التداوي بالقرآن والأحراز
الشيخ حسين الخشن
يسود في بعض الاوساط الاسلامية اعتقاد بشأن مسألة الاستفتاء, مفاده: أن المداواة بالقرآن وسوره ,أو بالادعية و الاذكار و الرقي و الاحراز , هي الأسلوب الناجع , وربما الوحيد في معالجة الامراض , و يعتمد أصحاب هذا الاعتقاد على ما ورد في الكتاب و السنة, مما يؤكد أن الشفاء بيد الله تعالى كما في قوله سبحانه {وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء:80), وقوله تعالى {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا} (الاسراء:82) وربما تبنى هذا الاعتقاد الشيخ الصدوق رحمه الله حيث قال:
"وأما أدوية العلل الصحيحة عن الأئمة, فهي آيات القرآن, وسوره والأدعية على حسب ما وردت به الآثار بالأسانيد القوية والطرق الصحيحة" ( الاعتقادات في دين الإمامية:116 ).
ولكن هذا الاعتقاد غير دقيق بنظرنا, ويمكن أن نسجل عليه بعض الملاحظات:
الشفاء وقانون العلية:
الملاحظة الأولى: أن سنّة الله جرت على ارتباط المسببات بأسبابها , وفق قانون العلّيّة ,فمن رام الرزق فعليه بالكد والعمل , ومن أراد النصر فعليه بإعداد العدّة والعدد , ومن رغب بالشفاء والعافية, فعليه استعمال الدواء المناسب ,هذه هي القاعدة الصحيحة المستفادة من القرآن الكريم والسنة النبوية , وعلى الإنسان أن يتحرك وفقها , ليكتشف أسباب الأمراض وعوارضها , بالملاحظة و التجربة , ويتعرف على مضاداتها وطرق علاجها بالوسائل العلمية, دون أن يعني ذلك المسّ بقدرة الله وصفاته, فالله سبحانه هو الشافي حقيقة , لكنه يشفي من خلال الأسباب الطبيعية , وبتوسط الأدوية التي أودع فيها خاصية الشفاء , تماما كما يرزق العباد بتوسط أسباب الرزق المتعددة, من دون أن يعني ذلك إلغاء دور الدعاء, وطلب العافية من الله سبحانه , فإننا نطلب منه أن يمن علينا بالعافية من خلال استعمالنا للدواء, و أخذنا بأسباب الشفاء , ومنه يتضح معنى قوله تعالى على لسان ابراهيم "واذا مرضت فهو يشفين" , فإبراهيم (ع) لا يريد القول بأن الله يشفيه بشكل مباشر,و بعيدا عن أسباب الشفاء, وهذا ما يشهد به السياق, أعني قوله تعالى قبل هذه الآية:"والذي هو يطعمني ويسقين" فمن المعلوم أن سنته وعادته تعالى جرت على أن لا يطعم الإنسان بشكل مباشر , بعيدا عن طلب الرزق , و الأخذ بأسبابه.
وأما ما جرى أو يجري مع بعض الأولياء, أو غيرهم من حصول الشفاء دون استعمال الدواء, أو الرزق من دون طلب, كما حصل لمريم (ع) التي حدثنا القرآن , أن رزقها كان يأتيها من عند الله " كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب"(آل عمران:37), فهي حالات استثنائية ونادرة, تدخل في اطار المعاجز و الكرامات, والحياة لا تتحرك ولا تسير على هذا الاساس غير المضمون النتائج لعامة الناس, وهكذا لا يمكن التعويل على مجرد الدعاء وحده, لان الله قد لا يستجيب الدعاء لبعض الموانع, أو لفقد بعض شروط الاستجابة, أو لبعض المصالح التي لا يعلمها غيره, الأمر الذي يحتم علينا التحرك وفق القاعدة العامة , أعني مبدأ العلّيّة و ارتباط الأسباب بأسبابها, وإن الشواهد القرآنية و الحديثية التي تؤكد هذا المبدأ أكثر من أن تحصى , ويكفي أن نشير هنا إلى أن رسول الله (ص) أمر بالتداوي باعتبار أن الذي خلق الداء خلق الدواء, وسأله رجل :أأعقل ناقتي و أتوكل؟ فقال(ص) :" إعقلها وتوكل"(سنن الترمذي 5\417 ).
التداوي بالقرآن:
والملاحظة الثانية: أن التداوي بآيات القرآن وسوره , أمر غير ثابت , ويفتقر إلى الدليل الصحيح, لأن قوله تعالى : {وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } لا يراد به حسب الظاهر أنه عقار ودواء لأمراض الجسد, و إنما هو شفاء لأمراض القلوب و الأرواح ,وأمراض المجتمع , فعن أمير المؤمنين (ع) : "إن في القرآن شفاء من أكبر الداء , و هو الكفر والنفاق والبغي والضلال" (نهج البلاغة).يقول العلامة الطبطبائي رحمه الله في تفسير الآية المتقدمة:
"فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة, كما أنه هدى ورحمة للنفوس غير الآمنة من الضلال , وبذلك تظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء ", ويضيف: "فمعنى قوله {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} :وننزل اليك أمرا يشفي أمراض القلوب ويزيلها, و يعيد اليها حالة الصحة و الاستقامة , فتتمتع بنعمة السعادة والكرامة" (الميزان 184\13).
و أما الروايات الواردة في الاستشفاء بآيات القرآن الكريم, فهي بحسب التتبع ضعيفة الاسناد, كما في مرسلة ابن سابور في طب الأئمة , عن أبي عبد الله (ع) "ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاة قط , فقال بإخلاص نية , ومسح موضع العلة : "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" إلا عوفي من تلك العلة, أية علة , ومصداق ذلك في الآية حيث يقول "شفاء ورحمة للمؤمنين"(طب الأئمة:28).
التداوي بالأحراز:
ثم لو صحت هذه الروايات, فإن سبيلها سبيل الروايات الواردة في مسألة التداوي بالأحراز و الرقي و العوذات , فإنها مع صرف النظر عن أسانيدها , لا ترمي إلى القول بارتباط الشفاء بشكل مباشر بالأحراز و نحوها ,بل تهدف إلى تأكيد مبدأ الإرتباط بالله, و اللجوء إلى اليه في كل المصاعب و الشدائد, و هذا الارتباط له تأثير بالغ وغير مباشر في حصول الشفاء, لأن من الثابت علميا و المشاهد بالعيان, أن الألم النفسي الذي يصيب الإنسان بفعل الحزن والخوف و الإضطراب والقلق هو منشأ الكثير من الأمراض , كما أنه يمكّن المرض من الفتك بجسم الإنسان, ما يجعل الدواء غير ذي جدوى, إلا إذا اقترن بتقبل المريض لمرضه ,و إن أفضل أسلوب يعتمده الإنسان في محاولة التغلب على المرض, هو اللجوء الى الله , و الركون الى حسن تدبيره وقضائه ,و من هنا تأتي هذه الأدعية و الأحراز و العوذات, كغذاء روحي يبعث الأمل و التفاؤل لدى المريض , مما يساعده على عدم السقوط أمام المرض, أما أن يكون لها تأثير مباشر ومستقل في الشفاء, بعيدا عن قانون العلّية وعن الأخذ بالأسباب الطبيعية, فهذا أمر لا تساعد عليه الأدلة , ولا هو ثابت إلا على نحو الكرامة, وهي حالة استثنائية و نادرة, كما أسلفنا.
المفيد وتوقيفية الطب:
هذا و للشيخ المفيد رأيا لا يخلو من غرابة, إن حمل على ظاهره, و حاصل ما يراه : أن مسألة الطب و المداواة مسألة توقيفية , ترتبط بالوحي دون سواه , قال رحمة الله :
"الطب صحيح , و العلم به ثابت, وطريقه الوحي, وإنما أخذه العلماء عن الأنبياء ,وذلك أن لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلا بالسمع,و لا سبيل الى معرفة الدواء الا بالتوقيف, فثبت ان طريق ذلك هو السمع عن العالم بالخفيات تعالى" (مصنفات الشيخ المفيد :5\144 ).
و بالامكان أن نثير أمام هذا الكلام عدة ملاحظات:
أولاً: أن الأخذ به على ظاهره, والإلتزام بتوقيفية علم الطب, وأن طريقه هو الوحي فحسب, يعني نسف علم الطب وإلغائه من رأس, والتنكر لكل الجهود الطبية الهادفة للتعرف على أسباب الداء, وخصائص الدواء من خلال التجربة و الملاحظة.
ثانيا: إن الداء هو اعتلال جسدي له أسبابه الطبيعية المفهومة, أو التي يمكن تفهمها و التعرف عليها ,كما أن الدواء هو علاج و مضاد يحوي خصائص طبيعية معينة, من شأنها في حال اكتشافها القضاء على المرض أو محاصرته, فلا الداء أمر كيفي ولا الدواء أمر توقيفي, و عليه فالسبيل الأمثل لمعرفة المرض وأعراضه, والدواء و خصائصه, هو التجربة و الملاحظة الدقيقة, لا الوحي و الغيب , لأن محمّدا(ص) كغيره من الأنبياء لم يبعث طبيبا , بل بعث هاديا ورسولا للناس كافة ,أجل هو طبيب النفوس كما وصفه علي (ع) "طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه واحمى مواسمه, يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي و آذان صم وألسنة بكم , متتبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة..." (نهج البلاغة: 1\207).
و على ضوء ما تقدم فإننا نسجل تحفّظا على ما قد يصطلح عليه البعض بالطب الديني و الروحاني أو الدواء الشرعي, فإن الشرع ليس له أدوييته وعقاقيره الخاصة فيما يرتبط بصحة الإنسان, بعيدا عما تكشف التجربة جدواه, وتبرهن على فعاليته, و المرجع في ذلك هم أهل الخبرة , من الأطباء المختصين, و ليس علماء الدين و الفقهاء, فإذا وصف الطبيب دواء للمريض ينبغي له الأخذ به, بل ربما وجب عليه ذلك , و إن لم يكن هذا الدواء واردا
في النصوص , كما لو أنه نهاه عن إستعمال دواء, لأنه مضر بصحته فعلى المريض اجتنابه , و إن كان واردا في النصوص و الروايات.
الأئمة (ع) يراجعون الأطباء:
وإنّ خير دليل على صحة ما ذكرناه , من أنه لا تعبّد في قضايا الطب , لجهة استعمال الدواء أو تشخيص الداء , هو ما جاء في سيرة النبي (ص) و أهل بيته (ع), فقد أمروا بالتداوي, لأن الذي خلق الداء خلق الدواء, ولم يسجل التاريخ لهم موقفا سلبيا من الطب و الأطباء , بل كانوا أنفسهم يستدعون الأطباء للمعالجة أو يأذنون بذلك , ولا يمانعون منه إذا ابتلوا هم أو أصحابهم ببعض الأمراض , ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع) ان قوما من الأنصار, قالوا يا رسول الله إن لنا جارا اشتكى بطنه , أفتأذن لنا أن نداويه ؟ قال : "بماذا تداوونه ؟" قالوا : يهودي عندنا يعالح من هذه العلة , قال : "بماذا ؟" قالوا : يشق بطنه فيستخرج منه شيئا , فكره ذلك رسول الله (ص) فعاودوه مرتين أو ثلاثا , فقال: "إفعلوا ما شئتم, فدعوا اليهودي فشق بطنه, و نزع منه رجرجا كثيرا, ثم غسل بطنه ثم خاطه وداواه, فصح, فأخبر النبي (ص) فقال: "إن الذي خلق الأدواء خلق لها دواء ..." ( دعائم الإسلام ج2 ص144 ).
وفي الحديث أن علياً(ع) لما ضربه ابن متجم بالسيف على رأسه "جُمع له أطباء الكوفة، فلم يكن منهم أحد أعتم بجرحه من أثير بن عمرو بن هاني السكوني، وكان مطبباًج الج صاحب كرسي يعالج الجراحات، وكان من الاربعين غلاما الذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم، وإن أثير لما نظر غلى جرح امير المؤمنين(ع) دعا برئة شاة حارة واستخرج عرقاً منها، فادخله في الجرح، ثم استخرجه، فإذا عليه بياض الدماغ، فقال له: "يا أمير المؤمنين إعهدْ عهدك، فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى ام راسك، فدعا علي(ع) عند ذلك بصحيفة ودواة وكتب وصيته..." (مقاتل الطالبين، ص23.)
هكذا تأخر المسلمون:
وهكذا فليس غريباً أن يتاخر المستمون في علم الطب، بعد أن كانوا رواداً في هذا المجال طوأغنوا بمؤلفاتهم التراث الطبي في الشرق والغرب: كما يقول الدكتور فليب حتي، (راجع كتاب موجز تاريخ الشرق الادنى ص192.)، ليس مستغرباً ان يتأخروا، بعدأن سادت بينهم فكرة الطب التعبدي، الذي يفتش أصحابه عن طرق وأساليب المداواة في النصوص والروايات، بدل التعرف على أسباب الأمراض وعوارضها، اعتماداً على التجربة والملاحظة الحسية، ومن ثم يعمل على اكتشاف مضادتها الحيوية، من خلال ما أودعه الله في هذا الكون الفسيح، من مكونات الشفاء وخصائصه.
وليس اقل غرابة من ذلك، انتشار فكرة التداوي بالتمائم والأحراز، أو سور القرآن الكريم، اعتماداً على نظرة خاطئة، وفهم مبتور لبعض الآيات والروايات التي تؤكد على ضرورة اللجوء إلى الله سبحانه، وطلب العون منه، بما لا ينافي مبدأ الأسباب والمسببات كما تقدم.
وقد وصل الأمر ببعض الناس إلى حد الاستشكال في الذهاب والرجوع إلى الأطباء، لأن ذلك بزعمهم ينافي إخلاص التوحيد لله، لأنه هو الشافي والمعافي وبيده الأمور كلها، مع أن من الواضح أن استعمال الدواء والرجوع إلى اهل الخبرة من الأطباء، لا ينافي كون الله هو الشافي، وهوعلة العلل، باعتبار أنه الذي خلق خاصية الشفاء في الدواء.