حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
الشيخ حسين الخشن



قال تعالى: { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [ الأعراف 31].

 

إن عملية استهلاك المال هي مسألة في غاية الأهمية، والإسلام كما يحرص على الاهتمام بعملية جمع المال فإنّه يهتمّ بعملية صرفه واستهلاكه، ومن هنا كان جمع المال وصرفه موردًا للسؤال يوم القيامة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف:" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن .. وعن ماله

من أين اكتسبه وفيما أنفقه". فكما علينا أن نعتني بمصدر المال، ليكون مصدراً محللاً، فإنّ علينا أن نعتني بكيفية صرفه، وهذا ما نتناوله في العناوين التالية:

 

1- حاجات الإنسان بين النظام التكويني والنظام التشريعي

 

إنّ طبيعة الإنسان وما تفرضه من متطلبات واحتياجات تدفعه إلى استهلاك الكثير من موارد الطاقة المودعة في الطبيعة، سواء فيما يمكن عدّه من الضروريات التي يحتاجها الإنسان في نظامه الغذائي أو الصحي، أو السكني أو ما يدخل أو يتصل بما يمكن تسميته "الكماليات" التي يحتاجها للزينة أو

الترفيه عن النفس. والله تعالى قد تكفل للإنسان بتلبية هذه الضرورات والحاجات على السواء، وذلك من خلال:

 

 أولاً: توفير ذلك من خلال النظام الكوني، حيث إنّ الطبيعة - بحمد الله - ليس فيها بخل، ولا نقص، بل إنّ ما زودها الله به كافٍ ووافٍ بتلبية ليس ضرورات الإنسان الأساسية في خصوص المأكل والمشرب والملبس والمسكن بل وحاجياته غير الأساسية التي تتصل بالزينة والترفيه أو غير ذلك، فانظر

في هذا الكون نظرة خبير ومتأمل فستجد أن الطبيعة طيّعة للإنسان ومسخرة له، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [ الملك 15]. ويمكن أن نذكر نموذجاً لهذا السخاء في الطبيعة، وكيفية تمهيدها لتلبية احتياجات الإنسان الضرورية وغير

الضرورية، والنموذج هو ما يتصل بالأنعام، فالأنعام يحتاجها الإنسان لأكل لحومها والإفادة من جلودها، وللركوب على ظهورها، وهذه منافع حسية، تدخل في نطاق الحاجيات الضرورية، وقد يستفيد منها للتجمل، وهذه منفعة معنوية، وتدخل في نطاق الأمور غير الضرورية، ولكنّ الله امتن علينا

بخلق الأنعام لتلبية هذين النوعين من الحاجيات، قال تعالى:{ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [ النحل 5- 8].

 

 

ثانياً: إباحة ذلك وتحليله من خلال شريعته، حيث يتساوق هنا النظام التشريعي مع النظام التكويني، وهذه نقطة مهمة وهي من ألطاف الله تعالى، ومن أبرز معالم الحكمة عنده فيما صنع وشرّع حيث إنّ التشريع الإسلامي يأتي منسجماً مع نظام الفطرة، فلا يكون الإنسان مفطوراً على شيء ويطلب منه

التشريع قمع الفطرة، بل يسعى لتأمينها، ويسعى لإزالة العوائق أمام تلبيتها. ومن هنا لم يحرّم الله علينا شيئا مما نحتاجه من الطيبات أو غيرها، وهكذا ما نتزيّن به، قال عزّ وجلّ: { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [ النحل 114]، والآية المباركة المذكورة أعلاه

نصتّ على إباحة المتعة الحسية والمتعة المعنوية، فقالت: { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [ الأعراف 31]. وقد ابتدأت بالزينة مع أنها ليست من الحاجيات الأساسية للإنسان ويمكنه أن يعيش بدونها، وإذا كانت هذه مباحة فبالأولى أن تكون الحاجة الضرورية المذكورة بعد ذلك

مباحة، وهي الأكل والشرب.

 

 

2- الاعتدال في الاستهلاك

 

وليس على عملية الصرف والاستهلاك من قيود أو شروط وضعها المشرع الإسلامي، إلا شرط منطقي واحد وهو أن يكون - بالإضافة إلى كونه في الوجوه المحللة - سائراً في خط الاعتدال والتوازن، والاعتدال يعني الابتعاد عن الإفراط والتفريط، فلا بخل ولا سرف، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء 29].

 

فالتقتير أو البخل على النفس أو على العيال مرفوض، وهذا معنى أن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وفي الحديث عن الإمام الرضا (ع):" صاحب النعمة يجب عليه التوسعة على عياله"[1]. إن الإسلام يدعو إلى التوسعة على العيال مع القدرة، وفي المقابل فإنّ الإسراف محرّم ومبغوض لله تعالى،

والإسراف هو أخطر ما يواجه طاقات الأرض حيث إنّ إنسان اليوم يستنزف منها بشكل جنوني، وهذا معنى أن يبسطها كل البسط، وقد يكون الإسراف هو الطغيان الوارد في قوله تعالى: { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [ طه 81]،

ومما يؤسف له أن يتحوّل شهر رمضان إلى شهر التبذير والإسراف والموائد الفاخرة التي يذهب معظمها إلى أكياس القمامة، والحال أن الصوم يجب أن يؤدي إلى توفيرٍ في الاستهلاك وترشيدٍ في عملية الإنفاق.

 

إن الاعتدال في الصرف هو الذي سيؤمن الحياة الكريمة لكل أبناء الإنسان، لكنّ ما يجري اليوم وقبل اليوم أنّ فئة قليلة من الناس هم الذين يتنعمون بخيرات الأرض والبقيّة يبيتون جياعاً، ومن تنبع أهمية النظام العادل الذي يسعى لتوزيع ثروات الأرض على جميع الناس مانعاً الاستغلال والإسراف والطغيان. 

 

 

3- تنظيم عمليّة الصرف

 

وهذا الأمر يقودنا إلى مسألة في غاية الأهمية وهي مسألة تنظيم عملية الصرف، فإنّ الإنسان بحاجة إلى أن ينظم عمليّة الاستهلاك حتى لا يقع في ظلم النفس أو ظلم الغير، وتنظيم عملية الصرف تعبّر عن رشد ووعي، والإنسان الذي لا يراعي أولوياته، فيصرف راتبه مثلاً في الكماليات مع أنّ لديه

حاجات ضرورية له ولعياله في الأكل والشرب والدواء مثلاً قد يُحكم عليه شرعا بأنّه شخص سفيه، والسفيه لا يدفع إليه المال، بل يجعل عليه ولي، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء-5 ]،.

 

وتنظيم عملية الصرف يجب أن يراعي فيه الاعتبارات التالية:

 

أولاً: التوازن بين الدخل والصرف

 

في توجيهه للإنسان نحو تنظيم عملية الصرف يحرص التشريع الإسلامي على رعاية قدر من التوازن بين الدخل وبين الصرف، وذلك بتشجيعه للفرد وحثّه له على مراعاة ظروفه، فإذا أقبلت الدنيا عليه فلا يقتّر على نفسه فهو أحقّ من تنعم بخيراتها، وإذا أدبرت وتنكرت له وضاقت به الأمور وانسدت

السبل في وجهه فليصبر وليعمل على تنظيم أو تخفيف عملية الصرف، ولا يبدد ما يملكه من أموال فيما يحتاجه وفيما لا يحتاجه، فهذا خلاف الرشد،  قال تعالى: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [ الطلاق 7].

وفي الحديث عن رسول الله (ص):" إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا إذا وسع عليه وسع وإذا أمسك عليه أمسك"[2].

 

 وعن أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِذَا جَادَ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَيْكُمْ فَجُودُوا وإِذَا أَمْسَكَ عَنْكُمْ فَأَمْسِكُوا ولَا تُجَاوِدُوا اللَّه فَهُوَ الأَجْوَدُ"[3].

 

ولكنّ بعضهم يقول لك توكل على الله تعالى، و"اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب" هذا مثلٌ شعبي ليس صحيحاً على إطلاقه، ولعلّ المثل الصحيح في المقام هو المثل القائل:" قد (بمقدار) بساطك مدّ رجليك"، ولهذا ورد في الأخبار  فمن جملة موانع الدعاء أن يكون بيد الشخص مال فينفقه في سبيل

الله دون أن يترك شيئاً لعياله فهذا لا يستجاب له، بل يقال له: ألم أرزقك وآمرك بالاقتصاد في الصرف؟! 

 

إنّ مسألة رعاية التوازن بين الدخل والصرف مهمة جداً وهي تريح الإنسان، ومع الأسف فإنّ البعض اليوم راتبه مليون ليرة أو مليون دينار وهو لا يراعي ذلك فيصرف مليونين، فيراكم عليه الديون والهموم، لأنّ الدين همٌ، مع أنّ بإمكانه أن يخفف من مصروفه في بعض الكماليات التي لا ضرورة لها.

 

ثانياً: ضرورة رعاية الأولويات

 

فعلى الإنسان ولا سيما ربّ الأسرة أن يدرس حاجياته المهمة والتي لا يستغنى عنها ويضعها في سلّم أولوياته في عملية الصرف، فيقدم المهم ويؤخر سواه، في الحديث عن رسول الله (ص):" إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان فضلا فعلى عياله فإن كان فضلا فعلى قرابته أو على ذي رحمه

فإن كان فضلا فههنا وههنا"[4]..

 

وفي الحديث عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : "أتى رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بدينارين فقال : يا رسول الله أريد ان احمل بهما في سبيل الله قال : ألك والدان أو أحدهما ؟ قال : نعم قال : اذهب فأنفقهما على والديك فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله ، فرجع ففعل فأتاه بدينارين

آخرين قال : قد فعلت وهذان ديناران أريد أن أحمل بهما في سبيل الله قال : ألك ولد ؟ قال : نعم قال ( عليه السلام ) : فاذهب فأنفقهما على ولدك فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله، فرجع ففعل فأتاه بدينارين آخرين فقال : يا رسول الله قد فعلت وهذان ديناران آخران أريد ان احمل بهما في سبيل الله،

فقال : ألك زوجة ؟ قال : نعم قال : أنفقهما على زوجتك فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله ، فرجع وفعل فاتاه بدينارين آخرين فقال : يا رسول الله قد فعلت وهذان ديناران أريد أن أحمل بهما في سبيل الله فقال : ألك خادم ؟ قال : نعم قال : اذهبْ فأنفقهما على خادمك فهو خير لك من أن تحمل بهما

في سبيل الله ففعل ، فأتاه بدينارين آخرين فقال : يا رسول الله وهذه ديناران أريد أن أحمل بهما في سبيل الله فقال : احملهما واعلم بأنهما ليسا بأفضل ديناريك"[5].

 

 

ثالثاً: رعاية مقتضيات الزمان والمكان

 

والأمر الآخر الذي لا بدّ من الأخذ به في تنظيم عملية الصرف، هو رعاية مقتضيات الزمان والمكان، فلكل زمان حاجياته وضروراته، فتارة يكون الزمان زمان سعة وتُقبل فيه الدنيا بالخيرات على عامة العباد، وفي هذه الحالة من حقِ الإنسان أن يتنعم ولا حرج عليه أن يوسِع على نفسه وأن يظهر

نعمة الله عليه، فيشتري أفضل السلع وأحسنها، وتارة يكون الزمان زمان ضيق وعسرة وفي هذه الحالة على الحكيم حتى لو كان يملك مالاً وفيراً أن لا يراعي ظروف الآخرين ولا يخدش مشاعرهم فيتنعم بالخيرات أمام أعينهم، وهذا ما يفسر لنا اختلاف سيرة الأئمة من أهل البيت (ع) في اللبس والأكل،

فعلي (ع) كان شديدأ على نفسه بينما نجد الإمام الصادق (ع) مثلاً يعتمد سيرة مختلفة، يروى عن سفيان الثوري قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أنت تروي أنّ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كان يلبس الخشن وأنت تلبس القوهي (ثياب بيضاء مميزة ) والمروي ! قال : ويحك إن علي بن

أبي طالب كان في زمان ضيق ، فإذا اتسع الزمان فأبرار الزمان أولى به"[6].

 

إنّ مراعاة هذا الأمر قد تدخل في نطق الأخلاقيات الإسلامية ولا يحكم شرعا بإلزام الفرد الغني بالتنعم ما دام قد أدى ما عليه من واجبات، أجل ثمة استثناء وحيد قد يذكر هنا وهو الحاكم العادل، فلربما يحكم بلزوم تركه للتنعم المبالغ فيه إذا كان وضع العامة هو الفقر المدقع، استناداً إلى ما روي عن

الإمام علي (ع): فقد ذكروا أنّه بينما كان في البصرة دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال : مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِه الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، وأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ، وبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ، تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وتُطْلِعُ مِنْهَا

الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ، فَقَالَ لَه الْعَلَاءُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ، قَالَ: ومَا لَه ؟ قَالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا! قَالَ: عَلَيَّ بِه، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: يَا عُدَيَّ نَفْسِه لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ، أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ ووَلَدَكَ، أَتَرَى اللَّه أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وهُوَ يَكْرَه أَنْ

تَأْخُذَهَا، أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّه مِنْ ذَلِكَ، قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ، قَالَ: وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ، إِنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ، الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُه"[7]. السلام عليك يا أمير المؤمنين.

محاضرة رمضانية 1437 هـ / 2016 مـ.

نُشرت على لموقع في 30-6-2016

 



[1] الكافي ج 4 ص 11.

[2] كنز العمال ج 6 ص 348، ورواه الحر العملي عن الإمام الصادق (ع) :" إنّ المؤمن يأخذ بآداب الله ، إن وسّع عليه وسّع ، وإذا أمسك عنه أمسك"، هداية الأمة ج 7 ص 351..

[3] الكافي ج 4 ص 54.

[4] سنن النسائي ج 7 ص 304.

[5] تهذيب الأحكام ج 6 ص 171.

[6] تحف العقول ص 97.

[7] نهج البلاغة ج 2 ص 188.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon