الجزء الثاني من المقابلة مع النهار الكويتية: الفساد يورثنا فائضًا من التخلف
مع تطوّر العصر وتكنولوجيا المعلومات ومع كثرة وتنوّع منابع المعرفة ومغريات الحياة الدنيا، أسئلة كثيرة تقتحم حياتنا وتقضّ علينا مضاجعنا، معزّزة لدينا الكثير من القلق على مستقبلنا ومستقبل
أطفالنا وديننا. فكيف نربّي أطفالنا على تنمية علاقة صحيحة مع الله سبحانه وتعالى، في ظل موجات التعصّب والغلو من جهة، وموجات التفلّت والالحاد من جهة ثانية؟ وكيف نهدي أولادنا الى رحمة
الخالق وجلاله بأسلوب مقنع، ومن حولهم نماذج عنف متعدد الأساليب يُمارَس باسمه تعالى؟ ثم كيف نحميهم من مخاطر الهوس والولع الالكتروني التي تلامس حدود الادمان القاتل؟ وأي مسؤولية
على الأنظمة والاعلام الاسلامييْن في ممارسة سياسات التوعية المفترضة؟
هذه الأسئلة وغيرها أجاب عليها الدكتور الشيخ حسين الخشن - وهو أحد أبرز وأكبر العلماء في مدرسة المرجع الديني الراحل العلامة السيد محمد حسين فضل الله، ومدير المعهد الشرعي
الاسلامي في لبنان وأستاذ الدراسات العليا في مادتي الفقه والأصول في المعهد - في الجزء الثاني من المقابلة الرمضانية التي خصّ بها النهار، وتفاصيله في الحوار الآتي نصّه:
في تربية الأولاد، نلاحظ أن معظم الأهل يربون أولادهم على الخوف من الله. فكيف نربّي أولادنا على علاقة صحيحة بالله؟
أعتقد أننا بحاجة الى دورات تعليمية في كيفية تربية الأولاد. فالكثير من الآباء والأمهات لا يحسنون فهم الله ليحسنوا تقديمه الى أولادهم. فاذا لم أعرف من هو الله، وكانت نظرتي عن الله سبحانه
وتعالى مشوّهة، فمن الطبيعي أن أعكس لأولادي صورة مشوّهة عنه. هذا مع أنّ الانسان مفطور على حب الله، والأطفال هم أقرب الناس الى الله، لأنّ فطرتهم لم تتلوّث بعد، ولذلك هم أقرب منّا
الى الله، كما هم أقرب الى كل خير، ولكنْ علينا ألا نلوّث هذه الفطرة لديهم. ما يحصل اليوم هو أن هذه البيئة الفكرية الملوّثة ورفقة السوء، تجعل بعض الآباء والأمهات غير قادرين على الافادة من
الفطرة السليمة لدى الأطفال وتربيتهم على حب الله، وبدل رعاية هذا البرعم الطيب في نفوس أبنائهم نجدهم يلوّثونه. ولهذا كانت المسؤولية كبيرة، والنبي صلى الله عليه وآله يقول: كل مولود يولد
على الفطرة، فطرة التوحيد وحب الخير والجمال وفطرة حب الله سبحانه وتعالى، والتربية مسؤولة عن تنمية الأحاسيس الفطرية وليس تلويثها.
لكن كيف يمكن الاجابة على تساؤلات الأولاد حول مسألة الاله؟
نحن نعرف ان مسألة الاله قد يصعب فهمها بدقة على الطفل، لأنه يألف المحسوسات، فهو يريد أن يرى الله ويتلمّسه ويتعرف عليه من خلال الحواس، وهذا تحدٍ على الصعيد التربوي. لكن أعتقد أن
المرونة في العمل التربوي والمرونة في بيان المفاهيم الدينية قادرة على أن تذلل الصعاب، فعلينا أن نبيّن للأطفال أنّ مسألة وجود هذا العالم العظيم بدون خالق مرفوضة عقلياً، ويمكننا أيضاً العمل
على استنطاق فطرة الأطفال. فلا يمكن في الفطرة الا أن ينشدّ الأطفال الى الاله. وأعتقد أن مجرد سؤال الأطفال لنا أين الله؟ هو مؤشر على أنهم في فطرتهم يؤمنون بوجود الاله، لكن يبحثون عن
مصداقه الخارجي، كأنهم يظنون أن الله كائن لا بد أن يروه. وعليه فدور الأهل والمربين هو في شرح تسامي الخالق وتنزهه عن الرؤية، وأنه مثلاً - أشبه بالنور، { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. فاذا
طوى الطفل مرحلة عمرية أخرى ونمت مداركه فان علينا أن نتجه الى مستوى أعلى في بيان المفاهيم الدينية معتمدين أسلوب التدرّج والحكمة. ومن الضروري ألا نقدِّم للطفل اجابات خاطئة عن الله
أو عن غيره من الحقائق الدينية، بل نسعى لتقريب الأفكار الى ذهنه على طريقة الأمثال. أجل، ان مسألة الاله الجلّاد لا بد أن نزيلها من قاموسنا التربوي على الاطلاق. فالأطفال يجب أن يقدّم الله
سبحانه وتعالى اليهم باعتباره محبٌّ وليس جلّاداً، وعلينا أن نربّيهم على السعي لنيل رضى الله كسعيهم لنيل رضى الأهل، وبدل أن نقول للطفل اذا غششت أو سرقت فان الله يعذبك، فالأجدى أن
نقول له: اذا تركت الغش والسرقة فانّ الله يحبك ويدخلك جنته.
مع تطوّر العصر والعلم تتطاول الكثير من العلوم على ايمان الانسان. فما السبيل الى ترسيخ اليقين بعدالته وحده؟
نحن نعتقد أن مسألة الآلام والمصائب والشرور اذا نظرنا اليها بنظرة شمولية، فانها تمثّل - في عمقها - خيراً للناس. فليس في هذا الكون شيء هو شر مطلق. والآلام والمصائب والأوجاع هي سببٌ
لتطور الانسان وابداعه. فالانسان الذي يعيش في البروج العاجية لا يرجى منه أن يكون مبدعاً. والذين أبدعوا هم الذين عاشوا الألم والتحدي والمعاناة. فالابداع يخرج من رحم المعاناة. ولهذا نقول انّ
هذه الآلام والصعاب هي التي تحفّزنا لايجاد الحلول. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فاننا نعتقد أن هذه المصائب والآلام والأوجاع هي جرس انذار بالنسبة الينا، لأن الانسان في رحلته في هذه الدنيا
قد يطغى ويتكبّر ويتجبّر { كَلَّا اِنَّ الْاِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى }، فاذا جاءه الألم وسيطر عليه الخوف واقترب منه خطر الموت فانه يعود الى نفسه ويشعر بضعفه وبأنه حتى لو وصل الى موقع
كبير فسيبقى ضعيفاً وهو بحاجة الى قوّة أكبر منه يلتجأ اليها. وأعطي مثالاً: انّ الذين يصمّمون الأوتسترادات الكبرى في العالم يتجنّبون تصميم أو تستراد باتجاه واحد لمسافة طويلة جدا، لأن
السائق في هذه الحالة قد يغالبه النعاس فينحرف عن الطريق العام ويتعرض للخطر، لذا يضعون بعض المطبات والمنعطفات والاستراحات على جانبي الطريق بهدف ابقائه يقظاً. وهكذا هو الانسان
في الدنيا، انه بحاجة دائمة لما يوقظه، واذا لم يصطدم ببعض العقبات فقد يتكبّر ويتجبّر ويطغى. ومن جهة ثالثة نسأل: أليست هذه الآلام والمصائب هي من مسؤوليتنا نحن، ومن صنعنا في الكثير
من الأحيان؟ بلى ان أكثر الآلام والمصائب والأوجاع، وحالات الموت للصغار انما هي بسبب ظلم الانسان وتقصيره في أداء واجبه. عندما يموت أناس في بلدان معيّنة نتيجة الفقر، فهذا يعني أن أناساً
في دول أخرى يعيشون البطر ولا يقومون بواجباتهم ومسؤولياتهم { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ }. ان من مسؤوليتنا نحن أن نضع حداً للفقر والبؤس في العالم. الله خلقنا
وأراد لنا ان نبني نظاماً عادلاً متراحماً. وهناك نقطة مهمّة وأخيرة في هذا المجال، وهي أن الآلام والمصائب من مرض وموت واوجاع هي في منطق الدين ابتلاءات واختبارات للانسان ليتبيّن مدى
ارادته وصبره وايمانه. هذه اختبارات وعلينا ان ننجح في التحدي. تلك هي قوانين الدنيا وهذه طبيعتها فهل نقضي أيامنا في القاء اللوم على الآخرين؟ أم نقضي أيامنا في العمل لتلافي هذه
الأمراض والأوجاع؟ على أننا عاجلاً أم آجلاً سوف نمرض ونشكو ونهرم، وما علينا سوى أن نحسن التعامل مع الأمراض والابتلاءات كي لا تسقطنا. يقول الشاعر:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار.
نلاحظ نوعاً من الهوس الاجتماعي بألعاب وظواهر علمية او رياضية أو الكترونية متنوعة. فهل تعتقد أن هذا الانجراف أو الهوس اذا صح التعبير ناجم عن ضعف الايمان؟
أعتقد أن المشكلة في عمقها تكمن في فقد الثقة بالذات. فنحن كأفراد وكأمة نفقد ثقتنا بذاتنا. ونرى أنه وفي ظل تنافس الأمم وسعيها نحو الأمام فلا زلنا على الهامش وأن أمتنا قد تأخرت كثيراً،
وتفتك بها الصراعات المذهبية والقطرية والقومية، وهذا ما أضعف الأمة وأضعف الثقة بالذات. نحن نرصد هذا الأمر، ونعتبر انه مقتل هذه الأمّة، حيث ان الانسان المسلم يفقد ثقته بذاته كفرد وبهويته
كجماعة. ولذلك عندما يذهب العربي الى بعض دول العالم تراه يخجل بكونه عربياً فنجده يتلون ويحاكي الآخرين بلباسهم، وبالموضة والصرعات التي تجتاح شبابنا وبناتنا اليوم، وهذا مؤشر خطير. فهل
رأيتم أن الآخر يحاكينا. كلا، بل نحن نحاكيه ونقلده. نقطة الضعف هنا، ومن هنا أعتقد ان مسؤولية الخطاب الثقافي والديني والتربوي والاعلامي أن يعيد لهذه الامة، ولهذا الجيل ثقته بذاته وهويته،
حتى لا يخجل لا بتاريخه ولا بحاضره ولا بمستقبله. واذا كان في تاريخنا ثغرات ونواقص، فلنعترف بها ونسعى الى نقدها ونبني على ذلك في تطوير أنفسنا ومجتمعاتنا بدل أن نجمد عليها ونظل
نعيش في الماضي ونستذكر بطولاته ونستعيد أمجادنا الغابرة. علينا ان نرمّم الثقة بالذات، ولدينا الكثير من الأسس للانطلاق منها في عملية الاصلاح هذه لدينا من القامات في ماضينا وحاضرنا مما
يمكن أن نقدمه لهذا الجيل كمثل أعلى. فأيها الشاب والشابة المسلميْن، أنتم الآن في شهر رمضان. فلتكن فرصة للعودة الى الذات، فادرسوا تاريخكم مليّاً، وسوف تجدون أن هناك محطات مشرقة
في هذا التاريخ تفتخرون بها، وهناك شخصيات عظيمة تستحق التقدير. فليكنْ الصوم اذاً فرصةً للسمو الروحي وفرصة للتفكّر والتدبّر. فلا تضعفوا ولا تخافوا. انظروا الى الغرب في أيامنا فسوف
تجدون أن اسم جلال الدين الرومي (الأديب والشاعر الصوفي المسلم) يجتاح العالم الغربي، كما كان اسم عمر الخيّام، وهو شاعر مسلم، يسيطر على الأندية الثقافية في العالم الغربي قبل
عشرات السنين. هم يقرأون ويكتشفون كنوزنا اكثر منا فلماذا نخجل بأنفسنا؟ لدينا من العلماء والطاقات العلمية من أبدعوا في كل المجالات، فممّ نخجل؟ نحن معنيون بأن نعيد ثقتنا بذاتنا وهويّتنا،
وعندها لا نعيش هذا النوع من الانسحاق والشعور بالدونية تجاه الآخر. من هنا أعتقد أنها مسؤولية الخطاب الديني والتربوي والثقافي في هذه المرحلة أن يعيد الى المسلم ثقته بذاته، حتى لا
يشعر بهذه الدونية. ويحضرني هنا مثال، وهو أنّ الهنود من أبناء الطائفة البوذية العاملين في قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان، قد رأيناهم في أثناء الخدمة يلبسون عمائمهم الخاصة ويضعون
خنجرهم على جنبهم رغم أنهم ينتمون الى منظّمة دولية ولباسها موحّد. فلماذا يا ترى؟ لأن هذا البوذي عمل على استصدار اذن من المؤسسة الدولية التي ينتمي اليها ليُسمح له بارتداء عمّته، ولم
يخجل بذاته وهويته، فلماذا أخجل أنا المسلم بذاتي ولدي تاريخ مشرق مليء بالطاقات والمبدعين. علينا أن نقدم صورتنا الحقيقية للعالم وان نثبت للعالم أننا أمة جديرة بالحياة ولسنا ارهابيين بل
أننا نحب الحياة والابداع والجمال والانفتاح على كل بني الانسان.
وما مسؤولية السياسة والاعلام الاسلاميين هنا؟
السياسة، وما أدراك ما السياسة وما السياسيون؟! في الواقع، ان احد أهم أسباب تردي أوضاع أمتنا وتخلفها كامنة في نظامنا السياسي، حيث لا يزال طابعه العام هو الاستبداد، فلا حريات ولا
ديموقراطيات، أجل، قد توجد ديكورات ديموقراطية، ولكن الممارسة والواقع لا تشي بشيء من ذلك. ولهذا اذا أردنا لهذه الأمة أن تصحو وتنهض، فلا بد أن نبدأ بالاصلاح في كل النواحي، وعلى
رأسها المجال السياسي. لا ندعو الى انقلابات في العالم العربي، فالانقلابات المتسرعة جرّت علينا الويلات، والأمة لا تتحمّل المزيد. لكننا ندعو الى انقلاب في الوعي العام والى ثورة ثقافية عامة،
للسير نحو التغيير الشامل. فالفساد أيها العرب والمسلمون يقتل مجتمعاتنا ويورثنا فائضاً من التخلف. الا ترون أننا أمة ممزقة مذهبياً. وأنه مع كوننا أمة غنية بالطاقات والخيرات والموارد الطبيعية،
لكن الفقر مستشر في مجتمعاتنا ودولنا بما في ذلك الدول الغنية. أوليست هذه مفارقة مؤلمة؟ اذا أردنا الاصلاح، فعلينا أن نصلح البنية الفاسدة التي تقوم عليها الأنظمة، لأن اصلاح الأشخاص لا
يكفي، فما دام النظام فاسداً فانه سيحول الشخص الصالح الى شخص فاسد ومفسد. علينا أن نعمل على اصلاح النظام الفاسد، وعندها نكون قد خطونا خطوات مهمة في طريق الرقي والتقدم
والعيش الكريم.
نُشر في 18-6-2017
الجزئ الثاني من المقابلة مع جريدة النهار الكويتية. رابط المقابلة: http://www.annaharkw.com/Annahar/Article.aspx?id=751265&date=12062017