أئمة أهل البيت و السلطان المعنوي
الشيخ حسين الخشن
يتردد على بعض الألسنة توصيف الإمام علي بن موسى الرضا(ع) بـ "السلطان"، وربما يطلق عليه البعض وصف "سلطان السلاطين"، ولا يزال القائمون على الحضرة الرضوية يقدمون عزفا موسيقيا صبيحة كل يوم من على بعض منائر الروضة الرضوية، كنوع من الاحترام والتقدير لـ "سلطان السلاطين " علي بن موسى الرضا(ع).
إلاّ أن قضية أوصاف الأئمة(ع) وألقابهم - حتى لو أننا استبعدنا القول بتوقيفيتها - لا بد أن تخضع لشيء من الدقة والاختيار المدروس حتى لا يتم استخدام أوصاف أو ألقاب لا تليق بهم أو تختزن معنى سلبيا أو مأخوذا من قواميس السلطة الجائرة والمستبدة، ولفظ "السلطان" مضافا إلى أننا لم نجد وروده في شيء من المصادر نقلا عن أحد الأئمة (ع)، فإنه قد يختزن معنى سلبيا، على اعتبار أنه يوحي بأن الأئمة (ع) هم سلاطين، وأنّ الإمامة هي نوع سلطنة، وهذا فيه تشويه لحقيقة الإمامة ودورها في الحياة، وربما كان السبب في توصيف الإمام الرضا(ع) بهذا الوصف هو توليّه (ع) ولاية العهد من قبل المأمون، ولكننا نعلم أن الإمام(ع) لم يتولاها اختيارا ورغبة منه بالسلطة، ولا أنّ الظروف كانت تسمح له بإدارة الحكم بالطريقة التي ترضي الله ورسوله (ص)، غاية ما هناك أنّه (ع) لم يستطع رفض ما طلبه منه المأمون منه، حيث أصرّ على ضرورة تولي الرضا (ع) لمنصب ولاية العهد، لأغراص خاصة وأهداف معينة، هي أبعد ما تكون عن حصول "صحوة ضمير" عند المأمون العباسي، وإدراكه أنّ الرضا(ع) هو أولى الناس بهذا الموقع، وإن اشتراط الإمام(ع) في نصّ ولاية العهد على أن لا يُصدر أمرا ولا نهيا، وأن لا يحل أو لا يعقد شيئا هو خير دليل على أنه (ع) لم يقبل بهذا الموقع وهو في كامل حريته واختياره .
أجل إنّ ثمة نوعا آخر من "السلطان" تحلى به النبي (ص) وكذا الأئمة من أهل بيته (ع)، ومنهم الإمام الرضا (ع)، ألا وهو السلطان المعنوي، الذي جعلهم يتربعون على عرش العقول والقلوب، وهذا "السلطان" هو سر إمامتهم ومرجعيتهم سعلى الصعيدين الفكري والروحي.
ففي الحقل المعرفي والفكري نجد من خلال ما ينقله لنا التاريخ أنّ قولهم (ع) هو الفصل وحكمهم العدل، ومنطقهم الصواب ورأيهم الحق والسداد، وأن لكلامهم حلاوة خاصة وجاذبية استثنائية تشد إليها المسامع وتأخذ بمسامع القلوب، فهم إذا حاججوا أقنعوا، وإذا حاوروا أبدعوا، وإذا تكلموا أجادوا وأفادوا ... وهذه إحدى أهم خصائصهم ومزاياهم، وما نقوله في المجال ليس مجرد مزاعم أو ادعاءات فارغة فهذه الخصوصية يقرّ لهم بها الخصم قبل الصديق، والبعيد قبل القريب، والصور والشواهد على هذا السلطان المعرفي كثيرة جدا تمتلىء بها كتب التاريخ، ونأمل أن نُوفّق للحديث عنها في مناسبة أخرى بعون الله تعالى ..
أما في المجال الروحي والمعنوي، فقد تحلى النبي (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) بهيبة خاصة وسلطان معنوي استثنائي، وهي هيبة لا تخطئها العين، ولا تدانيها هيبة، وقد كانت هذه الهيبة بادية على محيا النبي(ص) وكل واحد من أئمة أهل البيت (ع) كما يتبدى ذلك بمراجعة كتب التاريخ والأحاديث، وإليكم بعض النماذج القليلة مما حدثنا به التاريخ عن هذه الهيبة الحقيقية التي كانت لائحة في كريم وجوههم، لنحاول بعد ذلك أن نفهم سرها ومغزاها :
نماذج وعينات من هيبة النبي(ص) والأئمة(ع)
وهذه النماذج هي عينات قليلة مما يمكن أن يعثر عليه المتتبع للمصادر التاريخية والحديثية، وهي نماذج دالة على هيبة من نوع خاص تشير إلى أنك أمام شخصيات استثنائية في تاريخ البشرية:
هيبة النبي (ص)
النموذج الأول: هيبة النبي (ص)، وأكتفي هنا بنقل ما روي عن السيدة فاطمة الزهراء (ع) بشأن والدها، ففي الحديث أنّها (ع) ذهبت إلى بيت رسول الله (ص) تشكو إليه بعض ما أصابها لكثرة ما طحنت بيديه بالرحى، فلما دخلت عليه وسلمت فإذا بها ترجع دون أن تكلمه بحاجتها، فقال لها أمير المؤمنين: ما لك ؟ قالت : والله ما استطعت أن أكلم رسول الله (ص) من هيبته .."( مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص12).
وأهمية هذا الكلام أنّ قائلته هي فاطمة بنت محمد (ص)، وفي العادة فإن الولد - ذكراً كان أو أنثى - تسقط الكثير من الحدود بينه وبين أبيه، بسبب كثرة المخالطة ودوام العشرة وما إلى ذلك، إلاّ أنّ الزهراء(ع) تحدثنا أنها لم تستطع أن تكلم أباها رسول الله (ص) من هيبته!
وهذا المعنى نفسه نجده فيما يروى عن أمير المؤمنين(ع) في حديث خطبته للزهراء(ع) قال: "..دخلت على رسول الله (ص) وكانت له جلالة وهيبة، فلما قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم.. "( بحار الأنوار ج43 ص 119)
هيبة أمير المؤمنين (ع)
النموذج الثاني: في خبر ضرار بن ضمرة عندما دخل على معاوية وقال له صف لي علياً، قال: أو تعفيني؟ فقال: لا، بل صفه لي.
فقال له ضرار: رحم الله عليا كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويقربنا إذا زرناه، لا يغلق له دوننا باب، ولا يحجبه عنا حجاب، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم.
فقال معاوية: زدني في صفته
فقال ضرار: رحم الله عليا، كان والله طويل السهاد، قليل الرقاد، يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، ويجود لله بمهجته، ويبؤ إليه بعبرته، لا تغلق له الستور، ولا يدخر عنا البدور، ولا يستلين الإتكاء، ولا يستخشن الجفاء، ولو رأيته إذ مثل في محرابه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه وهو قابض على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا، إلى تعرضت، أم إلي تشوقت، هيهات هيهات لا حاجة لي قيك، أبنتك ثلاثا لا رجعة لي عليك، ثم يقول: واه واه لبعد السفر وقلة الزاد وخشونة الطريق "( الأمالي للصدوق 724)
هيبة الإمام الحسن (ع)
النموذج الثالث: هيبة الحسن(ع): كانت هيبته بحيث "إذا جلس على باب داره انقطع الطريق فما مر أحد إجلالاً له" ،ويروى أنّه " كان في طريق الحج ماشياً فكل من رآه نزل حتى سعد بن أبي وقاص". ( سعد بن أبي وقاص هو الصحابي المعروف ووالد عمر بن سعد). وهذه الهيبة ورثها الحسن (ع) عن جده رسول الله (ص) ففي الحديث: ".. أما الحسن فله هيبتي وسؤددي"( مجمع الزوائد للهيثمي ج 9ص 158،والخصال للصدوق ص77).
هيبة زين العابدين (ع)
النموذج الرابع: علي بن الحسين(ع)، قال الفرزدق:
يغضي حياءً ويغضي من مهابته فما يكلم إلاحين يبتسم
ومعنى يغضي: يدني جفنيه على الحدقة، وقد قال الفرزدق هذا البيت من ضمن قصيدة معروفة له إرتجلها وهو في إحدى المواقف المشهودة، حيث بانت فيها تلك المهابة الخاصة لزين العابدين(ع)، وذلك عندما ذهب هشام بن عبد الملك لحج بيت الله الحرام ولما توجه لاستلام الحجرالأسود " لم يقدر على الاستلام من الزحام ، فنصب له منبر وجلس عليه وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي ابن الحسين وعليه إزار ورداء من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف، فإذا بلغ موضع الحجر تنحى الناس حتى يستلمه هيبة له فقال شامي: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكني أنا أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ قصيدة جاء فيها:
يا سائلي أين حلّ الجود والكرم عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي أحمد المختار والده صلى عليه إلهي ما جرى القلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه لخرّ يلثم منه ما وطى القدم
هذا علي رسول الله والده أمست بنور هداه تهتدي الأمم
هذا الذي عمه الطيار جعفر والمقتول حمزة ليث حبه قسم
هذا ابن سيدة النسوان فاطمة وابن الوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يغضي حياءً ويغضي من مهابته فما يـكـلم إلا حـين يبتـسم
(مناقب أبي طالب ابن شهر آشوب ج3 ص306).
إنّ انفراج الناس للإمام زين العابدين (ع) أثناء الطواف، والحال أنّ الكثيرين منهم قد لا يعرفونه، لأنهم حجاج أتوا من شقة بعيدة، ليس إلا بسبب أن نور وجهه قد أعطاه مهابة خاصة ، على طريقة أهل الجنة، "نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم".
هيبة الباقر(ع)
النموذج الخامس: هيبة الإمام الباقر(ع)، ففي حديث جابر الأنصاري قال: "خرج محمد بن علي الباقر من عند النساء وعلى رأسه ذؤابة وهو غلام، فلما أبصرته ارتعدت فرائصي وقامت كل شعرة من بدني".
هيبة الصادق (ع)
النموذج السادس: هيبة الإمام الصادق (ع)، ففي حوار له مع ابن أبي العوجاء تراه يقول للإمام (ع): "ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني هيبة قط مثل ما تداخلني من هيبتك". وعن أبي حنيفة: "دخلت على المنصور وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر فسلمت عليه فأومأ إليّ فجلست.
هيبة الرضا (ع)
النموذج السابع: هيبة الرضا (ع)، يروي الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) بسنده إلى ياسر الخادم قصة تولي الإمام ولاية العهد إلى أن يقول: فلما حضر العبد بعث المأمون إلى الرضا عليه السلام يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب ليطمئن قلوب ويعرفوا الناس ويعرفوا فضله وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة فبعث إليه الرضا عليه السلام وقال: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية (الأجير والمستخدم) هذا الأمر فتطمئن قلوبهم ويقروا بما فضلك الله به، فلم يزل يرده الكلام في ذلك، فلما ألح عليه قال: يا أمير المؤمنين أن أعفيتني من ذلك فهو أحب إليّ، وأن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (ص) وكم خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال المأمون: أخرج كما تحب وأمر المأمون القواد والناس أن يبكروا إلى باب أبي الحسن الرضا عليه السلام فقعد الناس لأبي الحسن الرضا عليه السلام في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان واجتمع القواد على باب الرضا عليه السلام فلما طلعت الشمس قام الرضا عليه السلام، فاغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن وألقى طرفاً منها على صدره وطرفا بين كتفه وتشمر، ثم قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت، ثم أخذ بيده عكازة وخرج ونحن بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة، فلما قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبر أربع تكبيرات فخيل إلينا أن الهواء والحيطان تجاوبه والقواد والناس على الباب قد تزينوا ولبسوا السلاح وتهيئوا بأحسن هيئة فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمرنا وطلع الرضا عليه السلام وقف وقفة على الباب قال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام والحمد لله على ما أبلانا ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا فتزعزعت مرو من البكاء والصياح فقالها ثلاث مرات فسقط القواد عن دوابهم ورموا بخفافهم لما نظروا إلى أبي الحسن عليه السلام وصارت مرو ضجة واحدة ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج وكان أبو الحسن عليه السلام يمشي ويقف في كل عشر خطوات وقفة، فكبر أربع مرات فتخيل إلينا أن السماء والأرض والحيطان تجاوبه وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستين: يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس ، فالرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع، فدعا أبو الحسن عليه السلام بخفه، فلبسه ورجع" ( عيون أخبار الرضا (ع) ).
هيبة الهادي (ع)
النموذج الثامن: هيبة الإمام الهادي (ع) ، قال المسعودي في مروج الذهب:" سعي إلى المتوكل بعلي بن محمد الجواد عليهما السلام أنّ في منزله كتبا وسلاحاً من شيعته من قم، وأنه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصا، وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن! فحمل على حاله تلك إلى المتوكل، وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه والكأس في يد المتوكل. فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكاس التي كانت في يده فقال (ع): والله ما يخامر لحمي ودمي قط، فاعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً فقال عليه السلام: إني قليل الرواية للشعر، فقال: لا بد، فأنشده عليه السلام وهو جالس عنده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل.
واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهم وأسكنوا حفرا يا بئسما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهم أين الأساور والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليها الدود تقتتل
قد طال ما أكلوا دهرا وقد شربوا وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا
قال: فبكى المتوكل حتى بلّت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع إلى علي عليه السلام أربعة آلاف دينار، ثم رده إلى منزله مكرما. وروى الكراكجي في كنز الفوائد قال: فضرب المتوكل بالكأس الأرض وتنغصّ عيشه في ذلك اليوم.
سر هذه المهابة:
والسؤال الذي يواجهنا بعد استعراض هذه النماذج الدالة على هيبة من نوع خاص كانت متوفرة عند الأئمة (ع) : ما سرّ هذه الهيبة وكيف نفهمها؟
وفي الجواب نقول : لا يخفى أنّ هيبة بعض الناس تأتيهم دون جهد أو اختيار بل نتيجة بسطة في الجسم يمنّ الله بها عليهم أو جمال يهبهم إياه، فهذا قد يمنح الإنسان شيئاً من المهابة، وهكذا فإن البعض من أصحاب الجاه قد تحصل لهم هيبة مصطنعة تضفيها عليهم المظاهر المادية من الزخارف والتيجان والمناصب .. إلاّ أنّ هذه المهابة هي مهابة عابرة وطارئة ومستعارة وسرعان ما تزول.
إلاّ أن هناك نوعا آخر من المهابة هو أكثر عمقاً وتأثيراً واستمرارية لا يرتبط بالمظاهر المادية ولا يحتاج إلى تيجان ولا زخارف ولا سلطة ولا جاه، ألا وهي هيبة التقوى المستقاة من نورالإيمان، إذ كلما ازداد الإنسان إيماناً ومعرفة بالله وخشية منه وتوكلاً عليه.. كلما أعطاه الله مهابة وجلالاً واحتراماً في قلوب العباد، وإذا اجتمعت التقوى مع العلم زانت الإنسان وزادته مهابة واحتراما، ففي الحديث عن الامام الصادق(ع): "من أراد عزاً بلا عشيرة وغنى بلا مال وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذل معصية الله إلله إلى ذل طاعته."( الخصال للشيخ الصدوق ص169)
وإنّ هيبة النبي (ص) وأهل بيته (ع) هي من نوع الهيبة الثابتة وغير المستعارة، بل هي في المستوى الأعلى من هذه المهابة، لأنهم أهل الله تعالى وعباده المخلصون وأهل التقوى والورع، وتقاهم وورعهم هذا هو الذي أورثهم مهابة خاصة واستثنائية، هذا بالإضافة إلى كونهم حجج الله على العباد وقد أعدهم الله للقيام بدوراستثنائي في هداية العباد، ما يعني أنّ ثمة سبباً خاصاً وإضافيا يجعلهم محاطين بهذا اللطف الإلهي الذي يزيدهم مهابة وجلالا، ولك أن تقول: إنّ هذه الهيبة ناشئة عن نور الإمامة والنبوة اللائح في محياهم، وهذا ما يعني أنّ مهابة الإمام(ع) أو سلطانه المعنوي هو أحد دلائل إمامته، وهذا ما أشارت إليه بعض الروايات الواردة عنهم، ففي رواية الحلبي عن الصادق (ع) قال: "دخل الناس على أبي قالوا: ما حد الإمام؟ قال: حده عظيم، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء، وعليه أن يهديكم، وفيه خصلة، إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينيه منه إجلالاً وهيبة، لأنّ رسول الله(ص) كذلك كان، وكذلك يكون الإمام". (بحار الأنوار ج46 ص 244).
إنّ هيبة الإمام تبلغ حداً تجعل له سلطاناً معنوياً على النفوس وعلى القلوب والعقول وهذا هو سر عظمة أهل البيت (ع) الذين جاهدوا أنفسهم في الله فزادهم الله هدى وأعطاهم نورا يمشون به بين الناس . نسأل الله أن يمدنا بقبس من هذا النور في دنيانا وأخرانا إنه على كل شيء قدير .