الخلاص وجدل الاستحقاق والتفضل
الشيخ حسين الخشن
يمثل "الخلاص" أو "النجاة" من العذاب والفوز بالنعيم الأبدي طموحاً يتطلع إليه كل من آمن بالله واليوم الآخر، ورغم تفاوت المؤمنين في درجة حضور هذا المفهوم وفاعليته فإنه يبقى الأمل الذي يحدو الجميع بمن فيهم العصاة ويفتح لهم باب التفاءل إزاء مصيرهم الأخروي، أجل ربما وصل بعض الناس في معارج الكمال حداً تجاوزوا فيه مرحلة طلب النجاة ليكون رضا الحق ورضوانه هو مطلبهم وغايتهم، وهؤلاء هم الذين يصفهم الإمام علي(ع) بالعلماء الربانيين.
الخلاص لدى الأديان:
يعتقد أتباع كل دين أن لا نجاة لأحد إلاّ باتباع دينهم والإقرار بمعتقداتهم، فاليهود يرون أن الخلاص هو باتباع اليهودية، وكذلك الحال لدى المسيحيين الذين أطلقوا على المسيح وصف المخلّص، وتذكر نصوصهم المقدسة أنه "ليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص"(أعمال الرسل4/12). وهكذا يعتقد المسلمون أنهم وحدهم أهل النجاة {ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(آل عمران:85).
وبالانتقال من دائرة الأديان إلى المذاهب المتعددة داخل كل دين نجد أيضاً أن كل فرقة تزعم أنّ النجاة حكرٌ عليها وعلى أتباعها، وهذا ما يدل عليه بوضوح حديث الفرقة الناجية الذي تشبثت به كل فرقة من فرق المسلمين زاعمة أنها الفرقة الناجية دون سواها.
إن ما تقدم يفرض جملة من الأسئلة: ما هو معيار النجاة في المنطق الإسلامي؟ ما هي المعتقدات والأعمال المنجية؟ هل النجاة حكر على طائفة معينة أو اتباع دين معين؟
لا مزاجية في الحساب:
وفي البداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثمة ضابطاً يحكم عملية البحث في هذه القضايا ويشكل مرجعاً أساسياً لا يمكن تجاوزه في الاستنتاج واتخاذ المواقف، وهو أن قضية النجاة أو الهلاك أو لنقل قضية الثواب أو العقاب لا تتم جزافاً ولا اعتباطاً وإنما تحكمها معايير واضحة يدركها العقل، ولذا لا بدّ من انسجام الحساب ثواباً أو عقاباً مع ما ثبت من عدله تعالى وتنزهه عن الظلم كما يرى العدلية، وفقاً لقاعدة الحسن والقبح العقليين، إن الاعتباطية في الحساب وعدم ارتكازه على موازين يقبلها العقل والوجدان هي من الأمور التي لا بدّ أن ينزَّه عنها الله لتنافيها مع منطق العدل، وما يحكم به العقل القطعي، فلو أن شخضين من الناس على مستوى واحد من الكفر والجحود أو التمرد والعصيان فمقتضى العدل أن يتساويا في الحساب، أمّا إدخال أحدهما النار وإدخال الآخر الجنة دونما مرجح فهو عين الظلم وقد تنزه المولى عن ذلك، ولو أن شخصين مكتملي الإيمان صحيحي العقيدة سائرين على جادة الشريعة دونما ميزة لأحدهما على الآخر، فإن مقتضى الحكمة أن يتساويا في الثواب ولا يعقل أن يفاضل الحكيم بينهما، لتنزهه عن الاستنسابية أو المزاجية في أفعاله، لكن المثال الأخير يبقى مثار جدل إذ كيف نوائم بين ذلك وبين القول بأن الثواب هو تفضل من الله وليس استحقاقاً؟ وهذا ما سوف يتضح في الفقرة التالية:
الثواب والعقاب استحقاقاً أو تفضلاً:
ما تقدم يقودنا إلى بيان وتحديد معايير النجاة أو الهلاك، فكيف ينجو من نجا وكيف يهلك من هلك؟ لكن قبل الدخول في هذا البحث لا بدّ من التطرق إلى أمر جوهري متصلٍ بمبدأ الثواب والعقاب، وحاصل هذا الأمر: هل يستحق الإنسان الثواب على الطاعة تماماً كما يستحق العقاب على المعصية؟ أم أنه يستحق العقاب فحسب، أما الثواب فهو تفضل من الله؟
ثمة اتجاهات ثلاثة لعلماء الكلام في هذه القضية:
الأول: هو الاتجاه الأشعري المبني على انكار دور العقل في إدراك حسن الأشياء أو قبحها، ويتلخص بنفي استحقاق العبد للثواب وكذا العقاب بحكم العقل، فالعقل ليس من شأنه أن يحكم لا بهذا ولا بذاك، وإنما المرجع في ذلك إلى الله سبحانه، فهو المالك للعباد وله أن يثيب من يشاء من عباده ولو كان كافراً أو متمرداً، وله أن يعاقب من يشاء ولو كان مخلصاً نبياً، أجل قد ثبت من طريق النقل أنه يثيب المؤمن، فيكون ذلك تفضلاً منه ويعرف بوعده(شرح المواقف للجرجاني8/372)، كما ثبت من الطريق نفسه أنه توعّد الكافر أو العاصي بالعقاب وهو لا يخلف الميعاد.
الثاني: الاتجاه الذي اختاره بعض المعتزلة، وهو ظاهر أكثر علماء الإمامية(كما يذكر المجلسي في البحار68/200)، وحاصله: أن العقاب استحقاق بينما الثواب تفضل من الله سبحانه.
الثالث: الاتجاه الذي اختاره جمهور المعتزلة وبعض الإمامية وهو أن الثواب ـ كالعقاب ـ استحقاق، فكما أن العاصي يستحق العقوبة فإن المطيع يستحق المثوبة، وقد عرّف المعتزلة الثواب بأنه "المنفعة المستحقة" وفرقوا بذلك بينه وبين التفضل الذي عرفوه بأنه المنفعة غير المستحقة(تفسير الرازي14/8).
محاكمة الاتجاهات:
في البدء لا بدّ من استبعاد الاتجاه الأول لابتنائه على قاعدة فاسدة وهي: أن الحسن والقبح شرعيان وليسا عقليين.
أما الاتجاه الثالث - القائل أن الثواب استحقاق كالعقاب ـ فقد يستدل له: بأن إلزام العباد بالتكاليف الشرعية هو إلزام بما فيه مشقة، والالزام بذلك دون إلتزام أو إقرار نفع وثواب في المقابل قبيح ولا يصدر من الحكيم.
ولكن قد لوحظ على هذا الاستدلال: أولاً: إن التزام النفع والثواب مقابل التكليف إنما يكون متعيناً لو لم تسبقه النعم، أما وقد أنعم الله على العباد بنعمٍ لا تعد ولا تمضي فيكون التكليف شكراً لهذه النعم ومقابلاً لها. وثانياً: إنّ مشقة التكليف لا تستوجب مقابلته بالثواب إذ يكفي حسن التكليف في ذاته وكونه في صالح المكلفين مبرراً لتحمل مشقته وقبولها.
إلاّ أن هذين الاشكالين غير تامين: أما الأول: فلأن جعل التكليف مقابل النعم لا يتسقيم لأنه "يقبح عند العقلاء أن ينعم الإنسان على غيره ثم يكلفه ويوجب عليه شكره ومدحته على تلك النعمة من غير إيصال ثوابٍ إليه، ويعدون ذلك نقصاً في النعم... وذلك قبيح لا يصدر من الحكيم فوجب القول باستحقاق الثواب"(كشف المراد ص:544)، أفهل يعقل أنّ الله لم يكلفنا بعبادته إلا تعويضاً عما أنعم به علينا ورداً لجميله؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وأما الاشكال الثاني فنقول تعليقاً عليه: بأنه افتراض كفاية حسن التكليف في ذاته وكونه في صالح المكلف، إن كفاية ذلك في تحمل مشقته دونما حاجة إلى جعل عوضٍ أو ثواب مقابل امتثاله ربما كان صحيحاً في الجملة باعتبار ارتكاز الشريعة على مبدأ تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، لا سيما في التكاليف التي تنظم حياة العباد، بيد أن ملاحظتنا في المقام تقوم على أساس أن للتكاليف بُعداً اختبارياً امتحانياً، أو قل ابتلائياً، والابتلاء يرتكز على مبدأ الحساب ثواباً وعقاباً، وعليه فلا بدّ من إقرار المثوبة على اطاعة التكليف والعقوبة على مخالفته، مع صرف النظر عن اختزانه عنصر المصلحة أو المفسدة في ذاته، على أن الاشكال المذكور لو تم لَلَغى منطق الحساب كلياً، ولم يعد هناك حاجة للعقوبة أيضاً وليس للمثوبة فقط، لأن لقائل أن يقول: إن مفسدة التكليف التي أوقع المكلف نفسه فيها عند تمرده على المولى تغني عن العقوبة الأخروية، وهذا ما لا يمكن التفوه به.
مع الاتجاه الثاني:
على الرغم مما تقدم فقد يُنتصر للاتجاه الثاني الذي يفترض أن الثواب هو تفضل من الله وليس استحقاقاً بوجهين:
الأول: ما ذكره المجلسي " أن المستفاد من الأخبار والأدعية أنّ الثواب تفضل من الله"(بحارالأنوار68/200) ولعله ناظر إلى ما جاء في دعاء الصحيفة للإمام زين العابدين(ع):"بل ملكت ـ يا إلهي ـ أمرهم قبل أن يملكوا عبادتك، وأعددت ثوابهم قبل أن يفيضوا في طاعتك وذلك أنّ سنّتك الإفضال وعادتك الإحسان".
لكن بإزاء ذلك توجد روايات وأدعية تدل على أن أصل المثوبة إستحقاق، نعم مضاعفتها تفضل من الله سبحانه، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) متحدثاً، الحق: "لا يجري لأحدٍ إلا جرى عليه ولا يجري عليه إلاّ جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده" فإن المستفاد من كلامه(ع) ـ محكم أن " لو" حرف امتناع ـ أن تبادل وتقابل الحقوق هو قانون لا استثناء فيه حتى في العلاقة بين الخالق والمخلوق، لأن "لو" حرف امتناع، ثم أضاف(ع) قائلاً: "ولكنه ـ أي الله ـ جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه" حيث نلاحظ أن التفضل جُعل على مضاعفة الثواب لا على أصله.
وهكذا قد يستفاد من مفهوم الشرط في الدعاء المروي عن الإمام علي(ع): "إلهي إن كنتُ غير مستوجب لما أرجو من رحمتك فأنت أهل التفضل عليّ بكرمك" أن الإنسان قد يكون مستوجباً للرحمة، ويشهد لذلك بعض الآيات القرآنية كما في قوله تعالى: {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}(فاطر:30)، حيث يستفاد منها أنّ الثواب هو أجر لهم على عملهم فهو حق وليس مجرد تفضل، وإنما يأتي التفضل كزيادة على الأجر.
الثاني: إنّ مالكية الله لعباده ولأفعالهم تجعله متفضلاً في تقرير أصل المثوبة، كما هو متفضل في مضاعفتها، بما ينفي أي حق لهم عليه.
ولكن يلاحظ عليه: بأن أفعالهم وإن كانت مملوكة له تعالى، لكنها مملوكة لهم أيضاً وتصدر عنهم بالاختيار، ومع الالتفات إلى ذلك وإلى قيامهم بالتكاليف رغم مشقتها وما يترتب عليها من جهد وعناء فيكون حرمانهم من المثوبة قبيحاً، كما أفاد العلامة في كلامه المتقدم في شرح التجريد.
وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نخلص إلى أن الاتجاه الثالث لا يخلو من وجاهة، ويؤيده أن الثواب لو كان محض تفضلٍ منه تعالى لكان من الممكن مساواة المؤمن العادي مع النبي في المنزلة والمثوبة، مع أن ذلك قبيح في منطق العقل والعقلاء.