حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> فقهية
التداوي بالقرآن والأحراز
الشيخ حسين الخشن



 

 يسود في بعض الاوساط الاسلامية اعتقاد بشأن مسألة الاستفتاء, مفاده: أن المداواة بالقرآن وسوره ,أو بالادعية و الاذكار و الرقي و الاحراز , هي الأسلوب الناجع , وربما الوحيد في معالجة الامراض , و يعتمد أصحاب هذا الاعتقاد على ما ورد في الكتاب و السنة, مما يؤكد أن الشفاء بيد الله تعالى كما في قوله سبحانه {وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء:80), وقوله تعالى {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا} (الاسراء:82) وربما تبنى هذا الاعتقاد الشيخ الصدوق رحمه الله حيث قال:

 

"وأما أدوية العلل الصحيحة عن الأئمة, فهي آيات القرآن, وسوره والأدعية  على حسب ما وردت به الآثار بالأسانيد القوية والطرق الصحيحة" ( الاعتقادات في دين الإمامية:116 ).

 

ولكن هذا الاعتقاد غير دقيق بنظرنا, ويمكن أن نسجل عليه بعض الملاحظات:

 

الشفاء وقانون العلية:

 

الملاحظة الأولى: أن سنّة الله جرت على ارتباط المسببات بأسبابها , وفق قانون العلّيّة ,فمن رام الرزق فعليه بالكد والعمل , ومن أراد النصر فعليه بإعداد العدّة والعدد , ومن رغب بالشفاء والعافية, فعليه استعمال الدواء المناسب ,هذه هي القاعدة الصحيحة المستفادة من القرآن الكريم والسنة النبوية , وعلى الإنسان أن يتحرك وفقها , ليكتشف أسباب الأمراض وعوارضها , بالملاحظة و التجربة , ويتعرف على مضاداتها وطرق علاجها بالوسائل العلمية, دون أن يعني ذلك المسّ بقدرة الله وصفاته, فالله سبحانه هو الشافي حقيقة , لكنه يشفي من خلال الأسباب الطبيعية , وبتوسط الأدوية التي أودع فيها خاصية الشفاء , تماما كما يرزق العباد بتوسط أسباب الرزق المتعددة, من دون أن يعني ذلك إلغاء دور الدعاء, وطلب العافية من الله سبحانه , فإننا نطلب منه أن يمن علينا بالعافية من خلال استعمالنا للدواء, و أخذنا بأسباب الشفاء , ومنه يتضح معنى قوله تعالى على لسان ابراهيم "واذا مرضت فهو يشفين" , فإبراهيم (ع) لا يريد القول بأن الله يشفيه بشكل مباشر,و بعيدا عن أسباب الشفاء, وهذا ما يشهد به السياق, أعني قوله تعالى قبل هذه الآية:"والذي هو يطعمني ويسقين" فمن المعلوم أن سنته وعادته تعالى جرت على أن لا يطعم الإنسان بشكل مباشر , بعيدا عن طلب الرزق , و الأخذ بأسبابه.

 

وأما ما جرى أو يجري مع بعض الأولياء, أو غيرهم من حصول الشفاء دون استعمال الدواء, أو الرزق من دون طلب, كما حصل لمريم (ع) التي حدثنا القرآن , أن رزقها كان يأتيها من عند الله " كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب"(آل عمران:37), فهي حالات استثنائية ونادرة, تدخل في اطار المعاجز و الكرامات, والحياة لا تتحرك ولا تسير على هذا الاساس غير المضمون النتائج لعامة الناس, وهكذا لا يمكن التعويل على مجرد الدعاء وحده, لان الله قد لا يستجيب الدعاء لبعض الموانع, أو لفقد بعض شروط الاستجابة, أو لبعض المصالح التي لا يعلمها غيره, الأمر الذي يحتم علينا التحرك وفق القاعدة العامة , أعني مبدأ العلّيّة و ارتباط الأسباب بأسبابها, وإن الشواهد القرآنية و الحديثية التي تؤكد هذا المبدأ أكثر من أن تحصى , ويكفي أن نشير هنا إلى أن رسول الله (ص) أمر بالتداوي باعتبار أن الذي خلق الداء خلق الدواء, وسأله رجل :أأعقل ناقتي و أتوكل؟ فقال(ص) :" إعقلها وتوكل"(سنن الترمذي 5\417 ).

 

التداوي بالقرآن:

 

والملاحظة الثانية: أن التداوي بآيات القرآن وسوره , أمر غير ثابت , ويفتقر إلى الدليل الصحيح, لأن قوله تعالى : {وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } لا يراد به حسب الظاهر أنه عقار ودواء لأمراض الجسد, و إنما هو شفاء لأمراض القلوب و الأرواح ,وأمراض المجتمع , فعن أمير المؤمنين (ع) : "إن في القرآن شفاء من أكبر الداء , و هو الكفر والنفاق والبغي والضلال" (نهج البلاغة).يقول العلامة الطبطبائي رحمه الله في تفسير الآية المتقدمة:

 

"فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة, كما أنه هدى ورحمة للنفوس غير الآمنة من الضلال , وبذلك تظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء ", ويضيف: "فمعنى قوله {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} :وننزل اليك أمرا يشفي أمراض القلوب ويزيلها, و يعيد اليها حالة الصحة و الاستقامة , فتتمتع بنعمة السعادة والكرامة" (الميزان 184\13).

 

و أما الروايات الواردة في الاستشفاء بآيات القرآن الكريم, فهي بحسب التتبع ضعيفة الاسناد, كما في مرسلة ابن سابور في طب الأئمة , عن أبي عبد الله (ع) "ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاة قط , فقال بإخلاص نية , ومسح موضع العلة : "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" إلا عوفي من تلك العلة, أية علة , ومصداق ذلك في الآية حيث يقول "شفاء ورحمة للمؤمنين"(طب الأئمة:28).

 

التداوي بالأحراز:

 

ثم لو صحت هذه الروايات, فإن سبيلها سبيل الروايات الواردة في مسألة التداوي بالأحراز و الرقي و العوذات , فإنها مع صرف النظر عن أسانيدها , لا ترمي إلى القول بارتباط الشفاء بشكل مباشر بالأحراز و نحوها ,بل تهدف إلى تأكيد مبدأ الإرتباط بالله, و اللجوء إلى اليه في كل المصاعب و الشدائد, و هذا الارتباط له تأثير بالغ وغير مباشر في حصول الشفاء, لأن من الثابت علميا و المشاهد بالعيان, أن الألم النفسي الذي يصيب الإنسان بفعل الحزن والخوف و الإضطراب والقلق هو منشأ الكثير من الأمراض , كما أنه يمكّن المرض من الفتك بجسم الإنسان, ما يجعل الدواء غير ذي جدوى, إلا إذا اقترن بتقبل المريض لمرضه ,و إن أفضل أسلوب يعتمده الإنسان في محاولة التغلب على المرض, هو اللجوء الى الله , و الركون الى حسن تدبيره وقضائه ,و من هنا تأتي هذه الأدعية و الأحراز و العوذات, كغذاء روحي يبعث الأمل و التفاؤل لدى المريض , مما يساعده على عدم السقوط أمام المرض, أما أن يكون لها تأثير مباشر ومستقل في الشفاء, بعيدا عن قانون العلّية وعن الأخذ بالأسباب الطبيعية, فهذا أمر لا تساعد عليه الأدلة , ولا هو ثابت إلا على نحو الكرامة, وهي حالة استثنائية و نادرة, كما أسلفنا.

 

المفيد وتوقيفية الطب:

 

هذا و للشيخ المفيد رأيا لا يخلو من غرابة, إن حمل على ظاهره, و حاصل ما يراه : أن مسألة الطب و المداواة مسألة توقيفية , ترتبط بالوحي دون سواه , قال رحمة الله :

 

"الطب صحيح , و العلم به ثابت, وطريقه الوحي, وإنما أخذه العلماء عن الأنبياء ,وذلك أن لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلا بالسمع,و لا سبيل الى معرفة الدواء الا بالتوقيف, فثبت ان طريق ذلك هو السمع عن العالم بالخفيات تعالى" (مصنفات الشيخ المفيد :5\144 ).

 

 و بالامكان أن نثير أمام هذا الكلام عدة ملاحظات:

 

أولاً: أن الأخذ به على ظاهره, والإلتزام بتوقيفية علم الطب, وأن طريقه هو الوحي فحسب, يعني نسف علم الطب وإلغائه من رأس, والتنكر لكل الجهود الطبية الهادفة للتعرف على أسباب الداء, وخصائص الدواء من خلال التجربة و الملاحظة.
ثانيا: إن الداء هو اعتلال جسدي له أسبابه الطبيعية المفهومة, أو التي يمكن تفهمها و التعرف عليها ,كما أن الدواء هو علاج و مضاد يحوي خصائص طبيعية معينة, من شأنها في حال اكتشافها القضاء على المرض أو محاصرته, فلا الداء أمر كيفي ولا الدواء أمر توقيفي, و عليه فالسبيل الأمثل لمعرفة المرض وأعراضه, والدواء و خصائصه, هو التجربة و الملاحظة الدقيقة, لا الوحي و الغيب , لأن محمّدا(ص) كغيره من الأنبياء لم يبعث طبيبا , بل بعث هاديا ورسولا للناس كافة ,أجل هو طبيب النفوس كما وصفه علي (ع) "طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه واحمى مواسمه, يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي و آذان صم وألسنة بكم , متتبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة..." (نهج البلاغة: 1\207).

 

 و على ضوء ما تقدم فإننا نسجل تحفّظا على ما قد يصطلح عليه البعض بالطب الديني و الروحاني أو الدواء الشرعي, فإن الشرع ليس له أدوييته وعقاقيره الخاصة فيما يرتبط بصحة الإنسان, بعيدا عما تكشف التجربة جدواه, وتبرهن على فعاليته, و المرجع في ذلك هم أهل الخبرة , من الأطباء المختصين, و ليس علماء الدين و الفقهاء, فإذا  وصف الطبيب دواء للمريض ينبغي له الأخذ به, بل ربما وجب عليه ذلك , و إن لم يكن هذا الدواء واردا 
في النصوص , كما لو أنه نهاه عن إستعمال دواء, لأنه مضر بصحته فعلى المريض اجتنابه , و إن كان واردا في النصوص و الروايات.

 

الأئمة (ع) يراجعون الأطباء:

 

   وإنّ خير دليل على صحة ما ذكرناه , من أنه لا تعبّد في قضايا الطب , لجهة استعمال الدواء أو تشخيص الداء , هو ما جاء في سيرة النبي (ص) و أهل بيته (ع), فقد أمروا بالتداوي, لأن الذي خلق الداء خلق الدواء, ولم يسجل التاريخ لهم موقفا سلبيا من الطب و الأطباء , بل كانوا أنفسهم يستدعون الأطباء للمعالجة أو يأذنون بذلك , ولا يمانعون منه إذا ابتلوا هم أو أصحابهم ببعض الأمراض , ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع) ان قوما من الأنصار, قالوا يا رسول الله إن لنا جارا اشتكى بطنه , أفتأذن لنا أن نداويه ؟ قال : "بماذا تداوونه ؟" قالوا : يهودي عندنا يعالح من هذه العلة , قال : "بماذا ؟" قالوا : يشق بطنه فيستخرج منه شيئا , فكره ذلك رسول الله (ص) فعاودوه مرتين أو ثلاثا , فقال: "إفعلوا ما شئتم, فدعوا اليهودي فشق بطنه, و نزع منه رجرجا كثيرا, ثم غسل بطنه ثم خاطه وداواه, فصح, فأخبر النبي (ص) فقال: "إن الذي خلق الأدواء خلق لها دواء ..." ( دعائم الإسلام ج2 ص144 ).

 

   وفي الحديث أن علياً(ع) لما ضربه ابن متجم بالسيف على رأسه "جُمع له أطباء الكوفة، فلم يكن منهم أحد أعتم بجرحه من أثير بن عمرو بن هاني السكوني، وكان مطبباًج الج صاحب كرسي يعالج الجراحات، وكان من الاربعين غلاما الذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم، وإن أثير لما نظر غلى جرح امير المؤمنين(ع) دعا برئة شاة حارة واستخرج عرقاً منها، فادخله في الجرح، ثم استخرجه، فإذا عليه بياض الدماغ، فقال له: "يا أمير المؤمنين إعهدْ عهدك، فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى ام راسك، فدعا علي(ع) عند ذلك بصحيفة ودواة وكتب وصيته..." (مقاتل الطالبين، ص23.)

 

هكذا تأخر المسلمون:
   
وهكذا فليس غريباً أن يتاخر المستمون في علم الطب، بعد أن كانوا رواداً في هذا المجال طوأغنوا بمؤلفاتهم التراث الطبي  في الشرق والغرب: كما يقول الدكتور فليب حتي، (راجع كتاب موجز تاريخ الشرق الادنى ص192.)، ليس مستغرباً ان يتأخروا، بعدأن سادت بينهم فكرة الطب التعبدي، الذي يفتش أصحابه عن طرق وأساليب المداواة في النصوص والروايات، بدل التعرف على أسباب الأمراض وعوارضها، اعتماداً على التجربة والملاحظة الحسية، ومن ثم يعمل على اكتشاف مضادتها الحيوية، من خلال ما أودعه الله في هذا الكون الفسيح، من مكونات الشفاء وخصائصه.

 

   وليس اقل غرابة من ذلك، انتشار فكرة التداوي بالتمائم والأحراز، أو سور القرآن الكريم، اعتماداً على نظرة خاطئة، وفهم مبتور لبعض الآيات والروايات التي تؤكد على ضرورة اللجوء إلى الله سبحانه، وطلب العون منه، بما لا ينافي مبدأ الأسباب والمسببات كما تقدم.

 

   وقد وصل الأمر ببعض الناس إلى حد الاستشكال في الذهاب والرجوع إلى الأطباء، لأن ذلك بزعمهم ينافي إخلاص التوحيد لله، لأنه هو الشافي والمعافي وبيده الأمور كلها، مع أن من الواضح أن استعمال الدواء والرجوع إلى اهل الخبرة من الأطباء، لا ينافي كون الله هو الشافي، وهوعلة العلل، باعتبار أنه الذي خلق خاصية الشفاء في الدواء.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon