حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
عقوبة المرتد بين الحد والتعزير(3/3)
الشيخ حسين الخشن



 

استكمالاً للحديث السابق حول طبيعة عقوبة المرتد وهل أنها حد (وهو القتل) لا مجال لتغييره، أو تعزيرٌ منوط برأي الحاكم وتقديره؟ يمكننا أن نذكر شاهداً على أنّ العقوبة تعزير وليست حداً، وخلاصة هذا الشاهد: أن عقوبة المرتد قابلة للشفاعة، وحيث أن الحد لا يقبل الشفاعة فيتبين أنها ليست حداً وإنما تعزير.

 

وبيان هذا الاستدلال: أما مقدمته الثانية وهي أن الحد لا يقبل الشفاعة فهذا أمر لا شك فيه، وقد وردت به الروايات من طرق الفريقين، ففي قصة المرأة المخزومية التي سرقت، وكلّم بعض الصحابة ـ ومنهم أسامة بن زيد ـ النبي (ص) بشأنها قال النبي(ص): "أتشفع في حد من حدود الله! ثم قام فخطب فقال: أيها الناس إنما ضلّ من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"(صحيح البخاري8/16، سنن النسائي8/73)، وهكذا ورد في عدة أخبار عن الأئمة من أهل البيت(ع): "لا يشفع في حد" (الوسائل الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود).

 

 وأما المقدمة الأولى في الاستدلال وهي قابلية عقوبة المرتد للشفاعة فيمكن إثباتها استناداً إلى ما ورد بشأن شفاعة عثمان لأخيه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح، فقد كان من قصته أنه أسلم وصار من كتّاب الوحي، ثم ارتد وزعم أنه كان يتلاعب بالوحي، فنزل فيه قوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله...}(الأنعام:93)، وقد أهدر النبي(ص) دمه مع ثلاثة أشخاص آخرين حتى لو وجدوا معلقين بأستار الكعبة، إلاّ أنه "لما كان يوم فتح مكة اختبأ عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي(ص) فقال: يا رسول الله: بايعْ عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقدم إلى هذا حيث رآني كففت يدي  عن بيعته فيقتله، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين"(سنن أبي داوود 2/329، وسنن النسائي:7/107، وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/45 وقال: إنه صحيح على شرط مسلم والبخاري ولم يخرجاه، وفي فتح الباري11/8: وله طرق أخرى يشد بعضها بعضاً).

 

ملاحظات ومناقشات:

 

أقول: لو صحّ هذا الخبر سنداً ومضموناً فقد يسجل عليه جملة من الملاحظات:

 

الأولى: إن هدر دم عبدالله بن أبي سرح لا علاقة له بباب الحدود والتعزيرات، فإن المرتد إنما يقام عليه الحد من قبل السلطة الشرعية ولا يهدر دمه بهذه الطريقة، فالوجه في هدر دمه أنه تحول بعد ردته إلى صف المحاربين لله ولرسوله وللمسلمين والمفسدين في الأرض، فمهدورية دمه ليست استثناءً وإنما هي على طبق القاعدة، ولما فتح النبي(ص) مكة المكرمة تفضل بالعفو على أهلها ولكنه لم يعف عنه أربعة أشخاص منهم ابن أبي سرح، فبقي هؤلاء على حكم القاعدة، ثم لما جاء عثمان بالرجل إلى رسول الله(ص) وألحّ عليه بقبول بيعته شمله النبي(ص) بعفوه كما عفا عن الآخرين، فعفوه(ص) عنه إنما هو عفوٌ عن رجلٍ استحق القتل وكان مهدور الدم بسبب كونه محارباً مفسداً، لا مرتداً، وإلا فغالب رجال مكة ممن عفا عنهم(ص) لم يكونوا مرتدين كما هو واضح.

 

ويلاحظ على ذلك: أنه لو تمّ هذا الاستنتاج فهو لا يخدش في الاستدلال، وذلك أنّ ردة ابن أبي سرح ثابتة جزماً، وعقوبته واهدار دمه إن كانت بسبب ردته فهو المطلوب(أي تثبت إمكانية العفو عن المرتد)، وإن كانت بسبب حرابته وإفساده كما يرجح، فالعفو عن هذه الجريمة هو عفو عن الردة أيضاً بالأولوية، ولإطلاق العفو وعدم تقيده بخصوص جريمة الحرابة.

 

الثانية: ان قبول عقوبة المرتد للشفاعة لا تعني أن العقوبة تعزير وليست حداً، لأن الشفاعة كما لا تُقبل في الحد فإنها لا تقبل في التعزير أيضاً، فإن ما ورد من أنه "لا شفاعة في حد" شامل للتعزير أيضاً، إما بإلغاء الخصوصية عن الحد، أو لأن كلمة "الحد" في هذه الروايات لا يراد بها المعنى الاصطلاحي الخاص والمقابل للتعزير، بل من القريب جداً أن يراد بها مطلق العقوبات الجزائية (راجع الدر المنضود تقريراً لدروس السيد الكلبكاني1/25)، نعم ورد في رواية السكوني عن أبي عبد الله(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع): "لا يشفعنّ أحد في حدٍ إذا بلغ الإمام، فإنه لا يملكه، واشفع فيما لم يبلغ الإمام إذا رأيت الندم، واشفع عند الإمام في غير الحد مع الرجوع من المشفوع له، ولا يشفع في حق امرئ مسلم ولا غيره إلاّ بإذنه"(الوسائل الباب20 من أبواب مقدمات الحدود الحديث4). فإن المستفاد من الرواية أن النهي عن الشفاعة مختص بالحد دون التعزير.

 

ثم على فرض التسليم بهذا التعميم إلا أن ذلك لا يبطل الاستشهاد، لأن المشكلة ليست في تسمية العقوبة المرفوعة عن ابن أبي سرح وأنها حد أو تعزير، فالتسميات لا تقدم ولا تؤخر، وسواء سميت العقوبة تعزيراً أم لا  فإن ذلك ليس ذا أهمية، وإنما المهم أن العقوبة قد رفعت من قبل النبي(ص) ما يعني أنّ أمرها بيد السلطة الشرعية، إذ لم يثبت أن ذلك من خصوصياته(ص).

 

وبهذا الجواب يندفع ما يمكن أن يقال: بأنه مع التسليم بأن عقوبة قتل المرتد تعزير وليست حداً، إلا أن ذلك لا يعني أن بالإمكان تغيير وتبديل نوع العقوبة حتى من قبل الحاكم الشرعي، لأن من التعزيرات ما نصّ الشارع على مقدار عقوبته ولم يترك تقديره للحاكم الشرعي، حتى أن بعض الفقهاء قد أدرج عقوبة قتل المرتد في التعزيرات، ناصاً على أنه تعزير لا حدٌ مع التزامه بطبيعة الحال بعدم جواز تغييرها أو تبديلها.

 

ووجه الاندفاع: أنه ومع صرف النظر عن التسميات كما قلنا، فإن الشاهد المذكور ـ أعني ما ورد في قصة عبد الله بن أبي سرح ـ دليل على جواز تغيير العقوبة وتبديلها بعد عدم وجود دليل على كون العفو من مختصات النبي(ص).

 

الثالثة: أن النبي(ص) لم يعفُ عن ابن سرح قبولاً منه لشفاعة عثمان فيه، وإنما قبولاً منه لتوبة الرجل، ولا شك في قبول توبة مثل هذا المرتد عند مختلف المذاهب الفقهية، باعتباره مرتداً عن ملة وليس مرتداً فطرياً لا تقبل توبته.

 

وجوابه: بأنه ليس ثمة ما يؤكد أو يشير إلى أن الرجل قد تاب فعلاً، وإنما الذي جاء به إلى النبي(ص) عثمان، طالباً منه(ص) مبايعته، فبايعه بعد إباء وتمنع، والملاحظ أن النبي(ص) قد قبل توبة عكرمة ـ وهو أحد الأربعة الذين كان أهدر دمهم ـ عندما جاءه مسلماً تائباً ولم يبدو عليه التمنع من قبول توبته (السنن الكبرى للنسائي2/302).

 

 وأمّا أن يقال: إن القاعدة الإسلامية التي أرساها رسول الله(ص) في أمثال هذه الموارد هي ضرورة الأخذ بالظاهر، وظاهر حال الرجل ـ أعني ابن أبي سرح ـ عندما جاء مبايعاً أنه نادم على ما بدر منه، فجوابه: إن التوبة التي تسقط الحد هي التوبة الحقيقية الصادقة والثابتة لدى الحاكم ولو اعتماداً على ظاهر الحال، وليس في المقام ما يشير إلى أن توبة ابن أبي سرح حقيقية وإلاّ لحضر بنفسه إلى النبي(ص) طالباً العفو، بينما الذي أحضره هو عثمان، كما أن تمنع النبي(ص) عن مبايعته في بدء الأمر مؤشر آخر على عدم صدق توبته، وإلاّ لبايعه النبي(ص) مباشرة كما فعل مع عكرمة.

 

تدبير وتعزير:

 

خلاصة الاستشهاد: ان عفو النبي (ص) عن المرتد ابن أبي سرح رغم عدم ظهور توبته دليل على عدم تعين قتله، وأن مسألة القتل هي من التدبيرات المنوطة بيد الحاكم، وعليه: فلا فرق بين أن تقول: عقوبة قتل المرتد هي تدبير أو أنها تعزير منوط برأي الحاكم، فإن التعزير بهذا المعنى هو نوع من التدبير، صحيحٌ أن التعزير لا يحق لأحد إلغاءه من رأس حتى لو كان تقدير العقوبة بيد الحاكم، خلافاً للتدبير فإن أمره ومقداره بيد الحاكم، إلا أنه لو اصطلحنا تسمية قتل المرتد تعزيراً فهو تعزير من نوع خاص، أي أن أمره بيد السلطة الشرعية كما أن تقديره بيدها.

 

ومن الشواهد التي يمكن ذكرها لإثبات تعزيرية أو تدبيرية عقوبة المرتد هذا الاختلاف الكبير الذي تعكسه الروايات حول عدة جوانب في قضية الردة والارتداد، منها: مسألة قبول توبة المرتد الفطري وعدمها، ومنها: الخلاف بشأن عقوبة المرأة المرتدة بين ما يدل على لزوم حبسها وما يدل على قتلها، ومنها الاختلاف في طريق العقوبة، ففي بعضها يضرب عنقه وفي بعضها أنه يوطأ بالإقدام إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف، وما نريد استنتاجه: إن وجوه الاختلاف هذه مفهومة وتفسيرها هين بناءً على افتراض أن عقوبة المرتد هي من التأديبات والتدبيرات المنوطة بنظر الحاكم الذي يرتأي أحياناً قبول التوبة وأحياناً رفضها، وأحياناً يعاقب بالحبس وأخرى بغيره، وأما إذا لم نوافق على التدبيرية فسوف تعتبر النصوص المشار إليها متضادة ومتضاربة بما لا يمكن الجمع العرفي معه أحياناً، ولا شك أن حمل النصوص على ما لا يجعلها متنافية متعين أو أنه أولى من حملها على وجه لا يرتفع معه التنافي.





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon