الشك في العقائد: أنحاؤه ومعالجاته(2/2)
الشيخ حسين الخشن
ربما يشك بعض الناس في صحة معتقده أو فساده، وأن ما يحمله من أفكار ويتبناه من معتقدات هل ينسجم مع الإسلام أو أنها أقرب إلى الكفر أو الضلال والانحراف، وهكذا فقد يشك المرء في صحة معتقد غيره في إسلامه وكفره، فهل من أصل يُرجع إليه في المقام لتعيين الموقف؟
ولتحديد الأصل آثار مهمة، إن لجهة تكليف الشاك نفسه أو تكليف الآخرين، وسواء على الصعيد العقدي ومعرفة صحة المعتقد أو فساده، أو على الصعيد الشرعي ومعرفة أن شكه هذا هل يخرجه عن الاجتماع الإسلامي، فلا يعود مشمولاً لأحكام المسلمين سواء في الأحوال الشخصية (ميرات، زواج، طلاق)، أو في الشؤون العبادية أو الاجتماعية أو غيرها.
موقف المحقق القمي:
وقد وُجِّه السؤال المذكور(فيما يرتبط بالأصل لدى الشك في الإسلام أو الكفر) إلى أحد الأعلام المحققين وهو الميرزا القمي فأجاب بما ملخصه: "إنّ الأصل إن أريد به الاستصحاب واستمرار العدم الأزلي فهو لا يقتضي الكفر بل الأصل عدمها جميعاً"، أما الإسلام فواضح، لأنه أمر وجودي مسبوق بالعدم، وأما الكفر فلأن التحقيق أنه "أمر وجودي اختياري من فعل المكلف"، وتعريف الكفر بأنه :أمر وجودي اختياري" تترتب عليه نتيجة مهمة، وهي أن مجرد انتفاء "العقائد الحقة" منذ الأزل لا يوجب كفراً ولا عقاباً إلا في حال الإنكار أو الالتفات والاستمرار على عدم الاعتقاد، وقد مثّل القمي لذلك بالأشخاص الذين يعيشون في البلدان النائية ولم يبلغهم صوت الوحي ولا سمعوا باسم النبي(ص) فإن "مقتضى العدل وقواعد الإمامية قبح تكليف الغافل والجاهل بالمرة وتكليف ما لا يطاق" (جامع الشتات4/60)، ورأيه هذا مبني على أن الإسلام والكفر يمكن ارتفاعهما وإن لم يمكن اجتماعهما، قال رحمه الله :"إنّ الكفر عدم الإسلام ممّن شأنه الإسلام من المتنبِّهين المتغطنّين القابلين له بالفعل، لا عدمه ممن لم يبلغ هذه المرتبة".
وأضاف: وإن أريد من الأصل معنى "الراجح فهو متفاوت بتفاوت المقامات، فالراجح في البلد الذي أغلبه المسلمون هو الإسلام وفي البلد الذي أغلبه الكفار هو الكفر".
شك الإنسان في صحة معتقده:
وتحقيق الحال أنه ـ وقبل بيان الأصول التي يمكن طرحها في المقام لمعالجة حال الشك في صحة العقيدة أو فسادها ـ لا بدّ من الإشارة إلى أنه تارة يراد معالجة الموقف لدى الشخص المشكوك في عقيدته، وما هو تكليفه إزاء هذا الشك؟ وأخرى يراد معالجة الموقف لدى الشاك في معتقد الغير وما هو تكليفه إزاء الغير؟
أقول: أما الشك من النحو الثاني فهو محكوم للأصول الآتي ذكرها، وأمّا الشك من النحو الأول، أعني شك المكلف في صحة عقيدته فلا يجوز أن يُتعامل معه على أساس الاستكانة أو الخضوع له، وإنما يلزم المكلف بحكم العقل أن يفحص ويتابع ويُعمل الفكر والنظر في سبيل الخروج من مستنقع الشك إلى حصن اليقين، إذ الشك لا يشكل مؤمناً من الضرر والعقوبة الأخروية، دون أن يعني ذلك أن الشاك مستحق للعقاب، حتماً فإنّ قضية الثواب والعقاب هي بيد الله عالم السرائر وما تحويه الضمائر، وقد ركّز سبحانه الحساب ـ ثواباً وعقاباً ـ على أسس واضحة ومفهومة غير استنسابية ولا جزافية، فإن كان في علمه تعالى أنّ ثمة تقصيراً ما لدى الشاك ـ كما لو كان شكه مفتعلاً ومتعمداً أو جمد على الشك ولم يلاحقه بالمتابعة والبحث ـ فهو يستحق الإدانة والمؤاخذة بكل تأكيد، وأما إذا كان شكه ناتجاً عن حالة قصور أو كان المكلف لا يزال في مهلة النظر ومرحلة بناء العقيدة فهو معذور في شكه بمقتضى عدله تعالى وحكمته وتنزهه عن الظلم، ومن أجلى مصاديق الظلم معاقبة الغافل أو الجاهل القاصر أو المجتهد الذي لم يأل جهداً في سبيل الوصول إلى الحقيقة.
أصل الفطرة:
باتضاح ما سلف نعرض إلى ما يمكن طرحه من أصول أو قواعد تصلح لمعالجة حالة الشك في صحة العقيدة، والظاهر أنه ليس في أيدينا أصل لتحديد الموقف الواقعي في المسألة إلاّ ما قد يذكر من دليل الفطرة، أقصد ما ورد في الحديث الشريف: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"(صحيح البخاري2/97 من لا يحضره الفقيه:2/107).
وقد استند إلى هذا الدليل جملة من الفقهاء كما يظهر من تبريرهم وتعليلهم لجملة من الفتاوى، فقد أفتوا بإسلام الطفل الذي توفي والداه الكافران وكذا الطفل المتولد بين مرتدين، أو الطفل المتولد من الزنا... ومستندهم في هذه الفتاوى هو الحديث المذكور.
إلاّ أن الملاحظة التي ترد على هذا الاستدلال هي أنّ حديث الفطرة بعيد كل البعد عن فكرة تأسيس مبدأ إسلامي ـ واقعياً كان أو ظاهرياً ـ يقضي بأن الأصل في الإنسان هو الإسلام، وإنما هو بصدد بيان قابلية كل إنسان واستعداده لاختيار عقيدة التوحيد، إلاّ أن الظروف التربوية والثقافية قد تشده إلى طريق الشرك والكفر، هذا فيما يرتبط بالأصول الواقعية.
أصالة الصحة في المعتقدات:
ولكن ماذا عن معالجة الموقف على المستوى الظاهري؟ فهل لدينا قواعد ظاهرية تؤكد على أصالة الإسلام في الإنسان؟
والجواب: إن ما يمكن أن يطرح من قواعد تعالج الموقف الظاهري هو عدة أمور:
الأول: الاستصحاب، وقد اعترض عليه المحقق القمي كما ذكرنا، ولأن هذا الموضوع ذات طابع تخصصي نُعْرضُ عن التوسع فيه هنا.
الثاني: قاعدة الغلبة، وهي ما أسماه القمي في كلامه المتقدم "بالترجيح"، "ونقصد بها : أنه إذا كان الوجود الإسلامي هو الغالب على بلد ما فيحكم بترتيب آثار المسلمين على أهله، فلو عثر على رضيع في بلاد غالبية أهلها مسلمون وشك في أمره وأنه ابن مسلميْن أو كافريْن فتجري قاعدة الغلبة لإثبات الحاقه بالمسلمين، وكذا الحال لو عثر في مثل البلد المذكور على حيوان مأكول اللحم مذبوحاً ولم يُدر أذبحه مسلم أو كافر، فتجري قاعدة الغلبة المشار إليها، كما دلت على ذلك بعض الروايات، وتحقيق الحال في قاعدة الغلبة موكول إلى كتب القواعد الفقهية، ونظير ذلك قاعدة السوق فإن ما يؤخذ من سوق المسلمين محكوم بالحلية..
ونلاحظ على ذلك: بأن قاعدة الغلبة ـ لو تم دليلها ـ هي قاعدة فقهية وليست عقدية، والآثار التي تترتب عليها هي آثار شرعية بحتة، حتى في مثال "الرضيع" المتقدم، فإن غاية ما تثبته القاعدة هو ضرورة التعامل معه معاملة المسلمين لجهة الآثار الشرعية فحسب.
الثالث: قاعدة الصحة، وثمة قاعدة معروفة هي قاعدة الصحة، فهل تجري في المقام؟ والجواب: إنا قد تحدثنا عن أصالة الصحة في بعض المقالات السابقة، وذكرنا أن لها عدة أبعاد: البعد الأخلاقي، البعد المعاملاتي، والبعد العقدي.
ويعنينا هنا البعد الثالث، وقد ذكرنا أنه ـ وعند الشك في صحة عقيدة إنسان ما ـ لا مجال إلاّ للحمل على الصحة في هذه الحالة ما دام الشخص على ظاهر الإسلام ولم يظهر منه ما ينافي ذلك قولاً أو فعلاً. وقد جرت سيرة المسلمين على تصحيح اعتقاد من يدعي الإسلام حتى يعلم الخلاف، ولا يطالب ببرهان يثبت إسلامه(القواعد الفقهية للبجنوردي1/311)، وقد ذهب بعض الاعلام إلى جواز الحكم "بإسلام كل من شك في إسلامه وإن لم يدّع الإسلام إذا كان في دار الإيمان، والوجه في ذلك: استقرار سيرة المسلمين على إجراء أحكام الإسلام على كل من كان في بلاد الإسلام من دون فحص عن مذهبه حتى يقوم دليل على فساده"(القواعد الفقهية للشيخ ناصر مكارم الشيرازي1/155)، والمرجح أن نظره إلى صورة كثرة المسلمين من الناحية العددية في بلد ما، وأما البلاد المختلطة إلى حد المناصفة أو ما هو قريب من ذلك فيشكل الأمر في البناء على إسلام من يُشك في إسلامه فيها، والسيرة المشار إليها لم تجر على ذلك.