حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
 
  مقالات >> عقائدية
الشك في العقائد : أنحاؤه ومعالجاته(1/2)
الشيخ حسين الخشن



 

عالج أصول الفقه حالات الشك في التكليف الشرعي وحدد الموقف الذي يتعيّن اتخاذه من كل واحد منها، لكن ماذا عن الشك في التكليف العقدي؟ هل هو محكوم لنفس الأصول الجارية في التكليف الشرعي أم أن ثمة أصولاً أخرى تجري في الحقل الاعتقادي وتعالج موارد الشك فيه؟

 

ذكر علماء الأصول أن الأصول العامة التي تعالج حالة الشك في الحكم الشرعي هي بحسب الاستقراء أربعة: البراءة، الاحتياط، التخيير، الاستصحاب، وهناك عدة اتجاهات في منهجية البحث وتحديد مجاري الأصول المذكورة، ولا يعنينا الخوض في ذلك، ولا نريد مقاربة البحث في أصول الاستنباط العقائدي وفق المنهجية الأصولية، لأن طبيعة البحث في المقام تتخذ مساراً مختلفاً، ولهذا فإننا نعرض لأهم الأصول المنتجة في المجال الاعتقادي مع صرف النظر عن المنهجية الأصولية، وإن كنا قد نعقد مقارنة عابرة بين أصول الفقه وأصول العقيدة على سبيل التوضيح والتقريب.

 

 وفيما نرى فإن الشكوك التي لا بدّ أن يعالجها الباحث في أصول الاستنباط العقدي هي التالية:

 

1 ـ الشك في الحجية وعدمها. 2 ـ الشك في وجوب الاعتقاد وعدمه، 3 ـ الشك في صحة العقيدة أو فسادها.

 

أصالة عدم الحجية:

 

أمّا النحو الأول من أنحاء الشك المذكورة وهو الشك في الحجية، فيراد به: أنه ثمة أدلة  قد ثبتت حجيتها في مجال الاستنباط العقدي من قبيل: العقل القطعي أو النص القطعي السند والدلالة.. وهذه لا كلام لنا فيها، ولا كلام لنا أيضاً فيما ثبت عدم حجيته من "الأدلة" كالاقيسة الظنية أو أخبار الآحاد... إلا أنّ ثمة صنفاً ثالثاً من الأدلة لم تثبت لنا حجيته ولا عدمها، وإنما يشك في الحجية، فما هو الأصل في ذلك؟ على سبيل المثال: لو فرض حصول الشك في حجية الإجماع في العقائد، فما هو الموقف إزاء القضايا التي ادعي فيها الإجماع؟

 

والجواب: إن الأصل ـ في هذه الصورة ـ هو عدم الحجية، والمراد بهذا الأصل: أنه ما دام لم يقم دليل على حجية الإجماع ـ مثلاً ـ فلا يمكن الاستناد إليه واعتباره مرجعاً إثباتياً، وكيف لنا أن نستند إلى دليل مشكوك الحجية؟! وهذه النتيجة لا تختلف بشيء عما يذكره علماء الأصول بشأن الدليل الفقهي المشكوك الحجية، فقد أفادوا أن الأصل فيما يشك في حجيته هو عدم الحجية.

 

أصالتا الاحتياط والبراءة:

 

والنحو الثاني من أنحاء الشك في العقائد: هو الشك في وجوب الاعتقاد وعدمه، كما لو شك المكلف في أنه هل يجب عليه الاعتقاد بالصراط أو بالميزان أو بحساب القبر أو بغيرها من القضايا والمفاهيم العقائدية أو لا يجب الاعتقاد بذلك؟

 

 ومرد الشك في وجوب الاعتقاد إما إلى عدم تمامية الدليل ـ سنداً أو دلالة ـ على هذه المفاهيم، وإمّا لأنه لا يُعلم كون القضية العقائدية حتى لو تم دليلها من سِنخ(أو صنف) المفاهيم الدينية التي يجب الاعتقاد بهما أو يتقوم به الإيمان. 

 

وخلاصة  القول: تارة يقوم الدليل على وجوب الاعتقاد بأمر ما، وأخرى يقوم الدليل على عدم وجوب الاعتقاد به، والأمر في هاتين الصورتين واضح، وإنما الكلام فيما لو وقع الشك في وجوب الاعتقاد وعدمه، فما هو الموقف أو الأصل في هذه الحالة؟ وهذا نظير الشك في الوجوب وعدمه، أو الحرمة وعدمها في المجال الفقهي، كما لو شك المكلف في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أو شك في حرمة حلق اللحية... والمعروف لدى علماء الأصول أن أصالة البراءة تجري ـ بعد الفحص وعدم العثور على الدليل ـ في الشبهات الشرعية ـ حكمية كانت أو موضوعية ـ وهي تقضي بعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وعدم حرمة حلق اللحية وهكذا.. وأمّا في المقام فيمكن القول ـ ولنستخدم المصطلحات الأصولية ـ :

 

إنه لا مجال للبراءة العقلية قبل الفحص والنظر، يقول السيد الكلبيكاني رحمه الله: "لا تجري أصالة البراءة أو الاستصحاب في الأمور الاعتقادية.(نتائج الأفكار في نجاسة الكفار:238)، وعليه تكون أصالة الاحتياط أو الاشتغال هي المحكمة في المقام، لا بمعنى وجوب الاعتقاد بما شك في وجوبه، بل بمعنى وجوب الفحص والتفتيش، لأن الاحتمال منجز في القضايا المهمة، فلو شك الإنسان في وجود الله أو وحدانيته أو عدله، أو شك في نبوة هذا النبي أو ذاك، أو في يوم القيامة وإمكانيته، فإن عليه في هذه الحالات ـ بمقتضى حكم العقل القاضي بلزوم دفع الضرر المحتمل ـ أن لا يستسلم لشكه وإنما يلزمه بذل الجهد في النظر والتأمل ليصل إلى تكوين قناعة مرضية، فإن تيسَّر له ذلك ووصل إلى نتيجة قطعية بنى عليها اعتقاده، وإلاّ فإن كان ثمة قدر إجمالي معلوم عقد القلب عليه على إجماله، وإلاّ إذا لم يصل بالفحص والتفتيش إلى نتيجة ولم يكن ثمة قدر معلوم بالإجمال فلا يلزمه عقد القلب على شيء، بل لا يمكنه عقده على شيء، إذ كيف يتسنى له عقد القلب على أمر مشكوك؟! ويمكن أن نقول: إنّ الموقف ينتهي في هذه الحالة إلى البراءة إن لم يكن بمعنى رفع التكليف الاعتقادي رفعاً ظاهرياً، فلا أقل بمعنى رفع أو نفي المؤاخذة والعقوبة، استناداً إلى قاعدة "قبح العقاب بلا بيان" وهي قاعدة عقلية غير قابلة للتخصيص، فكما تجري ـ القاعدة ـ لتأمين المكلف عن التكليف العملي (الشرعي) المشكوك، فإنها تجري لتأمينه عن التكليف العلمي(العقدي) المشكوك، وهكذا يمكن التمسك بأدلة البراءة الشرعية للغاية نفسها، أعني نفي المؤاخذة على ما لم يقمْ عليه دليل قاطع، فإن لمعظم تلك الأدلة إطلاقاً يشمل المقام، كما يشمل التكاليف الشرعية المشكوكة، من قبيل قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}(الإسراء:15)، وما ورد عن الإمام الصادق(ع): "ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنه"(وسائل الشيعة:27/163)، وكذلك ما روي عن رسول الله (ص): "الناس في سعة ما لم يعلموا" (مستدرك الوسائل:18/20)، إن هذه النصوص وسواها تؤكد وترشد إلى ما يحكم به العقل من قبح مؤاخذه الإنسان على عدم التزامه ـ قلباً أو عملاً ـ بما لم يقمْ عليه البيان والبرهان.

 

ويتفرع على ذلك: أن المجتهد في العقائد يعتبر معذوراً  عند الله حتى لو توصل إلى نتيجة مغايرة للسائد ومخالفة للواقع، شريطة أن يخلص النية في البحث والتحري، وهذه النتيجة هي مثار اعتراض بل ورفض من قبل المشهور من علماء الكلام والفقهاء، وقد سجلنا اعتراضاتهم وملاحظاتهم، وأجبنا عليها في مناسبة سابقة(راجع الإسلام والعنف ص53 وما بعدها).

 

أصالة الصحة في العقيدة:

 

والنحو الثالث من الشك هو الشك في صحة العقيدة، ولهذا النحو من الشك صورتان رئيسيتان: الأولى: الشك الدائر بين الإسلام والكفر، والثانية: الشك الدائر بين مراتب الإسلام، فإن بعض المراتب قد تبتعد عن الخط السوي والمستقيم، وتلتقي مع الضلال أو الابتداع والانحراف.
فهل هناك أصل يعالج حالات الشك هذه سلباً أو إيجاباً، ويقضي بصحة العقيدة أو فسادها، أو يحدد الإسلام أو الكفر، أو الإيمان أو الانحراف؟ هذه الأسئلة وغيرها سوف نحاول الإجابة عليها بالتفصيل في المقال اللاحق بعون الله تعالى وتسديده.





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon