موقعية اليقين في بناء المعرفة الدينية
الشيخ حسين الخشن
شكّل اليقين ـ سواء بمعناه الأصولي وهو الجزم الخالي عن أي تردد لدى النفس، أو بمعناه المنطقي الذي أضيف عليه عنصر المطابقة للواقع ـ حجر الزاوية في بناء المعرفة البشرية بشتى فروعها، وهكذا في بناء المعرفة الدينية على اختلاف حقولها، وإذا ما ذهب مشهور الفقهاء إلى حجية بعض أنواع الظن ـ كالظن الخبري ـ في المجال الفقهي، فليس ذلك إلا لقيام الدليل القطعي على حجيته.
وتزداد الحاجة إلى اليقين في المجال الاعتقادي، لأنّ عقد القبول والإذعان المطلوب في هذا المجال لا توفره الظنون والاحتمالات وإنما توفره الأدلة القطعية، ما يجعل كل عمليات الاستدلال العقدي محتاجة إلى عنصر اليقين وغير مستغنية عنه.
عصر اللايقين!
هذا ولكنّ لبعض الباحثين رأياً آخر في مدى الحاجة إلى اليقين، فهو يرى أن اليقين يمثل مرحلة من الزمن وقد تصرمت، وأما عصرنا فإنه محكوم لحالة اللايقين التي تسيطر عليه، وهي مرحلة من مراحل التفكير "والشخص الذي يتمنى العودة إلى يقين العصر السابق تمكن مقارنته بالعجوز الذي يحلم بالعودة إلى أيام الشباب"(محمد مجهد شبستري، علم الكلام الجديد وفلسفة الدين149)، وينفي الباحث المذكور ـ في ردّه على بعض الاعتراضات ـ أن يكون منطلقاً في طرحه هذا من نهج تشكيكي أو أن يكون هدفه رمي الإنسان في هذا العصر بأنّه يعيش حالة حيرة وشك، وإنّما مقصوده "باللايقينية واللاجزم الفلسفي والعلمي في العصر الحاضر هو أن العلماء اليوم لا يتوقفون عند أية قضية فلسفية كانت أو علمية ولا يعتبرون أية قضية الحد النهائي المطلق للبحث والتعقل، فالقضية أو النظرية مهما بذلت في سبيل إثباتها الجهود والمساعي تبقى قابلة للنقد والتمحيص ولا تتحول أية قضية حتى لو بدت بديهية إلى أساس للاستدلالات العلمية والفلسفية من دون فحص ومناقشة، إذن فاللايقينية في العلوم والفلسفة تعني استمرار النقد والبحث في المقدمات والأسس ونتائجها"(م.ن ص:177).
اليقين ولانهائية البحث الكلامي:
تعليقاً على هذا الكلام يمكن القول إن ابتناء جميع العلوم والمعارف على جملة من اليقينيات والأوليات التي لا مجال لإعادة النظر فيها، من قبيل استحالة اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، واستحالة الدور والتسلسل ونحوها.. هو أمر مفروغ عنه ولا يُظن أن الباحث المذكور بصدد التشكيك في هذا النوع من القضايا، أما فيما عدا ذلك فإنّ لكلامه قدراً عالياً من الصحة لكن في خصوص العلوم التجريبية التي يتحتم علينا عدم البت بنهائية نتائجها، وإبقائها محفوفة بفسحة من الاحتمال المخالف، تحفيزاً لحركية العلم واستمراريته، فضلاً عن أن تاريخ التجارب العلمية يفرض عدم التسرع في الاستنتاجات الحاسمة، فكم من قضية علميّة كادت تصل إلى مستوى الحقيقة في ثبوتها ثم جاءت الاكتشافات اللاحقة لتغيّر القناعة بشأنها في اتجاه آخر.
وأمّا في المعارف الدينية الاعتقادية فهي تختلف عن العلوم التجريبية في طبيعتها ووظيفتها وآليات إثباتها، وأهم ما يميّزها أنها لا تُبنى إلاّ على أسس يقينية وبراهين قاطعة، دون أن يؤدي ذلك إلى الجمود أو النهائية في البحث الكلامي، لأن الفسحة لا تزال قائمة لكن ليس على حساب أن يكون الدليل منتجاً لليقين، وإنما على صعيد مشروعية الاختلاف وإبداء الرأي سواء في حجية الدليل أو في مدى إنتاجه لليقين.
حجية اليقين في العقائد:
بعدما اتضح بشكل لا لبس فيه ابتناء المعارف كلها على عنصر اليقين، يبقى أن نتحدث عن حجية اليقين لجهة أن هذه الحجية لا يمكن أن تستغني عنها كل عمليات الاجتهاد العقدي بل إنها تشكّل مرتكزاً لكل الحجج الاعتقادية، لأن غاية ما تنتجه أو توصل إليه تلك الحجج هو القطع بهذا المفهوم الاعتقادي أو ذاك، فما لم يثبت مسبقاً حجية القطع فلا قيمة لتلك النتائج، وهذا نظير ما يذكر في البحث الفقهي والأصولي بشأن الدور الذي تلعبه حجية القطع.(راجع الحلقة الثانية للشهيد الصدر مبحث القطع)، لكن السؤال المهم أنه كيف نفهم الحجية في القضايا العقدية؟ فهل هي مشابهة تماماً للحجية في القضايا الفقهية؟ فإن من المعروف لدى الأصوليين أنّ الحجية تساوق المنجزية والمعذرية، فكيف نتصور المنجزية والمعذرية في الاعتقاديات؟
والجواب: أمّا بالنسبة للمنجزية فلا مشكلة في البين، فإذا كانت منجزية اليقين في المجال الفقهي تعني وجوب البناء عملاً على طبقة واستحقاق العقوبة في حال المخالفة، فإن منجزيته في المجال العقدي تعني وجوب البناء القلبي والالتزامي على طبقة واستحقاق الإدانة في حال الإنكار والجحود، فلو أن شخصاً أيقن بنبوة محمد(ص) ـ مثلاً ـ ومع ذلك جحد به استحق المؤاخذة، كما لو أيقن شخص بحرمة شرب الخمر ومع ذلك تناولها.
وأما بالنسبة للمعذرية فهي محسومة في المجال الفقهي، فمن أيقن بحلية شرب التتن ـ مثلاً ـ وكان في الواقع حراماً فإن يقينه هذا يمثل عذراً له أمام الله ما دام غير مقصر في الاجتهاد، ولكن هل يكون الحال كذلك في المجال العقدي؟ فلو قطع إنسان لسبب من الأسباب ـ ولو كان شبهة في مقابل بديهة ـ بعدم نبوة محمد(ص) فهل يشكّل قطعه عذراً له؟
ذهب مشهور علماء المسلمين إلى عدم المعذورية معتبرين أنّ هذا نوع من التصويب الباطل، ونحن قد عالجنا الموضوع في مقال سابق على صفحات "بينات" تحت عنوان " الاجتهاد في العقائد بين قبول النتائج أو رفضها" وخلصنا فيه ـ وفاقاً للشيخ البهائي إلى معذرورية المجتهد في العقائد حتى لو توصل إلى نتائج لا تلتقي مع الحق في شيء، شريطة أن يجرد النفس عن الهوى ويخلص النية في البحث والتحري..
انسداد باب العلم:
ان الحديث عن عدم حجية الظن في المجال العقدي يقودنا إلى التساؤل التالي: ماذا لو تعذر إقامة الدليل القطعي أفلا نتنزل إلى الظن ومن ثمّ الاحتمال؟
طرح الأصوليون هذا التساؤل في الحقل الفقهي واصطلحوا على تسميته بمبحث الانسداد، وخلصوا إلى أنه في حال انسداد باب العلم(اليقين) والعلمي (أي الدليل الظني المعتبر) فإنه لا بدّ من التنزل والأخذ بالظن وإن كان فرض الانسداد في الحقل المذكور غير واقعي، لتوفر الأمارات المعتبرة شرعاً ما يجعل باب العلمي مفتوحاً.
والظاهر أن التنزل إلى الأخذ بالظن لا مجال له في العقائد ليس لعدم واقعية الانسداد وحسب، لفرض توفر اليقين بالمقدار اللازم ـ وهو ما يجب في الاعتقاد ـ من خلال البراهين العقلية والنقلية، وإنما لأن التعويل على الظن إنما يتصور في المسائل الشرعية التي تتطلب امتثالاً عملياً دون المسائل العلمية التي تتطلب عقد القلب والاذعان وهو ما لا يوفره الظن.
الاحتمال المنجز:
أجل إن الظن أو الاحتمال قد يكون منجزاً بحكم العقل، بمعنى أنه لا يجوز إهماله وترك الاعتناء به، وإنما تلزم متابعته بالبحث والتحري وامعان النظر، وذلك من قبيل احتمال وجود الخالق أو احتمال صدق مدعي النبوة والسفارة عن الله، أو احتمال وجود يوم للحساب أو نحو ذلك من الأمور المهمة التي التزم فيها العلماء بمنجزية الاحتمال حتى في القضايا الشرعية، كقضايا الأنفس والأعراض والأموال، فضلاً عن القضايا العقدية (راجع من المبدأ إلى المعاد للمنتظري 236)، إلاّ أنّ منجزية الاحتمال في هذه الموارد لا تعني أبداً أنه غدا وسيلة إثبات، ليشكّل ذلك نقضاً لما ذكرناه من رفض التعويل على الظنون والاحتمالات في المجال الاعتقادي، وإنما غايته أن العقل يحكم بلزوم اتخاذه منطلقاً لعملية البحث والتفتيش كمقدمة لتكوين قناعة يقينية، وأين هذا من حجيته ـ اليقين ـ الإثباتية؟!
اليقين الكلامي والعرفاني:
ويشار أخيراً إلى أنّ اليقين المرتجى والمأمول الذي ينشده المؤمن وتمتدحه النصوص الدينية ليس خصوص اليقين الكلامي الذي يقف عند حدود العقل أو يورث القناعة العقلية، وإنما هو اليقين العرفاني الذي يخترق أسوار العقل ويلامس شغاف القلب، فيشعر ـ أي القلب ـ ببارد الإيمان والاطمئنان كما أحسّ العقل بساطع البرهان، وهذا النوع من الإيمان هو الذي طلبه إبراهيم الخليل فيما حكاه الله عنه بقوله:{قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}.