حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> تاريخية
الزهراء (ع) بين العالمية وحصار المظلوميّة
الشيخ حسين الخشن



في إطلالة على ذكرى سيدتنا فاطمة الزهراء (ع)، يستوقفنا هذه العلاقة الخاصة التي كانت تربط الزهراء بأبيها رسول الله (ص)، وهذا التوقير والاهتمام المميز الذي كان يبديه ويظهره (ص) في تعامله مع ابنته، مما لم يتعامل به مع أحد سواها، سواء مع سائر بناته أو زوجاته أو سائر النساء، وكما قال الشاعر:

 

ما تمنى غيرها نسلاً ومن *** يلد الزهراء يزهد في سواها

 

1- ماذا يعني أن تكون فاطمة سيدة نساء العالمين؟

 

 ومما يلفت الأنظار في هذا السياق، كلمة النبي(ص) الشهيرة والتي كرّس فيها ابنته الزهراء سيدةً لنساء العالمين، أو نساء المؤمنين أو نساء أهل الجنة، على اختلاف الرواية في ذلك[1]. مع أنّه لا منافاة بين الروايات، فسيدة نساء المؤمنين هي سيدة نساء العالمين، وهي بطبيعة الحال ستكون

سيدة نساء أهل الجنة. والحق يقال: إنّ هذا الوسام هو أعلى وسام يمنحه الرسول (ص) لامرأة، وتلك الكلمة هي أعظم كلمةٍ يقولها (ص) في حق امرأة من النساء، فسيادة نساء العالمين، ليست أمراً بسيطاً أو عادياً، ولا سيما عندما يطلقها النبي (ص) وهو الذي لا يلقي الكلام على عواهنه، ولا

ينطلق في ذلك من موقع عاطفة أو عصبية، ولا يعطي الألقاب جزافاً ولا يمنحها لغير أهلها ..

 

إنّ تكريس فاطمة(ع) سيّدةً لنساء العالمين يعني أنّها اختزنت في شخصيتها من عناصر الكمال الروحي والأخلاقي ما جعلها قدوة وسيّدة نساء العالمين، وهذا الأمر يحمّل كافة المسلمين من أتباع رسول الله (ص) والأوفياء لنهجه مسؤوليّة كبيرة في العمل على اكتشاف فاطمة(ع) ومعالم القدوة في

شخصيتها، ومن ثمّ التعريف بشخصيتها الرساليّة للعالمين جميعاً، وذلك من خلال الأساليب التي يفهمها الجيل المعاصر، وتؤثر فيه؛ لأنّنا على يقين بأنّ من تكون سيدة نساء العالمين بتعيين رسول الله (ص)، لا تكون مجرد امرأة عادية، بل لا بدّ من أن تكون امرأة ملهمة ومعلّمة ومؤدبة ومثلاً أعلى

يحتذى به على مرّ العصور. والسؤال الذي يطرح نفسه: إذن لماذا لا نعرف الكثير عن فاطمة؟ ولماذا يجهل الكثيرون حقيقتها ومعالم شخصيتها؟ ولماذا لم يهتم كتبة التاريخ بالإضاءة بما فيه الكفاية على مواقفها وكلماتها وخصائص شخصيتها؟ ولماذا يحرص البعض - في المقابل - على أن يحوطها

بمجموعة من الأسرار والغيبيات التي تبعدها عن حياة الناس وواقعهم، ويجعلها مجرد أيقونة يقدّسها وليس نموذجاً يحتذى، أو أن يحبسها في أسر المظلومية التي تعرضّت لها بعد رحيل والدها رسول الله (ص)؟! إننا لا ننكر أن فاطمة امرأة ذات قدسية خاصة، وأنّها تعرّضت للكثير من المظالم بعد

رحيل والدها رسول الله (ص)، بيد أنّ ذلك لا يجب أن ينسينا سائر مواقفها والصفحات المشرقة في كتابها الكبير.   

 

 

والواقع أنّ التعامل الغيبي مع شخصيّة فاطمة الزهراء (ع) سيشكّل عائقاً ليس أمام الاقتداء بها فحسب، بل وعائقاً أمام فهم شخصيتها وهو ما يعدّ إحدى مظاهر المظلومية التي لا تزال تتعرض لها ابنة محمد (ص) بأن تكون مجهولة إلى هذا الحدّ.

لكن ورغم الحصار الذي تعرضت له سيدة النساء(ع)، فقد بلغنا عنها (ع) شيءٌ من عطائها الفكري والرسالي، وهو وإن كان عطاءً يسيراً ولكنّه عظيم الفائدة، وكفيل بأن يملأ الخافقين بالهدى والنور، لو أحسنا تمثله وتظهيره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكارهون.

 

 

2- إدارة الاختلاف في تفاصيل المظلومية

 

وحديث المظلومية هذا، يدفعني إلى القول: إنّ ثمّة قدراً جامعاً ومتفقاً عليه في موضوع مظلوميتها، من منعها فدكاً رمز الإمامة، إلى الهجوم على بيتها وهتك حرمة البيت الذي طالما وقف رسول الله على بابه مسلماً على أهله، وهو يردد قول الله تعالى: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل

البيت ليطهركم تطهيراً} [الأحزاب-33 ]، إلى الظلامة الكبرى التي كانت تؤرق الزهراء(ع) وتدمي قلبها، وهي زحزحة الخلافة عن أهلها، وهو ما أظهرته (ع) في خطبتها الطويلة في قولها: " ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الوحي الأمين والطبين[2]

بأمر الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما نقموا من أبي حسن ، نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله عز وجل"[3]. لقد كانت الزهراء(ع) ترى أنّ المظلومية الكبرى هي مظلوميّة علي(ع) والتي هي مظلومية الإسلام والمسلمين؛ لأنّ

إبعاد علي (ع) عن المكان اللائق به في إدارة شؤون الأمة كان له الكثير من التداعيات السلبية على حاضر الأمة ومستقبلها.

 

 ولكنّ بعض القضايا وقعت محلاً للاختلاف، ولو من قبل بعض العلماء الذين لم يثبت عندهم بعضها أو ناقشوا فيها، أو رسموا بعض علامات الاستفهام حولها، من قبيل: ضربها الذي ناقش فيه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ره)، أو كسر ضلعها الذي ناقش فيه السيد فضل الله (ره). والسؤال هنا

- وبصرف النظر عن موقفنا المؤيّد لحدوث هذه الأحداث أو المشكك في ذلك - كيف ندير الاختلاف حول  هذه الأمور؟ هل نستخدم أساليب الحوار العلمي بعيداً عن التجريح والاتهامات المتبادلة؟  أم أننا نستخدم أساليب القسوة الكلامية التي تصل إلى حدّ السب واللعن والتضليل، وإسقاط كرامات

الأحياء ونبش قبور الأموات، كما يحصل في أيامنا من خلال شتى المنابر الإعلامية، ولا سيّما وسائل التواصل الاجتماعي التي تشهد حفلات من الشتائم والسباب والعصبيات، وحملات التشهير المتبادلة بين طرفي النزاع، وهو أمر يبعث على إثارة الضغائن بين المؤمنين في الوقت الذي تحتاج فيه

ساحتنا إلى لمّ الشمل؟!

 

 

الموضوعيّة والعاطفة

 

قد يكون بديهياً القول: إنّ علينا إدارة الاختلاف في هذه الأمور على أساس المنهج العلمي المتعارف عليه في شتى المباحث العلميّة، كلامية كانت أو فقهية أو تاريخية، أو غير ذلك، وهذا هو ما يجري عليه عامة العقلاء في إدارة نزاعاتهم واختلافاتهم.

 

لكنّ المؤسف أنّ ما حصل ويحصل أنّ العاطفة والعصبيّة هما اللتان تتحكمان في إدارة القضيّة، ويشارك في ذلك الخطاب الديني لبعض الوعاظ والخطباء، والذي يعمل على تجييش العواطف المذهبيّة لعامة الناس وإثارة انفعالاتهم، الأمر الذي قد يدفعهم - أعني عامة الناس - إلى التطاول على

أصحاب الرأي الآخر.

 

 والمفارقة أنّنا نخضع الكثير من القضايا العقديّة والتاريخيّة والفقهية للبحث والنقاش دون أن تثور ثائرة أحد، مع أنّ بعض تلك القضايا التي نتناولها بالبحث، ونضعها تحت السؤال، هي أكثر ثبوتاً ووضوحاً من ناحية الدليل وأكثر ارتباطاً بالعقيدة من القضايا التفصيلية المتصلة بمظلوميّة الزهراء

(ع)، بل إنّ بعضها ربما يعدّه البعض من المشهورات أو الضرورات. ومع ذلك يتمّ إخضاعها للبحث دون أن يثير أحد اللغط في الأمر، أو يندفع إلى إثارة العامة أو إصدار الأحكام القاسية في حق منكرها.

 

  وكمثال على ذلك: يحدّثني بعض العلماء أنّه كان يدرس طلابه بعض الكتب الكلامية المقررة للتدريس، وعندما وصل البحث إلى علم الإمام، ذكر مسألة معينة، وقال: إنّ هذا مبني على علم الإمام بالموضوعات، ومجرد طرح هذا الأمر استفز طلابه، فاعترض بعضهم عليه بأنّ الإمام عالم بكل

شيء، وكيف يطرح مثل هذا الأسئلة أو النقاشات حول علمهم؟!  يقول: فقلت لهم: منذ فترة بحثنا وإياكم حول علم الله تعالى وطرحنا رأياً لبعض العلماء والفلاسفة، مفاده: أنّ علم الله ليس متعلقاً بالجزئيات. أليس كذلك؟ قالوا: بلى، وهناك لم أركم استغربتم ولا ثارت ثائرتكم!. وهذا الاستيحاش الذي

أبداه بعض الطلبة يظهره ويبديه حتى بعض أهل العلم.

 

 إنّ هذا مؤشر على أنّ القضايا المذهبية لا تقارب على أساس علمي، بمقدار ما تقارب على ضوء العاطفة المذهبية، هذه العاطفة التي نتفهمها ونتفهم منطلقاتها التاريخية، على اعتبار أنّها نشأت على خلفية مظلوميّة تاريخيّة لأهل البيت (ع). ولكنّ هذا الأمر لا يعدّ مبرراً وجيهاً لهذه الانفعالات التي

تطعن في الآخر، لا في ميزان العلم ولا في ميزان الدين.  

 

ومثال آخر: إنّ المشهور بين علماء الفريقين أنّ للنبي (ص) عدة بنات غير السيدة الزهراء(ع)، وهنّ زينب ورقيّة وأم كلثوم. ولكنّ بعض العلماء المعاصرين تبنّى رأياً مخالفاً للرأي المشهور والمعتضد بالدليل. وبالرغم من أنّ للمسألة بعداً مذهبياً معيناً، حيث إنّ الآخر يفسّرها بأنّها محاولة لنفي

مصاهرة الخليفة الثالث للنبي (ص)، ومع ذلك فلم يضايق أحداً من هذا الرأي ولم ينف حقّ العالم المذكور في أن يتبنى الرأي المشار إليه. والسؤال: لماذا عندما تصل القضية إلى مسألة المحسن الذي أسقطته الزهراء (ع)، تقوم القيامة إذا ما شكك أحدهم في وجوده أو في سقوطه بطريقة غير

اعتيادية؟!

 

إنّ اللازم علينا، ولا سيما أهل العلم، أن نتعامل مع هذه الأمور بموضوعية تامة وأن نبعدها عن أجواء التشنج والإثارة المذهبية، مع تأكيدنا الجلي أنّ من حقّ من ثبتت لديه هذه المظالم أن يظهر ذلك، وأن يعلن موقفه في المسألة لكن بالطريقة التي لا تسيء إلى الآخرين ولا تسيء إلى الواقع

الإسلامي برمته.

 

ويخطئ من يظنّ أنّ اعتماد أسوب القسوة في النقد والتجريح في صاحب الرأي الآخر، وكيل الاتهامات له سوف يحدّ من انتشار رأيه أو يحاصره في نطاق خاص، فهذ الأمر فضلاً عن أنّه ليس أسلوباً مقبولاً من الناحية الشرعية، فإنه لا يملك حظوظاً من الناحية العملية، فإنّ قمع الفكر الآخر يساهم في انتشاره.

 

وفي المقابل، فإنّ الطرف المشكك أو النافي لبعض هذه الأحداث أن يستخدم الأسلوب العلمي نفسه، فيبتعد عن الاستهزاء بالآخرين أو الاستخفاف بهم أو برأيهم أو يرميهم بأوصاف غير لائقة. إنّ علينا أن نأخذ بأسباب النقد ونعلمها للناس، ومن أهمّ هذه الأسس التركيز على نقد الفكرة بدل الطعن في صاحبها.

 

3- تفاصيل المظلومية أحداثٌ تاريخية لا عقدية

 

ثمّ إنّ علينا في الوقت عينه، وفي سياق وضع هذه الأمور في نصابها العلمي، وإبعادها عن التشنج أو التجاذب العاطفي اللاموضوعي، أن نحدد الإطار الذي تندرج فيه هذه القضايا والمظالم، فهل هي من سنخ قضايا العقيدة أم من سنخ القضايا التاريخية؟ وتحديد هذا الأمر له العديد من الفوائد

وتترتب عليه نتائج عدة وأهمّها:

 

1- معرفة نوع الدليل الذي يقام في المسألة، لأنّ القضايا العقدية تتطلب أدلة يقينية، وهو ما لا يشترط في القضايا التاريخية وفقاً لما يراه المشهور.

2- أنّها لو كانت قضايا تاريخيّة وليست عقدية، وينطبق عليه معيار المسألة التاريخية[4]، فهذا يعني أنّه لا يترتب على إنكارها سوى إنكار سائر القضايا التاريخية، وليس ما يترتب على إنكار القضايا العقدية.

 

ومن المعلوم، وباعتراف أشدّ المدافعين[5] عن هذه المظالم التي تعرّضت لها السيدة الزهراء (ع)، أنّ هذه الأمور هي من سنخ القضايا التاريخية لا العقدية.

 

ربما يقال: إن هذه الأمور وإن كانت في حدّ نفسها من قضايا التاريخ، ولكنّ انكارها يجرّ إلى إنكار بعض قضايا العقيدة، فإنّ إنكارها يعني براءة فلان وفلان.

 

والجواب: إنّ هذا - فضلاً عن كونه قراءة في نوايا الآخرين وهو ليس من العلم ولا من الدين في شيء - لا يصادم مسألة عقدية، إذ إنّ الأساس هنا هو التبري ممن ظلم أهل البيت (ع)، وإنكار حادثة معيّنة لا يعني تولي هؤلاء ولا إعطاؤهم صك براءة، أفهل يخطر في بال أحد - مثلاً - أنّ من

ينكر وجود ليلى ( زوجة الإمام الحسين) في كربلاء إنّما يهدف في إنكاره إلى إعطاء صك براءة لعمر بن سعد وجيشه الذين روعوا عيال الحسين (ع) ؟!  

 

ثمّ حتى لو كانت المسائل المذكورة من سنخ القضايا العقدية، فالاختلاف في قضايا العقيدة لا يعني إصدار أحكام بالتضليل والتبديع وإسقاط الحرمات؛ لأنّ كثيراً من قضايا العقيدة ليست مسلمات، وإنّما هي مجرد أفكار نظريّة تختلف فيها وجهات وتتعدد الآراء.  

 

إنّه لخطر كبير ربط المذهب بهذه التفاصيل التاريخية بالرغم من خطورتها، وكأنّ انهيار بعض الأفكار التاريخية أو التشكيك بهذه المسألة أو تلك من تفاصيل الأحداث التاريخية سيكون سبباً لانهيار المذهب أو زلزلة العقيدة! إنّ قوام المذهب في أسسه وقواعده الأصيلة وفي حجته القوية.   

 

 وفي الختام: روى الشريف الرضي في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين (ع) وقف بعد دفنه للسيدة الزهراء(ع) عند قبر رسول الله (ص) كَالْمُنَاجِي له فقال: " السَّلَامُ علَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه عَنِّي - وعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، والسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّه عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي ورَقَّ عَنْهَا

تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وصَدْرِي نَفْسُكَ، فَـ {إِنَّا لِلَّه وإِنَّا إِلَيْه راجِعُونَ} [البقرة-156 ]، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّه لِي دَارَكَ

الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ، وسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا - فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا ولَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ ولَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ، والسَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ ولَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّه الصَّابِرِينَ".

 

 

محاضرة أُلقيت في المعهد الشرعي الإسلامي في 26-2-2016



[1] ففي الخبر عن عائشة ، قالت : حدثتني فاطمة قالت : أسرّ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن جبرئيل كان يعارضني بالقرآن كلّ سنة مرة ، وإنه عارضني العام مرتين ، ولا أراه إلَّا قد حضر أجلى ، وإنك أول أهل بيتي لحاقا بي، ونعم السلف أنا لك . قالت : فبكيت . ثم قال : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو نساء العالمين ! فضحكت"، انظر: الاستيعاب لابن عبد البر ج 4 ص 1894،. وروى عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران "انظر: المصدر نفسه..

[2] الطبين: العالمين.

[3] معاني الأخبار ص 355، ودلائل الإمامة للطبري ص 126.

[4] انظر حول هذا الأمر ما ذكرناه في كتاب: أصول الاجتهاد الكلامي ص 109.

[5] في إحدى الجلسات التي جمعتنا بأحد المؤلفين حول تأكيد كل تفاصيل المظلومية المتصلة بالسيدة الزهراء (ع) سأله أحد الشباب الحاضرين: مولانا هل هذه الأمور هي من قضايا العقيدة أو أنها قضايا تاريخية؟ فأجابه: هي في حد نفسها قضايا تاريخية.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon