[34].
-
الشيخ المفيد عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري الخزاعي، قال عنه الشيخ منتجب الدين: "شيخ الاصحاب بالرى ، حافظ ، واعظ ، سافر في البلاد شرقا وغربا ، وسمع الأحاديث عن المؤالف والمخالف ، وله تصانيف منها: سفينة النجاة في مناقب أهل البيت العلويات الرضويات[35]، الأمالي، عيون الأخبار، مختصرات في المواعظ والزواجر ، أخبرنا بها جماعة، منهم السيدان: المرتضى والمجتبى ابنا الداعي الحسينى ، وابن أخيه الشيخ الإمام جمال الدين أبو الفتوح الخزاعى عنه رحمهم الله ، و هو قد قرأ على السيدين علم الهدى المرتضى ، وأخيه الرضى ، والشيخ أبي جعفر الطوسى، والمشايخ سالار وابن البراج والكراجكى رحمهم الله جميعاً"[36].
وهؤلاء الستة وإن لم يرد فيهم - باستثناء الخامس - توثيق صريح، لكن جلالتهم وفضيلتهم العلمية التي جعلتهم موضع تقدير كبير عند أعلام الطائفة بالإضافة إلى بعض القرائن الخاصة في سيرة كل واحد منهم، تجعل من وثاقتهم أمراً ثابتاً ومفروغاً منه ولا أقل من الوثوق بها.
ثانياً: المجهولون:
-
الحاج "سموسم"، هكذا ورد اسمه في موضع من بحار الأنوار[37] أو "مسموسم" كما ورد في محل آخر عند ذكر رواية صلاة الرغائب نفسها[38]، وهو اسم مجهول لم نعثر له على ترجمة في كتب الرجال والتراجم عند الفريقين.
-
أبو الفتح بن رجاء بن عبد الواحد الأصفهاني[39]، وهو رجل مجهول بحسب الظاهر، ولم يتسنَّ لنا التعرف عليه برغم التتبع.
ثالثاً: الرواة السنة
-
أبو القاسم عبد العزيز بن راشد بندار الشيرازي، هذا الاسم موجود في أسانيد السنة، حدّث بمكة[40].
-
أبو الحسن الهمداني، هو علي بن جهضم ( جهيم ) ( ت 414هـ )، وعند ابن جهضم هذا وإلى نهاية السند سوف يلتقى سند الرواية الشيعية التي رواها العلامة في إجازته لبني زهرة مع الرواية السنية التي رواها ابن الجوزي في الموضوعات، وأما عن حال ابن جهضم مؤلف كتاب "بهجة الأسرار" فيقول صاحب تاريخ مدينة دمشق: "علي بن عبد الله بن الحسن بن جهضم بن سعيد أبو الحسن الهمداني الجبلي نسبة إلى الجبل، لأنّ همدان من الجبل[41]، وهو صوفي نزيل مكة[42]، رواياته كلها من سنخ الغرائب[43]، وينقل أنه روى عن بعض الأشخاص أحاديث منكرة[44]، وقد حدّث بكتابه بهجة الأسرار في القدس"[45]، ويقول الذهبي عنه: "الشيخ الإمام الكبير شيخ الصوفية بالحرم أبو الحسن علي بن عبد الله مصنف بهجة الأسرار .. وليس بثقة، بل متهم، يأتي بمصائب، قال ابن خيرون: قيل إنه يكذب"[46]، وفي ميزان الاعتدال: "متهم بوضع الحديث.. قال ابن خيرون: تُكلِّم فيه، قال: وقيل إنه يكذب، وقال غيره: اتهموه بوضع صلاة الرغائب"[47]، وقال ابن حجر: متهم بالكذب[48].
-
أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد البصري مجهول، قال في لسان الميزان بـ أنّه: "شيخ لعلي بن جهضم، روى ابن جهضم عنه عن أبيه عن خلف بن عبد الله الصنعاني عن حميد عن أنس رضي الله عنه ذكر "صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من رجب"، أخرجه أبو موسى المديني في "وظائف الليالي والأيام" وابن الجوزي في الموضوعات، قال أبو موسى: "غريب لا أعلم أنّي كتبته إلاّ من رواية ابن جهضم، ورجاله غير معروفين إلى حميد، وقال ابن الجوزي: "اتهموا به ابن جهضم، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الأنماطي الحافظ يقول: رجاله مجهولون وقد فتشت عنهم الكتب فما عرفتهم"[49].
-
عن أبيه، وهو محمد بن سعيد البصري، مجهول كابنه.
-
خلف بن عبد (عبيد) الله الصنعاني، ذكره في لسان الميزان. فقال: "خلف بن عبيد الله الصنعاني [ يروي هو ] عن حميد عن أنس رضي الله عنه بصلاة الرغائب في رجب، رواه علي بن جهضم، عن علي بن محمد بن سعيد البصري، عن أبيه، قال أبو موسى المديني: لا أعلم أنّي كتبته إلاّ من رواية ابن جهضم، قال: ورجال إسناده غير معروفين، وقال أبو البركات الأنماطي: رجاله مجهولون، وقد فتشت عنهم جميع الكتب فما وجدتهم"[50].
-
حميد الطويل[51]، وهو حميد بن تيرويه أبو عبيدة من الذين رووا عن أنس بن مالك، وقد وثقه علماء الرجال من أهل السنة، ومنهم: ابن معين والعجلي وأبو حاتم (ت: 142هـ)[52].
-
أنس بن مالك، وهو صحابي معروف، وشهرته تغني عن الإسهاب في الحديث عنه.
وهناك رواة آخرون تفرد بهم سند الرواية السنية، وهم الذين وقعوا قبل ابن جهضم، وهم أشخاص مجهولون كما شهد بذلك بعض العلماء، ففي الموضوعات: "وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عنهم جميع الكتب فما وجدتهم"[53].
3- من الذي وضع الحديث؟ ومتى؟
ثم إنّ موقف علماء السنة الذين هم الأصل لهذا الحديث لم يقتصر على تضعيفه، بل حكم جمع منهم بوضعه، وصرّح غير واحد من أعلامهم بأنّ الذي وضع حديث صلاة الرغائب هو ابن جهضم (جهيم) الصوفي، قال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع على رسول الله، وقد اتهموا به ابن جهيم، ونسبوه إلى الكذب"[54].
وقال ابن كثير في ترجمة علي بن عبد الله بن جهضم: "أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي صاحب بهجة الأسرار كان شيخ الصوفية بمكة، وبها توفي، قال ابن الجوزي: وقد ذكر أنه كان كذاباً ويقال: إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب"[55].
ولا يخفى أنّ وضع الحديث سيكون مانعاً من الإتيان بتلك الصلاة حتى برجاء المطلوبية، ولا يجدي التمسك بقاعدة التسامح في أدلة السنن، كما سنشير لاحقاً.
المطلب الرابع: الموقف الفقهي من الصلاة
بعد أن تعرفنا على ضعف سند الرواية، لا بد أن نطل على الموقف الفقهي منها، فكيف تلقى الفقهاء صلاة الرغائب؟
أولاً: موقف الفقهاء من أهل السنة
المشهور لدى فقهاء أهل السنة أنّ صلاة الرغائب موضوعة، ولا أصل لها، وقد صرح بذلك فقهاؤهم، وكتبت حول ذلك الرسائل والكتب، وإليك التوضيح:
ففي كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي (ت: 597 هـ): "هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اتهموا به ابن جهيم ونسبوه إلى الكذب، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عليهم جميع الكتب فما وجدتهم"[56].
وقال الفقيه الشهير محيي الدين بن شرف النووي (ت 676 هـ): "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتي عشرة ركعة تُصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب "قوت القلوب" و"إحياء علوم الدين" ولا بالحديث المذكور فيهما، فإنّ كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما، فإنه غالط في ذلك. وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد رحمه الله"[57].
وقال النووي أيضاً بعد أن ذكر حديثاً ينهى عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام: " واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب قاتل الله واضعها ومخترعها فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة وفيها منكرات ظاهرة وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها ودلائل قبحها وبطلانها وتضلل فاعلها أكثر من أن تحصر "[58].
وقال محمد بن أحمد الشربيني الشافعي (ت: 977هـ): " قال في المجموع: ومن البدع المذمومة: صلاة الرغائب اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب"[59].
وفي كشف الخفاء للعجلوني: "ومن الأحاديث الموضوعة ما جاء في فضيلة أول ليلة من رجب الصلاة الموضوعة فيها التي تسمى صلاة الرغائب لم تثبت في السنة ولا عند أئمة الحديث وإن ذكرها صاحب الإحياء وصاحب مؤنس القلوب .."[60].
وفي إعانة الطالبين للبكري الدمياطي الشافعي (ت:1310هـ): "ومن البدع المذمومة التي يأثم فاعلها ويجب على ولاة الأمر منع فاعلها صلاة الرغائب اثنتا عشر ركعة[61]، ولشدة استحكامها في النفوس كان بعض الناس من أهل الروم يحتالون بنذرها لتخرج من النفل والكراهة مع أن ذلك باطل"[62]، لأن متعلق النذر لا بد أن يكون راجحاً في نفسه قبل تعلق النذر به، وقد ألف بعض علماء السنة كتاباً مستقلاً فيها وهو العلامة نور الدين المقدسي أسماه "ردع الراغب في صلاة الرغائب" أحاط فيه بغالب كلام المتقدمين والمتأخرين من
علماء المذاهب الأربعة"[63]، وممن صرح بكونها بدعة، الشيخ منصور البهوي (ت 1051)[64]. ويتحدث العلامة المباركفوري (ت:1353هـ) عن صلاة مبتدعة في رأيه وهي صلاة ليلة النصف من شعبان المعروفة بالصلاة الألفية وهي مائة ركعة بالإخلاص عشراً عشراً ويذكر أنهم اهتموا بها أكثر من الجُمع والأعياد مع أنها موضوعة ولم يأت بها خبر إلاّ ضعيف أو موضوع، ثم يقول: "وأول حدوث لهذه الصلاة ببيت المقدس سنة 448هـ وقد جعلها جهلة أئمة المساجد مع صلاة الرغائب ونحوهما شبكة لجمع القوم وطلباً للرياسة"[65].
وقال الفتني (ت:986هـ) في تذكرة الموضوعات: "وصلاة الرغائب موضوع بالاتفاق، في اللآلي: "فضل ليلة الرغائب واجتماع الملائكة مع طوله وصوم أو دعاء وصلاة اثنتي عشرة ركعة بعد المغرب مع الكيفية المشهورة" موضوع رجاله مجهولون قال شيخنا وفتشت جميع الكتب فلم أجدهم، وفي شرح مسلم للنووي احتج العلماء على كراهة صلاة الرغائب بحديث "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام"، فإنها بدعة منكرة من بدع الضلالة والجهالة وفيها منكرات ظاهرة قاتل الله واضعها ومخترعها، وقد صنف الأئمة
مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبدعيها ودلائل قبحها أكثر من أن تحصى، وفي جامع الأصول قال بعد ما ذكر صلاة الرغائب مع الكيفية المعروفة واستجابة الدعاء بعدها هذا الحديث مما وجدته في كتاب رزين ولم أجده في واحد من الكتب الستة والحديث مطعون فيه، وفي تذكرة الآثام أن بعض المالكية مرّ بقوم يصلون الرغائب وقوم عاكفين على محرَّم فحسَّن حالهم على المصلين، لأنهم يعلمون أنهم يقعون في معصية، فلعلهم يتوبون وهؤلاء يزعمون أنهم في عبادة، وفي رسالة السماع للمقدسي: اعلم أن للشيخ ابن الصلاح
اختيارات أُنكرت عليه، منها اختياره صلاة الرغائب بعد المائة الرابعة والثمانين سنة ولا مزية لهذه الليلة عن غيرها واتخاذها موسماً وزيادة الوقود فيها بدعة مما يترتب عليه من اللعب في المساجد وغيرها حرام والانفاق فيها والأكل من الحلوى [أو: الحلواء] وغيرها فيها، وأحاديث فضلها وفضل صلاتها كلّها موضوعة بالاتفاق، وقد جرت مناظرات طويلة في أزمنة طويلة بين الأئمة وأبطلت فله الحمد، وفي حديث حسن: "من أحيى سنة وأمات بدعة كان له أجر مائة شهيد"[66].
وممن صرح بكونها موضوعة: العلامة الشوكاني قال: " وقد اتفق الحفاظ على أنّها موضوعة، وألّفوا فيها مؤلفات وغلّطوا الخطيب في كلامه فيها..."[67].
في المقابل، وإزاء هذا الاتجاه العام الذاهب إلى تحريم صلاة الرغائب والحكم ببدعيتها لدى فقهاء أهل السنة، فإنّ بعض علمائهم ولا سيّما من ذوي الاتجاهات الصوفية ذهبوا إلى القول بمشروعيتها، وعلى رأس هؤلاء يأتي الغزالي في إحياء علوم الدين وكذلك أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب[68]، وهكذا فقد اختار هذا الرأي الشيخ ابن الصلاح (ت: 577هـ)[69]، ولكن قد عرفت أنّ المحققين من علمائهم رموا هذا الرأي بالضعف واستهجنوا منه، واستغربوا من وثوق هؤلاء بالخبر مع تهالكه وضعف مستنده.
-
المؤلفات السنيّة في بدعيّة صلاة الرغائب
وقد ألّف علماء السنة العديد من الكتب والرسائل بشأن بدعية صلاة الرغائب، وإليك بعض هذه المؤلفات:
-
تحفة الحبائب بالنهي عن صلاة الرغائب، تأليف: محمد بن محمد الخضري الشافعي مفتي الشام[70].
-
ردع الراغب عن صلاة الرغائب، تأليف: علي بن غانم المقدسي (ت:1004هـ)[71]، وقيل أنّه: "أحاط فيه بغالب كلام المتقدمين والمتأخرين من علماء المذاهب الأربعة"[72].
-
محاورة أبطال الغرائب في إبطال صلاة الرغائب، تأليف: الشيخ سريجا بن محمد الملطي (ت: 788هـ)[73]، وهدية العارفين[74].
-
الترغيب عن صلاة الرغائب لمؤلفه: عبد العزيز بن عبد السلام خطيب جامع دمشق (كان حياً من سنة 637) حكم فيه بكونها بدعة[75].
-
اللمع، من تأليف الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي أبو شامة ( ت 665 هـ) وهو كتاب في إبطالها[76].
ثانياً: موقف فقهاء الشيعة الإماميّة
لا يخفى أنّ فقهاء الشيعة لم يأتوا على ذكر صلاة الرغائب إطلاقاً في كتب الفقه في عداد الصلوات المستحبة بمن في ذلك مشهور الفقهاء الذين يعملون بقاعدة التسامح استناداً إلى أخبار "من بلغ"، ولو أنّ روايات هذه الصلاة وصلت إليهم - ولو بطرق ضعيفة - لنصّوا على
استحبابها، كما نصّوا على استحباب الكثير من الصلوات في كتبهم الفقهية، وإنّ مراجعةً سريعة لمؤلفات الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي وابن ادريس وابن البراج وأبي الصلاح والمحقق الحلي والشهيدين وغيرهم من الأعلام ستفضي إلى نتيجة واضحة وهي أنّ هذه الصلاة لا عين لها ولا أثر في مصنفاتهم وكتبهم ورسائلهم الفقهية على تعددها وتنوعها. ويكاد المرء يقطع بأنّ الشيعة لم يعرفوا عن هذه الصلاة شيئاً في تلك الأزمنة، ولا صلّوها إلى أن أدخلها بعض المتأخرين في كتب الأدعية.
أجل، وردت الإشارة إلى صلاة الرغائب عرضاً في بعض كلمات بعض الفقهاء المتأخرين، كالمحقق الأردبيلي[77]، والمحقق السبزواري[78]، والمحقق النراقي[79]، ومن المتأخرين الذين أوردوها في رسائلهم العملية: الشيخ محمد أمين زين الدين[80].
وهكذا ألّف بعض العلماء وهو الشيخ محمد علي بن أبي طالب بن عبد الله الزاهدي الكيلاني الأصفهاني المتوفي سنة 1811هـ "كتاب المواهب في ليلة الرغائب"[81].
ولكن فيما عدا ذلك، فإنّا لا نجد أية إشارة لها، بل نجد صمتاً أو إهمالاً مطلقاً لهذه الصلاة في مختلف المصادر الفقهية، كما ذكرنا، بل لم نجد لها ذكراً في الكتب المتخصص بالأدعية وأعمال الأيام ونحوها، فلم يتعرض لها الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" ولا الشيخ الطوسي في
مصباح المتهجد، ولا القطب الراوندي(ت: 573هـ) في الدعوات، أجل ذكرها العلامة في "مصباح الصلاح"، وذكرتها بعض كتب الأدعية المتأخرة زمناً على العلمين (ابن طاووس والعلامة الحلي) كالكفعمي (ت: 905 هـ) في مصباحه، والمامقاني في المرآة، والشيخ القمي في مفاتيح الجنان والسيد الأمين في مفتاح الجنات.
والظاهر أن موقف علماء الزيدية هو الحكم ببدعية صلاة الرغائب، قال أحمد بن المرتضى (840هـ) في شرح الأزهار بعد أن ذكر صلاة الرغائب بكيفيتها المذكورة: "قلت: قد صرّح النقاد بأنّ الحديث المروي في صلاة الرغائب موضوع وأنّها حدثت في آخر القرن الخامس في بيت المقدس"[82].
المطلب الخامس: تقييم وتحقيق
ثم وفي المحصلة يمكن القول: إنّ هذه الصلاة لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، وبالإضافة إلى ما تقدم من أن سند الصلاة ضعيف للغاية وقد اتهم ابن جهضم بوضعها وهو رجل روى الغرائب التي لا أصل لها، واللافت أنّه رواها عن أشخاص مجهولين لا يعلم وجودهم، اثنان منهما نسبا إلى البصرة مجهولين، والثالث هو شخص صنعاني. بالإضافة إلى ذلك فإنّ ثمة ملاحظات أخرى نسجلها من خلال النقاط التالية:
1- كيف يهمل المحدثون أمر هذه الصلاة؟
لا يخفى على الباحث الخبير خلو روايات الأئمة من أهل البيت (ع) والمصادر الحديثية للشيعة الإمامية من ذكر هذه الصلاة، فلم يعهد أنّ أحداً من الأئمة (ع) أو أصحابهم وشيعتهم قد فعلها أو حثّ عليها وإلاّ لنقل ذلك إلينا. وهكذا نلاحظ أنّ مصادر السنة المعتبرة قد خلت من ذكر هذه الصلاة، إلى أن ظهرت في القرن الخامس للهجرة وتحديداً سنة 448هـ كما سلف. إنّ صلاةً بهذه الأهمية لناحية فضلها العظيم وثوابها الجزيل كيف يغفل عنها أصحاب الأصول الأولية والكتب الأربعة وغيرهم من المحدثين؟!
2- والفقهاء كيف يهملونها أيضاً؟
إنّ المصادر الفقهية للفريقين (السنة والشيعة) لم تأت على ذكر هذه الصلاة، مع عظيم الثواب المذكور عليها والذي لا تكاد تصل إليه صلاة أخرى، فلو أنّها قد صحت عندهم أو وردت في بعض الروايات - ولو الضعيفة - لما أهملوا الحديث عن استحباب الإتيان بها، ولو على قاعدة التسامح في أدلة السنن، مع أنهم تعرضوا لأعمال لا تبلغ في الأهمية مستوى هذه الصلاة.
والفقهاء الشيعة السابقون على العلامة الحلي لم يتطرقوا إلى هذه الصلاة لا من قريب ولا من بعيد - كما أسلفنا - حتى في كتب الأدعية وأعمال الأيام ونحوها، بل إنّ العلامة الحلي نفسه لم يذكرها في شيء من كتبه الفقهية سواء المختصرة أو المتوسطة أو المطولة منها، وإنما
ذكرها في إجازته لبني زهرة، وفي مصباح الصلاح، وهذا لا يدل على تعويله عليها، لأنّه في الإجازة كان بصدد إعطاء إجازة لما وصلت إليه روايته من الأحاديث، بصرف النظر عن صحتها أو وثوقه بها. وأما المصباح فهو من كتب أدعية المبنية على التسامح. اللهم إلا أن يقال: إنّ العلامة لا يرى فرقاً بين كتب الفقه وكتب الأدعية كما سيأتي في كلامه.
3- الرواية مذكورة في كتب العبادة لا الفقه
إنّ السيد ابن طاووس كما تقدم، قد صرّح بأنّه نقل هذه الصلاة من كتب العبادات، وهذا أمر له دلالته، إذ ثمة رأي طرحه الشيخ الجليل ابن ادريس الحلي يشير فيه إلى أنّ ما يذكره الفقهاء في كتب العبادات ليس له تلك الأهمية التي يكتسبها المطلب الذي يذكرونه في كتب الفقه، قال رحمه الله في الحديث عن الاستخارة المعروفة بذات الرقاع: "والمحصلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه إلاّ ما اخترناه (اختار شرعية الاستخارة بالمعنى اللغوي وهو طلب الخير من الله) دون كتب الفقه"[83].
إلاّ أنّ العلامة الحلي رحمه الله ضعّف ما جاء في هذا الكلام، قائلاً في ردّه على ابن ادريس الحلي: "وأي فارق بين ذكره في كتب الفقه وكتب العبادات؟! فإنّ كتب العبادات هي المختصة به"[84].
وهكذا فإنّ السيد ابن طاووس علّق على كلام ابن إدريس بأنّ: "الفقه إنّما كان حكم في الشرائع والديانات، لأنّها من جملة العبادات.. فالفقه من جملة العبادات"، ثم أضاف السيد ابن طاووس بعد أن حاول أن يجد لابن إدريس عذراً في كلامه الآنف: "وعلى كل حال سواء كان
ذكرها في كتب العبادات أو كتب العمل والطاعات فإنّ المصنف إذا كانت كتبه على سبيل الرواية احتمل أن يقال إنّه ما قصد بذلك الفتوى ولا الدراية، وأمّا إذا كان تصنيفه في العبادات والعمل وللطاعات فقد ضمن على نفسه أن الذي يذكره في ذلك من جملة الأحكام الشرعيّة، وإلاّ كان قد دعا الناس إلى العمل بالبدع ومخالفة المراسم الإلهيّة والشرائع النبويّة، فصار على هذا كتب العبادات وكتب العمل والطاعات أظهر في الاحتجاج بما تتضمنه من كتب الفقه أو كتب الروايات"[85].
أقول: ربما كان مقصود الشيخ ابن ادريس أنّ كتب العبادات وهي كتب الأدعية والزيارات مبنية على التسامح في أدلة السنن، ولا تتعرض لعملية نقد وتمحيص كالتي تتعرض لها المباحث الفقهية.
4- وقفة مع مضمون الرواية
ومن الضروري أن نسجل وقفة مع مضمون الرواية، فإنّ هذا المضمون المبالغ في جعل الثواب الكبير على هذه الصلاة هو مدعاة للإشكال:
أولاً: من جهة أنّ هذا الثواب العظيم إذا كان بالفعل مجعولاً من قبل الله تعالى على هذه الصلاة فكيف يهمله الصحابة والتابعون، إنّ الثواب العظيم المجعول عليها هو مدعاة للاهتمام بها وانتشارها والعمل بها من قبل المسلمين والعباد الصالحين، وما كان ليخفى أمرها بحيث لم تعرف إلاّ في القرن الخامس للهجرة!
ثانياً: ومن جهة التحفظ إزاء مثل هذه الروايات التي تجعل هذا الثواب الجزيل على أعمال عبادية محدودة، فثواب صلاة الرغائب لم نجده في أعظم الأعمال العبادية، حتى قال ابن الجوزي: " وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح كيف زوحم بهذه"[86]. ولسنا نشك إطلاقاً في سعة كرم الله وعظيم ثوابه، ولا يحق لنا أن نحدّ من كرمه وجزيل عطائه ولطفه، فهو واسع الرحمة ويعطي الكثير بالقليل، إلاّ أنّ شكنا ينطلق من أنّ مثل هذه الألسنة التي تمنح هذا الثواب الجزيل على العمل اليسير ربما تكون سبباً لتزهيد الناس في فعل الطاعات واجتناب المعاصي، وقد تعرضنا لهذا الأمر في كتاب " فقه العلاقة مع الآخر المذهبي" فراجع.
اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الاستغلال الخاطئ والسيئ للثواب المجعول في الروايات لا يعني كونها موضوعة، ولا سيما أنّ غفران الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر أو نحوه إنما هو وارد على سبيل المقتضي المتوقف تأثيره على عدم المانع وهو فعل المعاصي، أي إنّ غفران الذنوب إنما هو "بشرطها وشروطها".
5- تبرير مشروعية الصلاة على ضوء قاعدة التسامح
وفي المحصلة، فإنّه لا يمكن - في ضوء ما تقدم - إثبات استحباب هذه الصلاة، لعدم نهوض دليل يعتد به لإثبات الاستحباب، وهذا أمر واضح وليس موضع تشكيك، ولكن مع ذلك فقد يتم تبرير الاستحباب الشرعي، بناءً على تماميّة قاعدة التسامح في أدلة السنن، وعلى الأقل لو
لم تنهض القاعدة لإثبات الاستحباب فلا أقل من أنها تكفي لتحقق احتمال مطلوبية العمل، فيؤتى به برجاء المطلوبية. "قال ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني في كتاب "تبيين العجب بما ورد في فضائل رجب" ما لفظه : "اشتهر أن أهل العلم يتسامحون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف ما لم تكن موضوعة"[87].
ولكن يمكن التعليق على ذلك بأنّ قاعدة التسامح غير تامة في نفسها، كما هو واضح لدى الأعلام المتأخرين، فلا يمكن إثبات الاستحباب الشرعي بالاستناد إليها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الإتيان بها بعنوان الرجاء قد يستشكل فيه باعتبار موضوع القاعدة هو بلوغ
الثواب عن النبي (ص)، ومع كون الرواية موضوعة فلا مجال شرعاً للإتيان بها ولو بعنوان الرجاء.
ربما يقال: إنّ الجزم بكون الرواية موضوعة دعوى مبالغ بها، إذ احتمال الصدور عن النبي (ص) قائم ولا راد له وذلك كاف لتصحيح الإتيان بالعمل بقصد الرجاء، ولا يمنع من ذلك ( الإتيان بالعمل بقصد الرجاء) إلاّ إذا حصل العلم وجداناً أو تعبداً بكذب الخبر.
هذا ولكن في بحث قاعدة التسامح، في كتاب "الشيعة والغلو"، توصلنا إلى عدم كفاية هذا الاحتمال.
-
هذا البحث مقتطع من كتاب "الشيعة والغلو" الموجود على الموقع الرسمي:
مع العلم بأن هذا البحث عن صلاة الرغائب، يعود إلى تاريخ (1 رجب 1434 هـ) الذي أُلقي في المعهد الشرعي الإسلامي، ثم تمّ استحداثه وإدارجه في كتاب "الشيعة والغلو".
[1] وذلك من قبيل "صلاة الضحى" التي وصفتها الروايات الصحيحة الواردة عن الأئمة (ع) بالبدعة الوسائل ج4 ص101 الحديث 5 الباب 31 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وما يناسبها.
[2] مستدرك الوسائل: ج3 ص43 ح8 الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض وما يناسبها.
[3] ترتيب معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص 384.
[4] الموسوعة الفقهية "الكويتية" ج2 ص 273.
[5] أنظر: وإقبال الأعمال ج3 ص 185- 186. والموضوعات لابن الجوزي ج2 ص 125،
[6] قال حاجي خليفة ( 1067 هـ): "اختلق بعض الكذابين في القرن الثالث حديثا في فضلها ثم اشتهر في القرن الرابع "، كشف الظنون: ج2 ص1081 : " .
[7] الموضوعات، ج 2، ص 126.
[8] انظر: الموضوعات لابن الجوزي ج2 ص 124- 125.
[9] إقبال الأعمال، ج 3، ص 185.
[10] قال السيد الأمين: " بنو زهرة: وزهرة بضم الزاي وسكون الهاء بخلاف اسم النجم فإنه بفتح الهاء كما عن الجمهرة وبنو زهرة ينسبون إلى زهرة بن علي حفيد محمد الممدوح لا إلى زهرة الأول كما ستعرف ويقال لهم الإسحاقيون لأنهم من نسل إسحاق ابن الإمام جعفر الصادق ع وهم أحد بيوتات حلب المعروفة بالشرف والعلم وفيهم النقابة ، بل هم أشهر بيوتاتها وأجلها في القاموس بنو زهرة شيعة بحلب ، وفي تاج العروس : بل سادة نقباء علماء فقهاء محدثون كثر الله من أمثالهم ، وهو أكبر بيت من بيوت الحسين ، ثم عد جماعة منهم "، أعيان الشيعة، ج 3، ص 9.
[11] راجع البحار ج 104 ص 124، والوسائل ج8 ص 98 ب6 من أبواب فقه الصلاة المندوبة ح1و 2.
[12] كمرآة الكمال للمامقاني ومفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي ومفتاح الجنات للسيد محسن الأمين العاملي..
[13] من الواضح أنه حصل سقط هنا وهو عبارة: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، قيل يا رسول الله"، وهذا المقطع الساقط موجود في وسائل الشيعة.
[14] في موضوعات ابن الجوزي: من يد أعدائه.
[16] في الموضوعات: العزيز.
[17] بحار الأنوار، ج 95، ص 395.
[18] إقبال الاعمال، ج3، ص 185-186. وعنه بحار الأنوار – العلامة المجلسي- ج95 ص 396- 397.
[19] انظر: الدروع الواقية ص 78، وراجع أيضاً رياض العلماء ج1 ص 184، وخاتمة المستدرك ج3 ص 56.
[20] أنظر: الأربعين حديثاً ص4.
[21] رياض العلماء ج1 ص 184.
[22] انظر: إجازته لبني زهرة في بحار الأنوار، ج104 ص 106.
[23] أنظر: إجازة العلامة لبني زهرة في بحار الأنوار، ج 104، ص 106، و ج 106، ص52. وفي أعيان الشيعة أنّ ابن طاووس روى عن الدربي صحيح مسلم، أعيان الشيعة، ج 8، ص 358.
[24] النجعة في شرح اللمعة: ج3 ص103.
[25] راجع المحور الأول، من الباب الثاني، في كتاب "الشيعة والغلو".
[26] أنظر: الشريعة تواكب الجياة: ص194، وفقه العلاقة مع الآخر المذهبي، ج 1، ص54.
[28] تقدم ذلك، وراجع أيضاً: أعيان الشيعة، ج 5 ص 192- 193.
[29] هو الشيخ الجليل منتجب الدين علي بن عبيد الله بن الحسن ابن الحسين بن بابويه القمي من أعلام القرن السادس الهجري، قال الشيخ الحر" كان فاضلا عالما ثقة صدوقا محدثا حافظا راوية علامة ، له كتاب الفهرست في ذكر المشايخ المعاصرين للشيخ الطوسي والمتأخرين إلى زمانه"، أمل الآمل، ج 2، ص 194.
[30] فهرس منتجب الدين، ص 114، وعنه أمل الآمل ج2 ص332.
[31] فهرس منتجب الدين، ص 79، وعنه أمل الآمل ج2 ص191.
[32] فهرس منتجب الدين، ص 116، وعنه أمل، الآمل ج2 ص325.
[33] وفي أمل الآمل : " الجاستي".
[34] فهرس منتجب الدين، ص 79، وعنه أمل الآمل ج2 ص 179.
[35] لم يتضح ما إذا كان هذا كتاباً واحداً كما هو ظاهر النسخة المطبوعة من فهرس منتجب الدين، حيث وضعت العبارة بأجمعها ذلك بين فارزتين، أم أنها ثلاثة، كما هو ظاهر آخرين، ومنهم السيد الأمين، حيث وضع لها ترقيماً، فصارت هكذا: " 1- سفينة النجاة في مناقب أهل البيت عليهم السلام ، 2- العلويات، 3- الرضويات"، أعيان الشيعة، ج 7، ص 464.
[36] فهرس منتجب الدين، ص 75,، وعنه أمل الآمل ج2 ص147.
[37] أنظر: البحار، ج104 ص134.
[38] أنظر: البحار ج95 ص395.
[39] هكذا ورد في البحار ج 104 ص 124، بينما في ج95ص 395 ورد اسمه هكذا: "نورخان عبد الواحد الأصفهاني"
[40] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج63 ص205 وفي الموضوعات لابن الجوزي (ت597) في باب فضل العمائم البيض يوم الجمعة، قال: أنبأنا أبو منصور القزاز، أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي، أنبأنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي..." الموضوعات ج2 ص106.
[41] إكمال الكمال ج3 ص224.
[42] تاريخ مدينة دمشق ج43 ص15.
[43] أنظر: تاريخ بغداد ج2 ص405- 409 وج3 61- 63 وج5 ص33 وص340 و423 وج6 ص30.
[44] تاريخ بغداد ج11 ص 242.
[45] إكمال الكمال ج7 ص45، وتاريخ مدينة دمشق ج5 ص64، و139.. وج6 ص84، 85،88، ،327 ، وج20 ص92، وج43 ص16.
[46] سير أعلام النبلاء ج17 ص275.
[47] ميزان الاعتدال للذهبي ج3 ص142.
[48] الإصابة ج20 ص252، وانظر تاريخ الإسلام للذهبي ج28 ص351، وأنظر بشأنه: الغدير ج5 ص245.
[49] لسان الميزان ج2 ص214 وج4 ص255.
[50] لسان الميزان ج2 ص403.
[51] وفي البحار المطبوع جاء بدل الطويل: "الطوسي"، بحار الأنوار، ج 95، ص 395، وهو تحريف أو تصحيف، والصحيح هو الطويل، كما في بقية المصادر.
[52] انظر: الوافي بالوفيات ج4 ص332 لمكين الدولة ابن منقذ، وتاريخ دمشق ج15 ص257، وتاريخ الإسلام ج9 ص114.
[55] البداية والنهاية، ج12 ص21، وراجع أيضاً: لسان الميزان لابن حجر ج4 ص238.
[56] الموضوعات، ج 2، ص 125.
[57] المجموع ، ج 4، ص 56.
[58] شرح صحيح مسلم، ج 8، ص 20.
[59] وذكر نحوه في مغني المحتاج ج1 ص225. والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، ج1 ص108.
[61] إبانة الطالبيين: ج1 ص312.
[62] البحر الرائق ابن نجم المصري (ت:97هـ) ج2 ص93 وحاشية رد المحتار ج2 ص27.
[64] كشف القناع: ج1 ص539. قال: وأما صلاة الرغائب والصلاة الألفية ليلة نصف شعبان فبدعة لا أصل لهما". .
[65] تحفة الأخوذي شرح جامع الترمذي ج3 ص367، وفي فتح المعين للمليباري الهندي ج1 ص312 تصريح بكونها بدعة قبيحة وأحاديثها موضوعة، البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص135 "ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة ولا أصل لذلك والله أعلم". وفي المجموع للنووي ج4 ص56 تصريح ببدعيتها.
[66] تذكرة الموضوعات ص43- 44.
[67] الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة 48.
[68] انظر: كشف الظنون ج2 ص1081.
[69] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي ج23 ص143.
[70] كشف الظنون لحاجي خليفة ج1 ص365.
[73] كشف الظنون: ج2 ص1592.
[74] إسماعيا باشا البغدادي ج1 ص383.
[75] كشف الظنون: ج2 ص1081.
[76] راجع: المجموع للنووي، ج 4، ص 56،
[77] مجمع الفائدة: ج2 ص43.
[78] ذخيرة المعاد، ج1 ق2 ص204.
[79] مستند الشيعة، ج4 ص105.
[80] كلمة التقوى، ج2 ص96.
[81] الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 23 ص 242.
[82] شرح الأزهار ج1 ص397.
[84] مختلف الشيعة ج2 ص355.
[85] فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب في الاستخارات ص292.
[86] الموضوعات، ج 2، ص 126.
[87] نقله السيد حسن الصدر في نهاية الدراية، ص 285.