المنهج العقلي الكلامي بين الواقع والتجريد
الشيخ حسين الخشن
لقد كان من مزايا وإيجابيات المنهج العقلي الذي أخذ به العدلية أنه استطاع أن يحاصر المنهج النصوصي ذي النزعة الظاهرية ويخفف من غلوائه ويحدّ من تأثيراته السلبية، الأمر الذي ساهم في تقديم صورة عن الإسلام ـ في عقيدته ومفاهيمه وتشريعاته ـ بعيدة عن التزمت والشكلانية والقراءة الحرفية الجامدة للنصوص، هذه الحرفية التي أدخلت التشبيه والتجسيم إلى الفكر الكلامي كما أدخلت السطحية والتفكيك إلى الفكر الفقهي.
المنحى التجريدي وسلبياته:
إلا أن المنهج العقلي المذكور على أهميته وضرورته قد نحى منحىً تجريدياً خطيراً جعل التفكير الكلامي يبتعد عن الواقع وهمومه، وربما يعود السبب في ذلك إلى الإرث الفلسفي اليوناني الذي أشغل العقل الكلامي بمشاغل وهموم فكرية هي أقرب إلى الترف الفكري منها إلى البحث العقدي، يقول بعض الأعلام المعاصرين:" إن أكثر أصول الفلسفة الموروثة عن اليونان لم تُعن بحل المشاكل الاعتقادية، ولم تُفدْ في تقرير الأصول المهمة الدينية، بل أحدثت فيها مشاكل كما يُعلم ذلك بملاحظة علم الكلام والكتب الأصولية"(صراط الحق، للشيخ آصف المحسني2/37).
إن إنشغال العقل الكلامي في دراسة فرضيات غير واقعية لم يكن هو السلبية الوحيدة للمنحى التجريدي المشار إليه، بل إن مقاربة المفاهيم العقدية وفق منهج مفرط في التجريدية أدى ـ بشكل أو بآخر ـ إلى إقصاء النص الديني ذاته، وإبعاده عن مجال الإفادة منه في البناء العقائدي في الكثير من المجالات والميادين التي يكون فيها للنص دور في تأصيل الفكرة أو تأكيدها.
الحاجة إلى منهج متوازن:
ومن هذه الميادين التي هي مجال خصب للنص الديني ـ سواء القرآني أو الحديثي أو التاريخي ـ ما يتصل بالنظرة إلى الأنبياء(ع) أو الأئمة(ع) ومواصفاتهم ودورهم في الحياة... فإن بناء التصور العقدي بشأن هذه المفاهيم والمعتقدات لا يصح الاعتماد فيه على التحليلات العقلية فحسب بعيداً عن النص ومعطياته، وبعيداً عن واقع حياة المعصومين وسيرتهم، فإنّ هذه التحليلات الموغلة في التجريد سوف تقدم رؤية أو صورة مجتزئة وربما منقوصة قد تقترب بالأنبياء أو الأئمة(ع) من درجة التأليه والغلو، تماماً كما أن القراءة الحرفية التي تجمد على بعض الظواهر ولا تضع في الحسبان ما يقرّه العقل من دور ريادي لا بدّ أن يضطلع بالمعصومين لن تقدم هي الأخرى سوى صورة مشوّهة تهبط بهم عن مكانتهم الرفيعة ومنزلتهم السامية التي جعلتهم في محل الاصطفاء الإلهي، الأمر الذي يحتم علينا اعتماد منهج متوازن يأخذ كل من المنحى العقلي والواقعي بعين الاعتبار، وأعتقد أن افتقادنا منهجاً من هذا القبيل هو الذي أدخلنا في متاهة الغلو أو التقصير.
الحياة الشخصية للمعصوم:
ومن المؤكد أنّ اعتماد هذا المنهج الذي يأخذ في الحسبان السيرة الشخصية للأنبياء والأئمة(ع) لدى صياغة المفاهيم العقدية ذات الصلة لن يبعدنا عن خط الغلو فحسب، بل إنه قد يغنينا عن تكلّف وتأويل الكثير من الأقوال والتصرفات الصادرة عنهم (ع) وحملها على محامل بعيدة كل البعد عن ظاهرها، فإنّ تلك التأويلات الباردة المنتشرة لدى الكثير من العلماء مردها ـ في الأعم الأغلب ـ إلى تلك الصورة التي اصطنعها الخيال التجريدي، والتي لم تأخذ في الحسبان حقيقة أنه لا يمكننا تقديم صورة حقيقية واقعية بشأن الأنبياء أو الأئمة(ع) بعيداً عن الدخول المباشر إلى حياتهم وسيرتهم الشخصية المنقولة إلينا من خلال نص الكتاب أو السنة أو في ثنايا المراجع التاريخية الموثوقة، وعلينا أن لا نقتصر في هذا المجال على الروايات التي سجلت في الأبواب الاعتقادية من المصادر والمراجع الحديثية، فإن ثمة إضاءات كثيرة وهامة ـ تتصل إما بدور المعصوم ومصادر علمه وصفاته الكمالية أو بخصائصه التكوينية وذوقه الخاص وطباعه الشخصية وانفعالاته البشرية ـ يمكن اقتباسها من الروايات المصنَّفة على أنها روايات فقهية.
النبي والخصائص البشرية:
واعتقد أن الصورة التي يمكن تكوينها ـ اعتماداً على المنهج المشار إليه ـ بشأن المعصوم هي الأبعد عن خطي الإفراط والتفريط، والأقرب إلى الواقع والحقيقة، أقصد حقيقة أن المعصوم ورغم تميّزه بملاكات روحية وخلقية عالية فإنه يبقى في خصائصه وطباعه وعواطفه بشراً، فهو ـ كسائر الناس ـ يتألم ويمرض ويجوع ويعطش، يبكي ويضحك يفرح ويحزن، ويعيش كل الأحاسيس والانفعالات والخصائص البشرية، لكنه يبقى ـ رغم ذلك ـ الإنسان الذي يتسامى إلى أعلى درجات الطهارة، ولا يسقط أو ينهار تحت ضغط الغريزة ولا ينقاد لهوى النفس، قال تعالى :{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ..}(الكهف:110).
إن الالتزام أو الإقرار ببديهة بشرية النبي(ع) تحتم الاعتراف بلوازم هذه البشرية أو خصائصها ومتطلباتها، ومن هذه الخصائص: امتلاكه ذوقاً خاصاً ـ كغيره من أفراد الإنسان ـ بحيث أنه ينجذب لأشياء ويحبها ويبغض أشياء ويكرهها، كما ورد في الخبر الصحيح عن أبي عبد الله(ع) قال: " كان رسول الله (ص) عزوف النفس وكان يكره الشيء ولا يحرّمه..."(وسائل الشيعة24/112 الباب 2 من كتاب الأطعمة والأشربة الحديث 21)، إنّ عزوف نفسه(ص) عن بعض الأشياء هو من مقتضيات طبيعته البشرية ولا علاقة له بصفته الرسالية، وهو ما يفسّر ما ورد من أنه (ص) "كان يعجبه الأكل من الذراع والكتف ويكره الورك لقربها من المبال"(راجع الكافي:6/315)، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث عن ذوقه الخاص(ص) في المطاعم والمشارب واللباس والتجمل...
الأنبياء واختلاف السلائق:
ومن مقتضيات البشرية ولوازمها التي لا تنافي العصمة بوجه: أن يتمايز النبي حتى عن غيره من الأنبياء في ذوقه وسليقته ونمط حياته بل في أسلوب إدارته للأمور، فهذا هارون النبي قد اختار في التعامل مع بني إسرائيل أسلوباً مغايراً لأسلوب موسى(ع) كما جاء في صريح القرآن الكريم {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعني أفعصيت أمري * قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}(طه:92-94)، يقول العلامة الطبطبائي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "وهذا المقدار من الاختلاف في السليقة والمشيئة بين نبيين معصومين لا دليل على منعه، وإنما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق وطرق الحياة على اختلافها"(الميزان8/251).
النبي والأفعال البشرية والتبليغية:
إن الوعي الكامل ببديهة بشرية الأنبياء ومستلزماتها لن تظهر فائدته في خصوص الجانب الاعتقادي، لجهة مساهمته في إعطاء صورة متوازنة عن الأنبياء بعيدة عن شطحات المغالين، بل إن له فائدة فقهية أيضاً وهي إخراج التصرفات التي تقتضيها طبيعة النبي وجبلته البشرية عن دائرة التشريع رأساً، كونها تصرفات صادرة عنه بصفته البشرية لا بصفته النبوية أو الرسولية.
وفي ضوء ما تقدم فإنّ علينا ليس فقط إعادة النظر في الأفكار والطروحات التي تتحدث عن اختلاف طينة الأنبياء عن طينة البشر، وإنما علينا أن نفصل بين نوعين من الأفعال الصادرة عن المعصوم:
1 ـ الأفعال التبليغية الصادرة عنه باعتباره مبلّغاً عن الله سبحانه ومبيناً لدينه وشريعته، وهذه الأفعال هي بطبيعة الحال مصدر إلهام وموضع تأسٍ للناس جميعاً.
2 ـ الأفعال أو التصرفات البشرية الصادرة عنه بصفته البشرية ومقتضياتها الفطرية، وهذه خارجة عن مجال التأسي والإقتداء، من قبيل ما مرّ بشأن عزوفه عن تناول بعض الأطعمة أو الأشربة ورغبته في تناول ألوان أخرى من الطعام والشراب، وثمة أمثلة ونماذج عديدة لأفعاله وتصرفاته البشرية تحدثنا عنها بالتفصيل في كتاب "الشريعة تواكب الحياة" ص98 وما تلاها فلتراجع.