الدين والفطرة (1/3) نظرة في المفهوم والأحكام والمقتضيات
الشيخ حسين الخشن
"الفطرة" كلمة ذات وقع خاص ولها رواج وانتشار كبير في القاموس الإسلامي، إذ كثيراً ما تواجهنا تعبيرات أمثال: إن الإسلام دين الفطرة، أو أن هذا المعتقد تتطلبه الفطرة وذاك الحكم لا ينسجم مع الميول الفطرية، أو أن هذا الاتجاه أو الاعتقاد أو السلوك يتنافى والفطرة، والسؤال: ما المراد بالفطرة؟ وما هي أحكامها؟ وهل يمكن أن تشكّل مصدراً للإلهام الديني والمعرفة الدينية أو معياراً لمحاكمة العقائد والمفاهيم والتشريعات؟
في المفهوم:
إن مادة "فَطَر" ترد في لغة العرب بمعنى الخلق، قال تعالى: { إني وجهّت وجهي للذي فطر السماوات والأرض}(الانعام:79) أي خلقها، والفِطْرَة: هي الهيئة التي فُطْر الإنسان عليها وفق كيفية خاصة مزودة بجملة استعدادات تقتضي توجيهات عامة فكرياً وروحياً وسلوكياً.قال تعالى:{فطرة الله التي فطر الناس عليها}(الروم:30).
وقد اختصت وانفردت كلمة الفطرة في التعبير عن استعدادات الإنسان الجبليّة، بخلاف كلمة الغريزة فإنها تطلق على الخصائص المشتركة بين الإنسان والحيوان كالغريزة الجنسية أو سواها، ويناظر لفظة الفطرة في المعنى المشار إليه كلمة الصبغة الواردة في قوله تعالى:{ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة}(البقرة:138)، والاستعدادات الفطرية المذكورة يعيها الإنسان وعياً ذاتياً دونما حاجة إلى استدلال عقلي، فهي مدركات وجدانية لا عقلية، هذا هو التفسير الأقرب لمعنى الفطرة في المصطلح القرآني، بيد أن للمناطقة اصطلاحاً خاصاً في الفطرة، فقد قسموا القضايا الضرورية إلى ستة أقسام: الأوليات، المشاهدات وتسمى الحسيات، والتجريبيات، الحدسيات، المتواترات، والفطريات، وعرفوا الأخيرة بأنها القضايا التي قياساتها معها، من قبيل أن الأربعة زوج وأن الاثنين نصف الأربعة ونحو ذلك، وقد تسمى هذه بفطرة العقل البديهي، في مقابل فطرة القلب ومدراته الوجدانية كحضور النفس لدى النفس.
وإذا لم يكن ثمة مانع من القول: إن مفهوم الفطرة يتسع لكلٍ من فطرة القلب والعقل معاً، إذ كما أن القلب مفطور على جملة من الأحاسيس فإنّ العقل هو الآخر مفطور على جملة من المدركات، لكن لا بدّ من التأكيد على وجود فارق واضح بين المفاهيم الفطرية الوجدانية والمفاهيم العقلية، فالأولى لا تحتاج إلى وساطة قياس منطقي، بل إن إدراكها هو من قبيل العلم الحضوري، بخلاف الثانية فإن إدراكها والعلم بها داخل في إطار العلم الحصولي(بداية المعارف الإلهية: 1/26)، في ضوء ذلك يتضح أن دليل الفطرة مغاير لدليل العقل وأنه لا ينبغي الخلط بينهما، فالمعارف الفطرية سابقة على المدركات والبراهين العقلية، بل ربما شكلت ـ المعارف الفطرية ـ مقدمات ضرورية للبرهان العقلي، بالمقابل فإنّ خوض الإنسان غمار البحوث العقلية قد يشكّل عاملاً سلبياً في تشتيت أو تشويه المعطيات الفطرية.
الفطرة والاختيار:
إن المتطلبات الفطرية وإن كانت متطلبات تكوينية فُطر الإنسان عليها ولا يد له في صنعها، بيد أنها لا تصادر حريته أو تلغي اختياره، وهذا ما يدركه كل إنسان إدراكاً وجدانياً ويعيه وعياً ذاتياً، فغاية ما تستطيع الفطرة فعله أنها تخلق أرضية صالحة أو استعداداً معيناً يُوّجه الإنسان في اتجاهات عامة دونما قسرٍ أو إلجاء، فالفطرة ليست علةً تامة لتلك المتطلبات بحيث لا تنفك عنها، وإلاّ لما استطاع أحد الخروج أو الانحراف عن مسارها ـ أي الفطرة ـ أبداً، مع أن الأمر ليس كذلك كما نلاحظ، فما أكثر ما يحصل الانحراف عن خط الفطرة ومقتضياتها، وسيأتي أن للمؤثرات التربوية والظروف المحيطة بالإنسان دوراً بالغاً في تلويث الفطرة وحجبها عن التأثير، ما يعني أنها ليست سوى مقتضٍ لا يؤثر في مقتضاه إلا بعد رفع الموانع وتوفير الشروط والظروف الملائمة.
باختصار: إن النوازع الفطرية توجّه الإنسان وتساهم في هدايته ولكنها لا تصنع شخصيته الثقافية والفكرية بعيداً عن اختياره وإرادته، وفي هذا الإطار يجب أن نفهم الحديث النبوي الشريف "كل مولود يولد على الفطرة.."، فإنه لا يهدف إلى القول: بأنّ الفطرة تدفع الإنسان بشكل لا إرادي وتقهره على عقيدة التوحيد، وإنّما هي توفر له الأرضية الصالحة لتلقي وتقبل عقيدة التوحيد (وهذا ما أكدّه جمع من الأعلام، راجع: جامع الشتات للقمي:4/61، الطهارة للخميني3/310، جامع المدارك للخونساري6/180، نتائج الأفكار للكلبيكاني104).
من أحكام الفطرة:
انتهت تحقيقات علماء النفس إلى اكتشاف جملة من الإحساسات الفطرية لدى الإنسان، والحقيقة أنها إحساسات وجدانية يمكن أن يعيها كل واحدٍ منا وعياً ذاتياً إذا ما توجه إليها، من أبرزها: حب المعرفة والاستطلاع، فالإنسان يمتلك حساً فطرياً يدفعه إلى اكتشاف المجهولات، ومن الأكيد أن تقدم البشرية وتطورها العلمي مدين لهذا الإحساس إلى حد كبير، وهكذا فإنه ـ أعني الإنسان ـ مفطور على حب الجمال والكمال والخير والإحساس، ويعتبر الإحساس الديني واحداً من أجلى الإحساسات الفطرية كما ذكر القرآن الكريم وأكدّه علماء النفس والفلاسفة.
وفي مقام البرهنة على جملة من القواعد الكلية فقد أفاد علماء الكلام والأصوليون أنها من القضايا الفطرية، من قبيل قاعدة "قبح العقاب بلا بيان"(الأصول المهذبة للمجتهد التبريزي94)، وهكذا قاعدة قبح الظلم فقد ذُكرت في عداد القوانين الفطرية (قاعدة لا ضرر للسيستاني186)، وكذلك الحال في قاعدة وجوب دفع الضرر فقد رفض بعض الأعلام اعتبارها قاعدة عقلية وأدرجها في عداد الأحكام الفطرية التي جبلت عليها النفوس واستشهد لذلك بأن كل ذي شعور ـ وإن لم يكن من ذوي العقول ـ يفرّ من الشيء المضر ويسعى نحو الشيء النافع ويميل إليه كما هو المشاهد في الحيوانات (حقائق الأصول2/148 ومنتهى الدراية 5/108)، هذا مع أنه يمكن القول: بأن افتراض فطرية الحكم بضرورة دفع الضرر لا يتنافى مع كونه مدركاً عقلياً.
وامتد الاستناد والاعتماد على الفطرة إلى المجال التشريعي، فقد استدل الفقهاء على جملة من الفتاوى بموافقتها للفطرة، ففي باب التقليد ذكر بعضهم: أن لزوم رجوع الجاهل إلى العالم مستنده هو الفطرة، وأوضح العلامة الطبطبائي ذلك بأن الفطرة تقضي بوجوب اتباع العلم فيما تيسر تحصيل العلم به، وإذا لم لا يتيسر تحصيله فإنها ـ أي الفطرة ـ تدفع باتجاه اتباع علم الغير(الميزان13/92)، واستند الطبطبائي أيضاً وغيره في الحكم بتحليل الطيبات وتحريم الخبائث إلى أنه من الفطريات(م،ن8/280).
هذه الأمثلة وسواها تحتاج إلى دراسة تفصيلية وهذا خارج عن غرضنا، ولكننا استعرضناها كنماذج على انتشار الاستناد للفطرة ومقتضياتها في شتى العلوم، حتى قال بعضهم: إن مختلف القوانين العقلائية لها جذور فطرية، وهكذا الحال في الأسس الأخلاقية(العقيدة الإسلامية للسبحاني32)، وهذا وإن لم يكن بعيداً عن الصواب إلا أنّ الحذر من المبالغات ضروري في هذا المجال، فما يعرفه الإنسان بالفطرة هو أصول التفكير الإنساني المشتركة بين جميع أفراد البشر أمّا الفروع فمكتسبة (الفطرة للشهيد مطهري38).