حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  مقالات >> متنوعة
الوسوسة بين العلم والدين
الشيخ حسين الخشن



 

تعتبر الوسوسة واحدة من الأمراض الخطيرة المنتشرة في مختلف الأوساط والشرائح الاجتماعية، وهي ليست بالأمر الجديد، بل عرفها الإنسان منذ القديم، إلاّ أنّ تعقيدات الحياة وصعوباتها زادت وتزيد هذا المرض انتشاراً، ومع أن المترقب والمتوقع أن يكون المجتمع الإيماني أقل ابتلاء بهذا المرض لأنّ الإيمان ينبغي أن يكون عامل اطمئنان ومساعداً على الاتزان، فإذا بنا نلاحظ أنّ هذا المجتمع ليس محصناً ضد الوسوسة، بل إنه موئل وموطن مثالي لأشكال خاصة وإضافية من الوساوس التي لا توجد في غيره من المجتمعات!.

 

والسؤال: كيف نتعاطى مع الوسوسة؟ هل نتعامل معها باعتبارها مشكلة نفسية سيكولوجية، أم باعتبارها مشكلة روحية وسببها الشيطان؟ وبالتالي هل المرجع فيها إلى الاطباء أو إلى علماء الدين؟ أو إلى الإثنين معاً؟ وما هي المساحة التي يُرجع فيها إلى الدين والمساحة التي يُرجع فيها إلى أهل الاختصاص؟

 

 إنّ تحديد طبيعة المشكلة وهوية انتمائها – نفسية، دينية، اجتماعية..- هو المدخل الطبيعي لعلاجها، ولا شك إن إحدى مؤشرات التخلف -عند شعب من الشعوب- هي في ضياع الحدود الفاصلة بين التخصصات المتعددة والمختلفة، ما يخلق حالة من التخبط والارباك على هذا الصعيد، فيرجع في قضايا الدين إلى غير أهله ويستفتى من ليس أهلا للفتيا، ويرجع في قضايا الفلك أوالطب أوالإدارة.. إلى الفقيه أو رجل الدين، وكأنه يراد للدين أن يكون علاجاً سحرياً لكل الأمراض العضوية والنفسية والمشاكل الاجتماعية وغيرها، مع أن الكثير منها تنتمي إلى علوم أو تخصصات أخرى، الأمر الذي أدّى مع الوقت إلى نشوء جماعة على هامش الدين تستغل المشاعر الإنسانية وتعتاش على وجع الناس وآلامهم، في عملية اتجار رخيصة  بالدين وقيمه السامية.

 

   إنّ هذا لا يعني اطلاقاً أن الدين ليس له دور محوري في حل هذه المشكلات، أو أنها لا تمتلك بعداً دينياً وشرعياً، إلا أن المفترض منهجياً أن نحدد طبيعة المشكلة وإلى أي علم أو حقل تخصصي تنتمي، لنعرف إلى أين علينا أن نتجه في بادئ الأمر في علاجها، ولا مانع أن نفتش بعد ذلك عمّن يمكن أن يساعد في العلاج أو يسهم فيه.

 

الوسواس القهري في ميزان علم النفس   

 

 ينظر أهل الاختصاص من علماء النفس إلى الوسواس القهري باعتباره حالة مرضية، حيث تسيطر على الإنسان موجة من الشكوك الكثيرة أو الأوهام المتسرعة أو الاعتقادات، ويبدو- في نظر هؤلاء- أن العقل قد التصق بفكرة معينة أو دافع ما وأن العقل لا يريد أن يترك هذه الفكرة أو هذا الدافع، وقد كان هذا المرض يُصنّف في دائرة الأمراض غير القابلة للعلاج، ما جعل الكثيرين من الناس المصابين به يعيشون في معاناة شديدة أوصلت بعضهم إلى مرحلة متقدمة من الاكتئاب أو الانتحار.. إلاّ أن العلم الحديث قد خطى خطوات هامة على صعيد معالجة هذا المرض.

 

 ولا يجد علم النفس سبباً محدداً لمرض الوسواس القهري، لكنه يعتبره مرضاً طبياً مرتبطاً بالمخ، وتشير الأبحاث إلى أنّ هذا المرض يتضمن مشكلات في الاتصال بين الجزء الأمامي من المخ (المسؤول عن الاحساس بالخوف والخطر) والتركيبات الأكثر عمقاً للدماغ (العقد العصبية القاعدية التي تتحكم في قدرة المرء على البدء والتوقف عن الأفكار).

 

   وعن العلاج يرى علم النفس أن العلاج الناجح لمرض الوسواس القهري كأي مرض متعلق بالمخ يتطلب تغيرات معينة في السلوك، كأن يقوم الإنسان بفعل الأشياء التي يحبها ويستمتع بها فقط، وخلال فترة معينة سوف يتعود المخ ويدرك اللاشعور لدى الإنسان أن تفريغ الطاقة في الأشياء التي يحبها هي أفضل بكثير، وسوف يكون بإمكان الإنسان بسهولة أن يتخلص من هذا الوسواس، لأنه ببساطة يكون قد خرج من حالة الاكتئاب التي دفعته للبحث عن هذا الوسواس، كما أن هناك أدوية وعقاقير خاصة لها فعالية في علاج حالات الوسواس القهري... (نقلاً عن ويكيبديا الموسوعة الحرة بتصرف). هذه رؤية علم النفس إلى الوسواس، فما هو رأي الدين؟

 

أسباب الوسوسة في الرؤية الدينية

 

   بداية لا بد أن نسجل تحفظاً على ما ذكره البعض من أن الوسوسة قد تكون عقوبة بسبب ما صدر عن الشخص من مخالفات شرعية، مستدلاً على رؤيته هذه بقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (موقع "ن" الالكترون مركز الفتوى)، فإن هذا النمط من التفكير الذي يفسر الكوارث الطبيعية والظواهر المرضية تفسيراً غيبياً يتجسد في نقمة السماء على أهل الارض، ويغفل دور التفسير العلمي للكوارث والظواهر الكونية هو تفكير يعيق حركة البحث العلمي ويزهّد فيها، ويضعف همة الباحثين عن التطلع إلى الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة أو تلك، الأمر الذي يُعدُّ أحد أسباب التأخر العلمي في المجتمعات التي تنتشر فيها هذه المعتقدات، على أنه لو صرفنا النظر عن هذه الملاحظة، فإن ما ذكر لا يصلح تفسيراً عاماً للأمراض والوساوس أو الكوراث، صحيح أن لبعض الذنوب آثاراً دنيوية معجّلة، كما نصت على ذلك بعض الأحاديث والأدعية، لكن ليس بالضرورة أن يكون العقاب الإلهي  لمرتكبي الذنب مباشراً وبمنأى عن مبدأ العلية والسببية الذي قامت عليه السماوات والأرض، أجل إنّ ما نستطيع التأكيد عليه هو أن ما يواجه البشرية من مصائب ومعاناة وما تتعرض له الطبيعة من كوراث ليس الإنسان بمعزل عنها، بل هو في كثير من الأحيان مسؤول عن ذلك بسبب ما اقترفته يداه، وما جناه على نفسه وعلى المخلوقات الأخرى، وهذا ما ترمي إليه الآية المذكورة،  فهي لا تريد القول: إنّ الله سبحانه عاقب العباد - مجازاة لهم- بالأمراض والزلزال ونحوها بسبب عصيانهم، وإنما هي بصدد القول: إن ما يواجه الإنسان من ذلك كله هو في نهاية المطاف من صنعه ونتيجة طبيعية لظلمه وسوء تصرفه واختياره.

 

أجل إننا ومع تحفظنا على التفسير المتقدم لمرض الوسوسة، لا يسعنا أن نرفض اعتبار الوسوسة كغيرها من الأمراض ابتلاء إلهياً للعباد، والابتلاء ليس بالضرورة أن يفسر باعتباره عقوبة إلهية مباشرة للإنسان، بعيداً عن قانون الأسباب والمسببات، فالله سبحانه وتعالى يبتلي الإنسان ويختبره بكل ما يحدث في هذا الكون من كوارث أو يواجه الانسان من مصاعب ومحن سواء أكانت من صنع الإنسان نفسه، أو كانت جارية وفق قانون السببية، فالابتلاء ليس علة في عرض سائر العلل والأسباب، بل هو يأتي في طولها.

 

 ومن هنا فنحن لا نعتقد أن للوسواس الذي يبتلي به المؤمنون أسباباً خاصة وراء الأسباب العامة للوسواس القهري، وإن كان للتربية الدينية الخاطئة دور في تعميق حالات الوسوسة او إيجاد حالات جديدة منها، كما سنشير لاحقاً.

 

 أجل هناك سبب وحيد يذكره الدين كمنشأ من مناشئ الوساوس في المجالات الدينية هو الوسوسة الشيطانية، ممّا نصّت عليه العديد من النصوص القرآنية وغيرها، وهو سبب قد لا يستطيع العلم اثباته بوسائله وأدواته الطبيعية، ولكنه أيضا لا يملك إمكانية نفيه، لأنّ النفي الذي لا يعضده البرهان ولا ينهض عليه الدليل هو رجم بالغيب، ونحن آمنا بهذا السبب من أسباب الوسوسة، لأن الوحي - وهو مصدر من مصادر المعرفة باعتقادنا- قد أثبته وأكد عليه في عشرات الآيات غير القابلة للتأويل إلا بضرب من التكلفِّ وليّ عنق النص.

 

صور الوسوسة الدينية وعلاجاتها

 

أمام هذا التعدد في مصادر الوسوسة وأسبابها، (الوسوسة المرضية والوسوسة الشيطانية) فلا يسعنا بادئ ذي بدء إلا أن نحدد نوعية الوسوسة وطبيعتها ليتسنى لنا بعد ذلك التعرف على العلاج الصحيح لها، ولو أن المبتلى بالوسوسة استطاع بنفسه التعرف على هذا الأمر من خلال التأمل في حالته فبها، وإلاّ فإن المنطق السليم يحتم عليه أن يراجع أهل الخبرة ليشخّص حالته، فإنّ من المحتمل جداً أن تكون مشكلته نفسية ولها علاج عند أهل الاختصاص، لأنه كما أن لكل داء دواءه، فإن لكل نوع من أنواع الوسوسة علاجه.

 

1) الوسوسة في الاعتقادات:

 

 ولعل أحد أبرز أنواع الوسوسة: الوسوسة على الصعيد العقدي، وهي ناتجة عن أسئلة النفس الداخلية إزاء بعض المعتقدات، كوجود الخالق وأنه إذا كان موجوداً فأين هو؟ ومن خلقه؟ أو بشأن المعاد ومعقولية أن يبعث الله الناس بعد أن صاروا رميماً ، إلى غير ذلك من الأسئلة والشبهات  التي تواجه الإنسان، إما في بدء تشكّل العقيدة والوعي الديني لديه، أو بعد رسوخه في الإيمان وتعرفّه على إمكانية تفسير الكثير من الظواهر تفسيراً علمياً، الأمر الذي يبعث على التشكيك في مدى الحاجة إلى ربط الأشياء بالله. وهذه الأسئلة الداخلية لا تعبر عن حالة مرضية وقد لا يصح أن نسميها "وسوسة"، لكن إذا لم يستطع الإنسان أن يتغلب عليها فربما تتحول مع الوقت إلى حالة مرضية، وتجعل صاحبها يعيش صراعاً مريراً بين عاطفته الدينية من جهة وبين الأسئلة التشكيكية من جهة أخرى، وعلى العموم فإننا نعتبر أن هذه الأسئلة الداخلية وحديث النفس بشأن الرؤية الكونية أمراً طبيعياً وصحياً، ولا نرى فيه ما ينافي الإيمان إطلاقاً، بل إنّ النصوص الدينية تعتبر أن ذلك من الإيمان، ففي الحديث عن أبي عبد الله (ع) قال : جاء رجل إلى النبي (ص)،فقال : يا رسول الله هلكت، فقال له (ص) : لقد أتاك الخبيث فقال لك من خلقك، فقلت: الله، فقال لك: الله من خلقه؟ فقال: إي والذي بعثك بالحق، لكان كذا، فقال رسول الله (ص): "ذاك والله محض الايمان "( الكافي ج2 ص425).

 

   ولكن المرء يحتاج إلى صبر وجهاد للتغلب على هذه الأسئلة الداخلية، وعليه أن لا يعمل على طردها أو الفرار منها، بل يسعى في مواجهتها بجرأة ووعي، وذلك باستحضار كل الدلائل والشواهد في الأنفس والآفاق التي تقوّي إيمانه بربه وتنفي احتمالات العبث والصدفة عن خلق هذا الكون، وتقلع أساس الالحاد والشك، لأن التأمل والتدبر سوف ينتهي لا محالة إلى اكتشاف وجود الله ووحدانيته وحكمته في كل آية من آيات هذا الكون الفسيح، وبذلك تغدو شكوكاً عابرة، بل ومفيدة، لأنها تقع في طريق الوصول إلى اليقين، والاطمئنان. 

 

2)  الوسوسة في العبادات والأعمال:

 

وأما النوع الثاني من الوساوس وهو الأكثر ابتلاءً، فهو الوسوسة في القضايا الحياتية، ولا سيما الأعمال العبادية، سواء في مجال الطهارة – الوضوء والغسل-، أو في مجال الصلاة، وهو من المجالات الخصبة للوسوسة- في قراءة الفاتحة وفي تكبيرة الإحرام وفي خلوص النية لله تعالى - أو في مجال الحج، أو في مجال الحلية والحرمة والطهارة والنجاسة إلى غير ذلك من أشكال الوسوسة العبادية التي تجتاح المؤمنين، وهذه الوسوسة إذا استحكمت بالمرء فإنها ستترك مضاعفات خطيرة على توازنه واستقراره، وقد تخلق لدى البعض عقداً نفسية تدفعهم مع الوقت إلى ترك التدين والالتزام الديني رأساً، لأنه - التدين – أضحى والحال هذه عبئاً ثقيلاً ضاغطاً على أعصابهم ومؤرقاً لهم، وكثيرة هي الأمثلة والنماذج التي تواجهنا في حياتنا عن أناس متدينين مبتلين بالوسوسة في صلاتهم ووضوئهم ... وهم يعيشون معاناة قاسية ومرهقة .

 

الفقه الهندسي وسوء التربية الدينية

 

وربما لا يبالغ المرء ولا يبتعد عن الصواب إذا قدّر أنّ المسار الفقهي المبني على الدقة الهندسية في إنتاج الفتاوى، في الاحتياطات في غير محلها ويغفل روح التشريع وسهولته ويسره كان سبباً مساعداً في مضاعفة مشكلة الوسوسة لدى المؤمنين، كما أن بعض المسالك العرفانية التي تطرح جملة من المفاهيم أو التجارب الروحية على غير أهلها قد توقع البعض منهم في بعض المشاكل والتعقيدات النفسية، ولا سيما فيما يرتبط بمسائل خلوص النية، وهكذا الحال في التربية الدينية الخاطئة التي تبالغ في التركيز على الشكليات والمظاهر أكثر من التركيز على الجوهر والمعنى.

 

   ولهذا أعتقد أن علينا أن ندقق جيداً في خطابنا الديني حتى لا يكون سبباً في خلق العقد والمشاكل النفسية لدى المؤمنين، لأن المفترض بالدين أن يكون مبعثاً للارتياح والاستقرار النفسي ومحققاً للسلام الروحي لا أن يتحول إلى عنصر ضاغط على أعصاب المؤمنين. الدين دواء لدائنا النفسي والروحي وليس سبباً في أوجاعنا ومعاناتنا، بل إنّ دين الله لا يمكن أن يقوم بحمله والدعوة إليه إلا الأشخاص الأسوياء.

 

   وإنّ المتأمل في التشريع الإسلامي لا يحتاج إلى عناءٍ أو جهد كبير ليدرك أنه قائم على أساس السهولة واليسر "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، كما أنه اعتمد أسلوب التدرج في إيصال الأحكام إلى الناس، على قاعدة أن "هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"، طبقاً لما جاء في الحديث النبوي الشريف، وهذا الأمر لا بد أن يسهم في بناء الشخصية الإسلامية المتوازنة البعيدة كل البعد عن الأمراض النفسية.

 

  القواعد الفقهية وتدريب الذهن على الإتزان

 

  وبنظرة عاجلة إلى القواعد الإسلامية التشريعية نجد أنها قواعد لا تعير اهتماما للشكوك والوساوس التي تعتري الانسان، بل إنّها تربي المسلم ليكون إنساناً سوياً متزناً في تصرفاته وعقلائياً في سلوكه وفي حكمه على الأشياء والأشخاص، وإليك بعض هذه القواعد:

 

1) قاعدة الفراغ: ومفادها الحكم بصحة العمل العبادي أو غيره إذا شك المكلف بصحته بعد الفراغ منه، فمن أنهى الصلاة – مثلاً- ثم شك في أنه أتى بها بشكل صحيح أم لا، فليس عليه أن يعتني بشكه، وتعلل الروايات الواردة في هذه القاعدة الحكم بالصحة بتعليل عقلائي يغلّب جانب الصحة على احتمال الفساد، والتعليل هو قوله(ع): "هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك" (تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص101).

 

2) قاعدة التجاوز: وتعني أن الإنسان إذا دخل في جزء لاحق من العمل، ثم شك في الجزء السابق فلا عليه أن يلتفت إلى شكه، فمن شك في الركوع وقد دخل في السجود فلا يبالي بشكه .. وقد ورد في الحديث الصحيح عن الامام الصادق (ع) : "يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء.." (المصدر نفسه ج2 ص352).

 

3) قاعدة الطهارة: ومفادها ترجيح احتمال الطهارة على احتمال النجاسة  عند دوران الأمر بينهما، حتى لو كان احتمال النجاسة أقوى وأرجح، ففي الحديث المعتبر عن أبي عبد الله (ع): "كل شيئ نظيف (طاهر) حتى تعلم أنه قذر (نجس)" (المصدر نفسه ج1 ص285)، وعن أمير المؤمنين(ع): "لا أبالي أبولٌ أصاب ثوبي أم ماء إذا لم أعلم" ( المصدر نفسه ج1 ص254).

 

4) أصالة الصحة في فعل الغير: وتنص على حمل المسلم على الأحسن في أفعاله وأقواله، واستبعاد نية السوء عنه، وهي تحمل دعوة إلى أن ننظر إلى الإيجابيات عند الآخر، ولا نحدق في السلبيات، وأن نرى فيه الجميل قبل القبيح.

 

5) قاعدة يد المسلم: ومفادها ترجيح احتمال الحلية على احتمال الحرمة في كل ما يؤخذ من يد المسلم من جلود أو لحوم أو نحوها، لأن يد المسلم أمارة على التذكية.

 

6) قاعدة "سوق المسلمين": وهي قاعدة تقضي بالحكم بحلية وإباحة كل ما يأخذه الإنسان من سوق المسلمين من لحوم وجلود وأجبان وألبان وما إلى ذلك.

 

7) قاعدة: "لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين آخر"، ويطلق عليها الفقهاء والأصوليين اسم الاستصحاب، وهي تنص على أن الشك لا يبرر رفع اليد عن اليقين، بل يبقى حكم اليقين ساريا إلى أن يحصل اليقين المضاد .

 

إنّ هذه القواعد التشريعية وغيرها تؤشر على أن المنحى العام للفقه الإسلامي أنه فقه يغلب فيه اليسر على العسر، والصحة على الفساد، والحلية على الحرمة، والطهارة على النجاسة، الأمر الذي لا بدّ يوسس لبناء شخصية المسلم على أساس الإتزان وأن يعيش حياته بسهولة بعيداً عن كل التعقيدات، وهذا ما يساعد على معالجة الوساوس وعدم الابتلاء بها، ومشكلتنا هي أننا نغفل البعد التربوي والأخلاقي لهذه القواعد ونستغرق في بعدها التشريعي والفقهي.
لا شك لكثير الشك

 

   وثمة قاعدة خاصة معدَّة من قبل التشريع الإسلامي لعلاج خصوص حالة الوسوسة في الصلاة وهي قاعدة "لا شك لكثير الشك" ومفادها: أن كل من كان شكه خارجاً عن المتعارف في ركعات الصلاة، فعليه أن لا يعتني بشكه، ففي الحديث الصحيح عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: "إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك فإنه يوشك أن يدعك إنما هو من الشيطان" ( الكافي ج 3 ص359 ).

 

إنّ هذه القاعدة لا تنفي أن يكون شك المكلف صحيحاً، ومع ذلك يقال له " إنّ عليك أن لا تبالي بشكك"، ما يشي بأن غرض المشرع هو إخراجه من حالة الوسوسة باعتبارها مرضاً يؤثر على صحته وتوازنه واستقراره النفسي والعقلي.  

 

علاج الوسوسة الشيطانية

 

أما الوسوسة الشيطانية، التي اعتقدنا بها، لأنّ القرآن الكريم حدثنا عنها في العديد من الآيات التي أكدت على أن الشيطان جنّد نفسه لتشكيك الانسان  بربه ومعتقداته وآلى على نفسه أن لا يتوانى عن اغوائه واضلاله، فليس من طريق للتغلب عليها ومواجهتها إلا بمجاهدة النفس ومراقبتها المستمرة، مع التوكل على الله والاعتماد عليه والاستعانة به، وقد ورد في النصوص الدينية الكثير من الأدعية والأوراد التي تشكل زاداً روحياً كافياً وكفيلاً بدفع هذه الوساوس وطردها، قال تعالى في سورة الناس مخاطباً نبيه(ص) والأمة من خلاله: {قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس}.

 

  ولا شك أنه كلما زاد إيمان المرء ومجاهدته لنفسه وتوكله على الله ضعف تأثير الشيطان عليه، {وإن عبادي ليس لك عليهم من سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين} (الحجر 42) .





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon