نظرة حول التداوي بالقرآن والأحراز والطبّ النبوي
الشيخ حسين الخشن
يسود في بعض الأوساط الإسلامية اعتقاد خاطىء بشأن مسألة الاستشفاء والتداوي، ويتلخص هذا الاعتقاد بأن قضية التداوي تعتبر قضية غيبية يرجع فيها إلى النصوص، ووصايا النبي (ص) وأهل بيته (ع)، وليس إلى أهل الخبرة من الأطباء، فهل أن لهذا الكلام نصيباً من الصحة ؟
وبيان الموقف من هذا الاعتقاد يفرض علينا من الناحية المنهجية أن نتوقف في البداية عند المبدأ الأساس في قضية التداوي والاستشفاء، فهل هي قضية غيبية تعبدية وتؤخذ من النصوص الدينية؟ أم أنها قضية تعتمد على معطيات مادية يرجع فيها إلى أهل الاختصاص؟ ثم ننتقل بعد ذلك للتوقف عند النصوص الدينية الكثيرة الواردة في التداوي ، لنتسائل عن كيفية التعامل مع هذه النصوص؟
الشفاء وقانون العلية:
وعلينا في البداية أن نستذكر القاعدة القرآنية العامة التي تحدثنا عنها في بداية الكتاب وحاصلها : أن سنّة الله جرت على ارتباط المسببات بأسبابها، وفق قانون العلّيّة الحاكم على هذا الكون، فمن رام الرزق فعليه بالكد والعمل، ومن أراد النصر فعليه بإعداد العدّة والعدد، ومن رغب بالشفاء والعافية، فعليه استعمال الدواء المناسب، هذه هي القاعدة الصحيحة المستفادة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وعلى الإنسان أن يتحرك وفقها، ليكتشف أسباب الأمراض وعوارضها، بالملاحظة والتجربة، ويتعرف على مضاداتها وطرق علاجها بالوسائل العلميّة، دون أن يعني ذلك المسّ بقدرة الله وصفاته، فالله سبحانه هو الشافي حقيقة، لكنه يشفي من خلال الأسباب الطبيعية، وبتوسط الأدوية التي أودع فيها خاصية الشفاء، تماماً كما يرزق العباد بتوسط أسباب الرزق المتعددة، من دون أن يعني ذلك إلغاء دور الدعاء، وطلب العافية من الله سبحانه، فإنّنا نطلب منه أن يَمُن علينا بالعافية مع خلال استعمالنا للدواء، وأخذنا بأسباب الشفاء، ومنه يتضح معنى قوله تعالى على لسان ابراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء : 80]، فإبراهيم(ع) لا يريد القول بأنّ الله يشفيه بشكلٍ مباشر، وبعيداً عن أسباب الشفاء، وهذا ما يشهد به السياق، أعني قوله تعالى قبل هذه الآية: {هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء : 79] ، فمن المعلوم أن سنته تعالى جرت على أن لا يطعم الإنسان بشكل مباشر، بعيداً عن طلب الرزق، والأخذ بأسبابه، وإنما يطعمه من خلال الطريقة المألوفة في الأخذ بالأسباب .
وأما ما جرى أو يجري مع بعض الأولياء، أو غيرهم من حصول الشفاء دون استعمال الدواء، أو الرزق من دون طلب، كما حصل لمريم(ع) التي حدثنا القرآن، أنّ رزقها كان يأتيها من عند الله" {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران : 37]، فهي حالات استثنائية ونادرة، تدخل في إطار المعاجز والكرامات، والحياة لا تتحرك على أساس المعاجز ولا تسير على أساس العجائب، فهذا الطريق إذن طريق استثنائي وغير مضمون النتائج وليس متاحاً لكلّ الناس، وهكذا لا يمكن التعويل على مجرد الدعاء وحده، لأنّ الله قد لا يستجيب الدعاء لبعض الموانع، أو لفقد بعض شروط الاستجابة، أو لبعض المصالح التي لا يعلمها غيره، الأمر الذي يحتم علينا التحرك وفق القاعدة العامة، أعني قاعدة العلّية وارتباط الأمور بأسبابها، وإنّ الشواهد القرآنية و الحديثية التي تؤكد هذا المبدأ أكثر من أن تحصى، ويكفي أن نشير هنا إلى أنّ رسول الله(ص) أمر بالتداوي ليس تعبّداً، بل لأنّ الذي خلق الداء خلق الدواء، وسأله رجل: "أأعقل ناقتي وأتوكل أو أدعها وأتوكل؟ فقال(ص): "إعقلها وتوكل" .
المفيد وتوقيفية الطب:
هذا ولكن للشيخ المفيد رأياً مختلفاً لا يخلو من غرابة، إن حمل على ظاهره، وحاصل ما يراه: أنّ مسألة الطب و المداواة مسألة توقيفية، ترتبط بالوحي دون سواه، قال رحمة الله:
"الطب صحيح، والعلم به ثابت، وطريقه الوحي، وإنما أخذه العلماء عن الأنبياء، وذلك أنّه لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلا بالسمع، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلاّ بالتوقيف، فثبت أنّ طريق ذلك هو السمع عن العالم بالخفيات تعالى" .
وبالإمكان أن نثير أمام هذا الكلام عدة ملاحظات:
أولاً: أنّ الأخذ به على ظاهره, والالتزام بتوقيفية علم الطب، وأنّ طريقه هو الوحي فحسب، يعني نسف علم الطب وإلغائه من رأس، والتنكر لكلّ الجهود الطبية الهادفة للتعرف على أسباب الداء، وخصائص الدواء من خلال التجربة و الملاحظة.
ثانياً: إن الداء هو اعتلال جسدي له أسبابه الطبيعية المفهومة، أو التي يمكن تفهمها والتعرف عليها، كما أن الدواء هو علاج ومضاد يحوي خصائص طبيعية معينة، من شأنها في حال اكتشافها القضاء على المرض أو محاصرته، فلا الداء أمر غيبي ولا الدواء أمر توقيفي، و عليه فالسبيل الأمثل لمعرفة المرض وأعراضه، والدواء وخصائصه، هو التجربة والملاحظة الدقيقة، لا الوحي والغيب، لأنّ النبيّ محمد(ص) كغيره من الأنبياء لم يُبعث طبيباً، بل بُعث هادياً ورسولاً للناس كافة، أجل هو طبيب النفوس والقلوب، كما وصفه علي(ع) :"طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه واحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي وآذان صم وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة..." .
ثالثاً: وأعتقد أنّ القضية لا تنتهي عند ما قدمناه، بل نرى ضرورة مقاربتها من زاوية أخرى، هي الأهم في المقام، وهي تحتاج إلى دراسة ومتابعة، وحاصلها: انّ ما هي علاقة النبي(ص) كمعصوم بالطب، فهل أن ما يصدر عنه في هذا المجال – إن ثبت صدوره- يعتبر وحياً إلهياً ينطبق عليه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم : 4] أم أن سبيله هو سبيل الخبرة المكتسبة من تجارب الحياة؟
والإجابة على ذلك تقودنا إلى الحقل العقائدي الكلامي، لمعرفة أنّه هل يشترط في النبي(ص) أن يكون عارفا بكل العلوم والصناعات واللغات، مما لا تمت إلى الدين بصلة، أم أنه لا يشترط ذلك؟
فإذا بنينا على أن المعرفة بذلك هي شرط في النبوّة، فمن الطبيعي أن نلتزم في المقام بأنّ معرفته (ص) الطبّية تنطلق من خلال وحي الله، وتعليمه له، مما لا مجال معه للخطأ والاشتباه.
وأمّا إذا أخذنا بالرأي الآخر الأقرب إلى الصواب، والقائل: بأنه ليس من شرط النبوة، المعرفة بذلك والاطلاع عليه، كما اختاره جمع من الأعلام، أمثال المفيد والمرتضى والسيد محسن الأمين قدس الله أسرارهم ، فعند ذلك ينفتح باب الاحتمال في أن يكون ما صدر عنه في الطب ونحوه، منطلقاً من موقع الخبرة التي اكتسبها (ص) من تجارب الامم الواصلة اليه، مضافا إلى تجربته الخاصة، ومعه تغدو الروايات الطبّية حتى على فرض صحتها خاضعة للسياق التاريخي والظرف الزمني الصادرة فيه، فهي تراث طبي، انطلق من ثقافة ذلك المجتمع وخبراته المتراكمة، التي أضحت ثقافة متواضعة، بالقياس إلى الثورة العلمية الكبيرة على المستوى الطبّي مما توصل إليه الإنسان في القرن الأخير، وقد عرضنا لهذا الموضوع في كتاب الشريعة تواكب الحياة، وسجّلنا على القول بالخبرة بعض الملاحظات.
وفي ضوء ما تقدّم من ملاحظات، فإننا نسجل تحفّظا على ما قد يصطلح عليه البعض بالطب الديني والروحاني أو الدواء الشرعي، فإن الشرع ليس له أدوييته وعقاقيره الخاصة فيما يرتبط بصحة الإنسان، بعيداً عما تكشف التجربة جدواه، وتبرهن على فعاليته، والمرجع في ذلك هم أهل الخبرة، من الأطباء المختصين، وليس علماء الدين والفقهاء، فإذا وصف الطبيب دواء للمريض ينبغي له الأخذ به، بل ربما وجب عليه ذلك، وإن لم يكن هذا الدواء وارداً في النصوص، كما لو أنه نهاه عن إستعمال دواء، لأنه مضر بصحته فعلى المريض اجتنابه، و إن كان وارداً في النصوص والروايات.
الأئمة (ع) يراجعون الأطباء:
وإنّ خير دليل على صحة ما ذكرناه، من أنه لا تعبّد في قضايا الطب، لجهة استعمال الدواء أو تشخيص الداء، هو ما جاء في سيرة النبي (ص) و أهل بيته(ع)، فقد أمروا بالتداوي، لأن الذي خلق الداء خلق الدواء، ولم يسجل التاريخ لهم موقفا سلبيا من الطب والأطباء، بل كانوا أنفسهم يستدعون الأطباء للمعالجة أو يأذنون بذلك، ولا يمانعون منه إذا ابتلوا هم أو أصحابهم ببعض الأمراض، ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع) إنّ قوماً من الأنصار، قالوا يا رسول الله إن لنا جاراً اشتكى بطنه، أفتأذن لنا أن نداويه؟ قال: بماذا تداوونه؟ قالوا: يهودي عندنا يعالح من هذه العلة، قال: بماذا؟ قالوا: يشق بطنه فيستخرج منه شيئاً، فكره ذلك رسول الله(ص) فعاودوه مرتين أو ثلاثاً، فقال: إفعلوا ما شئتم، فدعوا اليهودي فشق بطنه، و نزع منه رجرجاً كثيراً، ثم غسل بطنه ثم خاطه وداواه، فصح، فأخبر النبي(ص) فقال: "إنّ الذي خلق الأدواء خلق لها دواء ..." .
وفي الحديث أن علياً(ع) لما ضربه ابن ملجم بالسيف على رأسه "جُمع له أطباء الكوفة، فلم يكن منهم أحد أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هاني السكوني، وكان مطبباً صاحب كرسي يعالج الجراحات، وكان من الاربعين غلاماً الذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم، وإن أثير لما نظر إلى جرح أمير المؤمنين(ع) دعا برئة شاة حارة واستخرج عرقاً منها، فأدخله في الجرح، ثم استخرجه، فإذا عليه بياض الدماغ، فقال له: "يا أمير المؤمنين إعهدْ عهدك، فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى ام رأسك، فدعا علي(ع) عند ذلك بصحيفة ودواة وكتب وصيته.."
هكذا تأخّر المسلمون:
وهكذا فليس غريباً أن يتأخر المسلمون في علم الطب، بعد أن كانوا رواداً في هذا المجال وأغنوا بمؤلفاتهم التراث الطبي في الشرق والغرب،كما يقول الدكتور فليب حتي، ليس مستغرباً أن يتأخروا، بعد أن سادت بينهم فكرة الطب التعبدي، الذي يفتش أصحابه عن طرق وأساليب المداواة في النصوص والروايات، بدل التعرف على أسباب الأمراض وعوارضها، اعتماداً على التجربة والملاحظة الحسية، ومن ثم يعمل على اكتشاف مضادتها الحيوية، من خلال ما أودعه الله في هذا الكون الفسيح، من مكونات الشفاء وخصائصه.
وليس أقل غرابة من ذلك، انتشار فكرة التداوي بالتمائم والأحراز، أو سور القرآن الكريم، اعتماداً على نظرة خاطئة، وفهم مبتور لبعض الآيات والروايات التي تؤكد على ضرورة اللجوء إلى الله سبحانه، وطلب العون منه، بما لا ينافي مبدأ الأسباب والمسببات كما تقدّم.
وقد وصل الأمر ببعض الناس إلى حدّ الاستشكال في مراجعة الأطباء، لأنّ ذلك بزعمهم ينافي إخلاص التوحيد لله سبحانه، لأنه هو الشافي والمعافي وبيده الأمور كلّها، مع أنّ من الواضح أنّ استعمال الدواء والرجوع إلى أهل الخبرة من الأطباء، لا ينافي كون الله هو الشافي، باعتبار أنه تعالى هو الذي خلق خاصية الشفاء في الدواء، وهو علّة العلل.
نظرة تأملية في الروايات الطبية
وبعد هذا الكلام التأصيلي حول علاقة الوحي بالطب ،لا بد لنا أن نطل على تراثنا الإسلامي الذي يضم مجموعة وفيرة من الروايات الواردة عن النبي (ص) والأئمة من أهل البيت(ص)، وتتحدّث عن خصائص الأدوية والعقاقير، وكيفية التداوي بالأعشاب وغيرها، وبيان منافعها ومضارها، أو حول التداوي بالقرآن .. وقد ألّفت في هذا الصّدد مصنّفات عديدة مثل كتاب طبّ الأئمّة لابن بسطام، وطب الإمام الرّضا (ع) المعروف بالرسالة الذّهبيّة، وطبّ الإمام الصّادق(ع) ، وكذا الطّب النبويّ لابن القيم الجوزية، إلى غير ذلك من العناوين و الأسماء التي كثر تداولها مؤخرا، وراج سوقها، كتابة و طباعة، وقراءة.
وفي تقييم عام وأوّلي لتراثنا الطبي يمكننا تصنيفه إلى عدّة مجاميع:
التداوي بالقرآن
المجموعة الأولى: هي الروايات التي تحث على المداواة بالقرآن وسوره وآياته، أو بالأدعية والأذكار والرقى والأحراز، وتَعتبر ذلك الأسلوب الناجع، وربما الوحيد في معالجة الأمراض، ويتبنّى هذا الاعتقاد بعض العلماء، ومنهم الشيخ الصدوق رحمه الله، حيث قال:
"وأمّا أدوية العلل الصحيحة عن الأئمة، فهي آيات القرآن، وسوره، والأدعية على حسب ما وردت به الآثار بالأسانيد القوية والطرق الصحيحة" .
ويعتمد أصحاب هذا الاعتقاد على ما ورد في الكتاب والسنة، مما يؤكّد أنّ الشفاء بيد الله تعالى كما في قوله سبحانه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء : 80], وقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً}[الإسراء : 82] .
ولكن هذا الاعتقاد غير دقيق بنظرنا، فالتداوي بآيات القرآن وسوره، أمر غير ثابت، ويفتقر إلى الدليل الصحيح، لأنّ قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82]، لا يُراد به بحسب الظاهر أنه عقار ودواء لأمراض الجسد، و إنما هو شفاء لأمراض القلوب والأرواح، وأمراض المجتمع، فعن أمير المؤمنين(ع): "إنّ في القرآن شفاءً من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والبغي والضلال" .
يقول العلامة الطبطبائي رحمه الله في تفسير الآية المتقدمة:
"فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة، كما أنه هدى ورحمة للنفوس غير الآمنة من الضلال، وبذلك تظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء"، ويضيف: "فمعنى قوله: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين": وننزل إليك أمراً يشفي أمراض القلوب ويزيلها، ويعيد إليها حالة الصحة والاستقامة، فتتمتّع بنعمة السعادة والكرامة" .
وأمّا الروايات الواردة في الاستشفاء بآيات القرآن الكريم، فهي بحسب التتبع ضعيفة الإسناد، كما في مرسلة ابن سابور في طب الأئمة، عن أبي عبد الله(ع) "ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاة قط، فقال بإخلاص نية، ومسح موضع العلّة: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً}[الإسراء : 82] إلاّ عُوفيَ من تلك العلة، أية علة، ومصداق ذلك في الآية حيث يقول {شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} . ثم لو صحت هذه الروايات، فإنّ سبيلها سبيل الروايات الواردة في مسألة التداوي بالأحراز والرقى والعوذات، مما يأتي الحديث عنه في المجموعة الثانية.
التداوي بالأحراز:
المجموعة الثانية: هي ما ورد حول التداوي بالأحراز والرقى والأدعية.. وقد نقلها العلماء في كتب الأدعية، فذكروا لكلّ داء رقية ، ولكلّ وجع عوذة، وملاحظتنا الأساسية على هذه الروايات ـ مع صرف النظر عن أسانيدها ـ ، أنها لا ترمي إلى القول بارتباط الشفاء بشكل مباشر بالأحراز أوالرقى أو العوذات ونحوها، بل تهدف إلى تأكيد مبدأ الإرتباط بالله، واللجوء إليه في كلّ المصاعب والشدائد، وهذا الارتباط له تأثير بالغ في حصول الشفاء ولو بشكلٍ غير مباشر، لأنّ من الثابت علمياً والمشاهد بالعيان، أنّ الألم النفسي الذي يصيب الإنسان بفعل الحزن والخوف والاضطراب والقلق هو منشأ الكثير من الأمراض، كما أنه يمكّن المرض من الفتك بجسم الإنسان، ما يجعل الدواء غير ذي جدوى، إلاّ إذا اقترن بتقبّل المريض لمرضه، وإنّ أفضل أسلوب يعتمده الإنسان في محاولة التغلّب على المرض، هو اللجوء إلى الله، والركون إلى حسن تدبيره وقضائه، ومن هنا تأتي هذه الأدعية والأحراز والعوذات، كغذاء روحي يبعث على الأمل والتفاؤل لدى المريض، ويحضّه على التسليم بما قسم له الله، مما يساعده على التوازن وعدم السقوط أمام المرض، أمّا أن يكون لها تأثير مباشر ومستقلّ في الشفاء، بعيداً عن قانون العلّية وعن الأخذ بالأسباب الطبيعية، فهذا أمر لا تساعد عليه الأدلّة، ولا هو ثابت إلاّ على نحو الكرامة، وهي حالة استثنائية ونادرة، كما أسلفنا.
الآداب الشرعية
المجموعة الثالثة: ما يندرج في سياق الآداب الشرعية، أوالرسوم الأخلاقية ، وذلك من قبيل التسمية على الطعام ،ففي الحديث عن علي (ع) في وصيته لكميل: "إذا أكلت الطعام فسم باسم الذي لا يضرّ مع اسمه داء .." ، أو من قبيل ما ورد في الحث على الأكل باليمين وأن يأكل المرء مما يليه، فعن رسول الله (ص) مخاطباً أحدهم: "سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك" ، وكذا ما ورد في الحث على خلع النعال أثناء الطعام، فعن رسول الله (ص): "اخلعوا نعالكم عند الطعام فإنّه سنُّة جميلة" ، إلى غير ذلك من التعاليم ذات الطابع الأخلاقي، والتي يجدر بالمرء المسلم مراعاتها، لأنّها تندرج في سياق العادات الاجتماعية الحسنة، والسنن الإسلاميّة الطيّبة.
النصائح الطبية
المجموعة الرابعة: ما يندرج ويصنّف في دائرة النصائح الطبية و الصحية العامة، من قبيل ما ورد عن رسول الله(ص) "المعدة بيت كلّ دواء والحمية رأس كلّ دواء" ، ورُويت هذه الحكمة عن علي(ع) ، وقيل: إنها من حكم الحرث بن كلدة، طبيب العرب المشهور ، وكذا ما ورد عنه (ص): "صوموا تصحّوا" ، أو ما ورد عن علي (ع) من كلامه لابنه الحسن(ع): "يا بني ألا أعلّمك أربع خصال تستغني بها عن الطب؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين(ع)، قال: لا تجلس على الطعام إلا و أنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء..." ، أو ما ورد في الحث على غسل اليدين قبل الطعام وبعده، ففي الحديث عن أمير المؤمنين(ع): "غسل اليدين قبل الطعام وبعده زيادة في العمر، وإماطة للغمر (الغمر: ريح اللحم ودسومته) عن الثياب، ويجلو البصر" .. إلى غير ذلك من الوصايا ذات الطابع الوقائي، مما أثبتت التجربة صحّتها، وأكّدها أهل الاختصاص، وهذه المجموعة لا تثير إشكالية في المقام، بل ربّما شكّلت شاهد صدق لصالح الرسول والرسالة.
الروايات العلاجية
المجموعة الخامسة: هي الروايات التفصيلية ذات الطابع العلاجي وهي تبلغ المئات، و ربما لامست حدود الألف ، ويندج في هذه المجموعة ما ورد بشأن خواص الأطعمة والأشربة والفواكه والأعشاب .
وهذه المجموعة بحاجة إلى دراسة توثيقية موضوعية تحليلية، بهدف غربلتها، ووضعها في نصابها الصحيح، وهذا وإن لم يسع المقام للقيام به بشكلٍ تفصيلي، فإنّنا نقتصر على تسجيل ملاحظتين أساسيتين، وإذا ما أُضيف إليهما ملاحظة ثالثة وهي ما تقدّم في فقرة "المفيد وتوفيقية الطب"، فسوف يتّضح الموقف في التعامل مع هذه الأخبار.
بين مشرحتي علم الطب وعلم الرجال:
وأول خطوة على هذا الصعيد هي عرضها على مشرحة علم الرجال، لتقييم أسانيدها ومعرفة ما يصح منها وما لا يصح، و هكذا دراسة لم تحصل لحد الان، رغم أنها ضرورية، خاصة بملاحظة حصول الوضع والكذب في الروايات الطبية، كما سيأتي الاعتراف بذلك من أحد كبار العلماء المطّلعين على الأخبار والمصنّفين فيها، عنيت بذلك الشيخ الصدوق رحمه الله، لكن الشائع عند العلماء عدم الاهتمام بأسانيد هذه الروايات، وأمثالها مما لا ربط له بالحكم الشرعي، وفقاً لقاعدة التسامح في أدلة السنن، يقول العلامة المجلسي وهو يقيّم مصادر كتابه بحار الأنوار، تعليقاً على كتاب طب الائمة:
"إنّه ليس في درجة سائر الكتب لجهالة مؤلفه ولا يضر ذلك، إذ قليل منه يتعلّق بالأحكام الفرعية، وفي الأدوية والأدعية لا نحتاج إلى الأسانيد القوية" .
لكن الملاحظة التي يمكن تسجيلها هنا: أنّ قاعدة التسامح المذكورة غير ثابتة، بل ثبت وهنها في علم الأصول، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ الروايات الطبّية وإنْ لم ترتبط بالعمل والسلوك، لكنها ترتبط بصحّة الإنسان، مما لا يصح التساهل فيها وتعريضها للمخاطر، فلا يسوغ وضع الأحاديث العلاجية- قبل توثيقها – في متناول عامة الناس، كوصفات وإرشادات طبية، خوفاً من آثارها السلبية المحتملة.
ثم إنّ دراسة السند في المقام لا تكفي، بل لا بدّ أن تتبعها خطوة أخرى، تعمل على دراسة المضمون أيضاً، لأنّ التعبد لا معنى له في الروايات الطبية، وربما كان الأسلوب الأجدى في دراسة المضمون، هو عرضه على مشرحة علم الطب، استناداً إلى الحقائق والمعطيات الطبية الثابتة، فإنّ المعصوم لا يتكلّم بما يخالف الحقائق التكوينية، لأنّه يصدر عن نبع صافية، ولعل من الأحاديث المخالفة للمعطيات العلمية اليقينية: ما رواه أبو هريرة عن رسول الله(ص): "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإنّ في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء" .
ومما يخالف المعطيات الطبية الثابتة و اليقينية: ما ورد في بعض الأحاديث من نفي العدوى وتأثيرها، فقد روي عنه (ص): "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة.." ، فهذا الخبر وأمثاله إن لم يتمّ توجيهه وحمله على بعض المحامل، فلا بد من التوقف بشأنه وردّ علمه إلى أهله، لمنافاته لما هو محسوس وبديهي في علم الطب من واقعية العدوى، ولذا يتم الحجر الصحي على المصاب بالامراض المعدية، كما انه يتنافى مع ما ورد عن النبي (ص) ممّا يؤكد واقعية العدوى، كقوله (ص): "فرّ من المجذوم فرارك من الاسد" ، أو قوله لأصحاب الإبل: "لا يورد ممرض (أي ذو عاهة) على مصح" ، وقد تعرضت لهذا الأمر في كتاب "الإسلام و البيئة" فليراجع.
النطاق الزمني للروايات:
و الخطوة الثالثة في المقام بعد دراسة السند والمتن، هي ملاحظة مدى الإطلاق في هذه الروايات، وصلاحيتها لاعطاء قاعدة عامة لكلّ الاشخاص ولمختلف الأمكنة والأزمنة، وقد تنبه الشيخ الصدوق لهذا الأمر، وتحدث في كلام له عن تعرض التراث الطبي للوضع والدس، وأنّ بعضه وارد في نطاق محدود ولا يشكل قاعدة عامة، قال رحمة الله في كلام هام يعكس قدم الإشكالية في التراث الطبي:
"اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطب أنّها على وجوه:
منها: ما قيل على هواء مكة و المدينة، فلا يجوز استعماله في سائر الأهوية، ومنها: ما أخبر به العالم(ع) على ما عرف من طبع السائل، ولم يتعد موضعه، إذ كان أعرف بطبعه منه، ومنها: ما دلّسه المخالفون في الكتب، لتقبيح صورة المذهب عند الناس، ومنها: ما وقع فيه سهو من ناقله، ومنها: ما حفظ بعضه ونسي بعضه..." .
ولم يسع المفيد في تصحيح الاعتقاد، وعلى خلاف عادته إلاّ موافقة الصدوق فيما قاله، وإن أضاف إليه إضافة هي محل إشكال، كما سلف.
هذا البحث مستل من كتاب "ظواهر ليست من الدين"