حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> عقائدية
الخطاب العقائدي بين طريقة القرآن وأسلوب المتكلمين(1)
الشيخ حسين الخشن



 

في سياق حديثنا عن مصادر وآليات الاستنباط العقائدي لا يسعنا أن نتجاهل أو نُغفل موضوعاً هاماً مرتبطاً بطبيعة الخطاب الكلامي، خصائصه ومميزاته، نواقصه وثغراته؟ وإلى أي مدى يسهم في خدمة أهداف علم الكلام أو يصلح لتقريب مفاهيمه وإقناع الإنسان بها في وقتنا الراهن؟

 

وبادئ ذي بدء، أرى ضرورياً التعرف على خصائص الخطاب القرآني في بعده العقدي، ومن ثم نعرض إلى الخطاب الكلامي بنظرة نقدية تقييمية، وبالمقارنة بين الخطابين سوف ندرك أنّ الخطاب القرآني هو أقرب إلى القلوب والعقول، وهذا ـ على الأرجح ـ ما يرمي إليه الفخر الرازي فيما نقل عنه في وصيته: "لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن"(البداية والنهاية:13/68).

 

محاكاة الفطرة:

 

وأولى مميزات الخطاب القرآني والعقدي تحديداً ـ وان كانت بعض الخصائص الآتية يشترك فيها الخطاب التشريعي أيضاً ـ محاكاته للوجدان ومماهاته مع الفطرة، بعيداً عن الصناعة والتكلف، وعلى سبيل المثال: فإن قوله تعالى: { قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض}(إبراهيم:10)، يتضمن برهاناً "سهل التناول حتى للأفهام البسيطة، يناله الإنسان الذي يذعن بفطرته أنّ للعالم المشهود حقيقة وواقعية.."(الميزان:12/27)، كما أن قوله تعالى:{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين}(الأنعام:40)، يتوجه إلى وجدان الإنسان ويُسائل فطرته ليوصله بنفسه إلى القناعة، ويستنتج أن لا رب ولا مدبر له إلا الله، ويمكن القول: إن استنطاق الإنسان وسوقه بنفسه إلى الحق وإلى الاعتراف بالحقيقة تلقائياً، كما يبدو في الآية الآنفة أو في قوله تعالى:{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد الله بل أكثرهم لا يعلمون}(لقمان:25) هو أسلوب قرآني بديع وعلى علماء الكلام أن يأخذوا به في استدلالاتهم.

 

الإقناع لا الإفحام:

 

والميزة الأخرى للخطاب القرآني أنه خطاب عقلاني يستثير دفائن العقول، ويتحرى إقناع الخصم لا إسكاته، وإفهامه لا إفحامه، اعتماداً على أساليب الجدل والمغالطات، وإذا ما تمّ الإفحام والإسكات فبقوة المنطق والبرهان لا بقوة الجدل والخصام، وهذا ما حصل في حوار إبراهيم(ع) مع النمرود {قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فاتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}(البقرة:258)، فإنّ الذي أفحم النمرود وأسكته هو قوة المنطق في خطاب إبراهيم(ع).

 

التعليل لا التعبد:

 

وإذا كان إقناع الآخرين هو الغاية المرجوة، فإن ذلك يتطلب اعتماد أساليب البرهنة والتوجيه والتعليل، ويحتم الابتعاد عن طرح الأمور وفق منطق التعبد أو التسليم والانقياد الأعمى، ولئن أمكن قبول التعبد في المجال الفقهي فإنه حتماً غير مقبول في المجال العقدي، باستثناء الإيمان ببعض المغيبات المرتبطة بعالم الآخرة والتي لا سبيل للعقل إليها، ولذا نرى أن ديدن القرآن قائم على طرح المفاهيم الاعتقادية بطريقة مبرهنة إقناعية يقبلها العقل والوجدان، ففي مقام اثبات الوحدانية ونفي الشريك عن الله يطرح القرآن أكثر من برهان عقلي إقناعي، كما في البرهان الوارد في قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}(المؤمنون:91)، واثباتاً ليوم القيامة نراه يؤكد ذلك ببرهان مقنع ويسير، مفاده: أن الإعادة ليست بأصعب من الإيجاد الأول، فالقادر على الإيجاد والإبداع قادر على الإحياء والإعادة، {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}(يس:78-79)، وقال سبحانه:{وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه..}(الروم:27)، ويستعين لتأكيد الفكرة وترسيخها بأمثلة حسية، فيقول:{وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج* ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير}(الحج:5-6).

 

وفي مقام إثبات صدقية القرآن وأنه من عند الله لا من عند النبي(ص) يدعو القرآن إلى دراسة ماضي النبي(ص) وسيرته قبل البعثة، هذه السيرة التي لم تعرف لا كذباً ولا خطاباً مشابهاً للخطاب القرآني {فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون}(يونس:16)، إلى غير ذلك من الأمثلة القرآنية التي تهدف إلى الاقناع متسلحة بالبرهان ومستمدة من نور العقل.

 

الصدع بالحق ورفض المساومة:

 

والميزة الثالثة للخطاب القرآني أنه يتسم بالحسم والثبات ويدعو إلى الصدع بالحق مهما كان مراً وثقيلاً {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف:29)، ويرفض أسلوب المواربة أو المداهنة {فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون}(القلم: 8-9). وقد عمل الإمام الصادق(ع) على تربية أصحابه على هذا المنهج الذي يرفض الباطل كله سواء في المضمون أو الأسلوب، في المقدمات أو النتائج، في الوسائل أو الغايات، فقال(ع) وهو يقيّم حواراً أجراه بعض تلامذته مع رجل شامي: "إنك تخرج الحق مع الباطل وقليل الحق  يغني عن كثير الباطل"(الكافي1/173).

 

ويرفض المساومة أو التنازل في القضايا الاعتقادية كما يبدو ذلك جلياً في سورة"الكافرون" {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد..} إلى آخر هذه السورة الحاسمة والرافضة لكل أشكال المساومة بشأن عبادة الله سبحانه، وقال تعالى حكاية عن لسان إبراهيم(ع): {قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأولون* فإنهم عدو لي إلاّ رب العالمين}(الشعراء:75-77).

 

وهكذا نجد الحسم ورفض التنازل أو المساومة بادياً في الخطاب النبوي المرتبط بقضايا العقيدة، خلافاً لخطابه المرتبط بالشؤون التشريعية أو السياسية، فعندما عَرَضت عليه(ص) قريش العروض السخية ـ سواء في المال أو الجاه أو النساء ـ مقابل أن يترك الدعوة إلى الإله الواحد ويتجنب التعرض لآلهتهم قال قولته الشهيرة بكل جرأة وثبات: "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"(شرح النهج14/54).

 

وينسحب أسلوب الحسم هذا على كل الناس ولا يستثني أحداً بما في ذلك الأنبياء والرسل{ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين}(الزمر:65)، ويقول تعالى مخاطباً نبيه(ص) وأحب الخلق إليه: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين}(الحاقة:44-47).

 

إلا أن هذا الأسلوب الرافض للمساومة والمداهنة والمتسم بالحسم والقوة في قضايا الاعتقاد لا يلغي ولا ينافي المرونة المطلوبة، إن في الدعوة إلى الحوار، كما يعبر عن ذلك قوله تعالى :{وإنا أوإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}(سبأ:25) حيث ترشد الآية إلى افتراض أن الحق ضائع وأن على المتحاورين بذل الجهد والسير معاً في رحلة اكتشافه، أو في أسلوب الحوار، كما أرشد إلى ذلك قوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل:125)، فالمرونة مطلوبة في الأسلوب، والقوة أو الشدة مطلوبة في المضمون، أي أن علينا أن نصدع بالحق ونرفض الباطل لكن بقوة المنطق لا بمنطق القوة.

 

السهل الممتنع:

 

وغير بعيد عن خصوصية المرونة المشار إليها، فإن الخطاب القرآني يتصف بميزة أخرى تجعله مصداقاً لما يعرف بالسهل الممتنع، فهو مفعم بالسلاسة واليسر والبعد عن التعقيد والتكلف {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}(ص:86)، دون أن يفقده ذلك ـ أي اليسر والسهولة ـ العمق وقوة المضمون، وعلى سبيل المثال: فإن قوله تعالى:{ليس كمثله شيء} رغم اختصاره في اللفظ فإنه عميق في المعنى، جامع مانع، يغترف منه العامي من الناس والمتخصص، كل على قدر عقله وفهمه، وهكذا الحال في البرهان الذي يذكره القرآن بصدد إثبات وحدانية الله، وهو قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا}، فإنه يتسم بسلاسة التعبير واختصاره، وعمق المضمون ودقته، وهذا ما يميز القرآن ويجعله كالمائدة المتنوعة التي يستفيد منها كل الناس على اختلاف أفهامهم ومستوياتهم، خلافاً لما هو عليه الحال في خطاب المتكلمين والفلاسفة فإنه خطاب موجه إلى فئة خاصة ولا يفهمه غالبية الناس، لاعتماده على مصطلحات خاصة ومقدمات عقلية دقيقة، يقول الغزالي في الإشارة إلى هذا الفارق بين الخطابين ـ خطاب القرآن وخطاب المتكلمين ـ وإنْ بالغ ـ أي الغزالي ـ في النيل والتوهين من خطاب المتكلمين: "أدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس ويستضر به الأكثرون.. بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي والرضيع والرجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة، ويمرضون بها أخرى، ولا ينتفع بها الصبيان أصلاً" (نقله عنه في النبوة والأنبياء للصابوني؛ ص:36).

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon