في الحديث عن مصادر الاستنباط العقدي ـ مما أثرنا البحث عنه في مقال سابق ـ يبرز أمامنا عنصر الإجماع، فهل يصح الاعتماد أو الاستناد إلى الإجماع في الاستدلال الكلامي كما يستند إليه ـ عادة ـ في الاستنباط الفقهي؟
وبطبيعة الحال فإن مورد السؤال ومحل البحث ليس هو الإجماع التقريري الذي يكون الغرض من دعواه مجرد توصيف الواقع وبيان أن المسألة الفلانية هي مسألة إجماعية، وإنما محل البحث هو الإجماع الاستدلالي الذي يعتمد كدليل اثباتي للقضية العقدية المبحوث عنها، كما هو الحال ـ مثلاً ـ في اعتماد الشيخ المفيد على الإجماع لإثبات ختم النبوات بالنبي محمد (ص) قال رحمه الله: ".. إن العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبينا(ص) ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء، وإنما منع من ذلك الإجماع والعلم بأنه خلاف دين النبي(ص).."(أوائل المقالات68)، إلى غير ذلك من الأمثلة التي يمكن العثور عليها بالتتبع.
هل يُنتج الإجماعُ اليقين؟
يصرّ العلامة الطبطبائي رحمه الله على رفض حجية الإجماع في الحقل العقائدي ويظهر منه نسبة هذا الرأي إلى الشيعة عموماً، والوجه في ذلك برأيه: أن الإجماع لا ينتج سوى الظن، فهو خبر واحد أو بحكم خبر الواحد، "وأصول المعارف تحتاج إلى العلم القطعي، إذن لا أثر يبقى للاجماع ولا يمكن الاعتماد عليه، نعم ثمة مورد لحجية الإجماع في الأحكام الفقهية وحسب"(الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان؛ص:90-91).
وقد اعترض بعضهم على كلام السيد الطبطبائي الآنف بأن الإجماع ينتج اليقين وهو دليل قطعي مرجعه إلى السنة على مبنى الدخول(دخول المعصوم في قول المجمعين) ومرجعه إلى العقل على مبنى الكشف (أي اكتشاف موقف المعصوم من اتفاق المجمعين)، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يمنع من التمسك بمثل هذا الدليل القطعي في أصول المعارف؟
ورّد السيد على هذا الكلام بالتأكيد على أن الإجماع سواء أكان منقولاً أو محصلاً لا يفيد أكثر من الظن " ولا يتوقع أن ينتج نتيجة قطعية، لأنه مجموعة أقوال يظن بنسبة انطباقها مع قول الإمام (ع)، وحين يكون محتملاً للخلاف فمن المحال أن ينتج علماً قطعياً سواء أكان عن طريق الإنتاج الاصطلاحي أم كان عن طريق الحدس"(المصدر السابق؛ ص:240-241).
عدوى الفقه:
وإذا أردنا تفسير ظاهرة الاستدلال بالإجماع في المجال العقدي لدى علماء المسلمين فربما يسهل توجيه ذلك وتبريره بأنّ الإجماع ينتج اليقين والعلم، ولكن ـ باعتقادي ـ أنّ ثمة سبباً آخر يقف وراء هذه الظاهرة، وهو أن عدوى الاستدلال بالإجماع في الحقل الكلامي سرت إليه من المجال الفقهي، وهذه العدوى أو لنقل تأثر العالم المسلم لا شعوريا بنمط الاستدلال الفقهي لم يظهر في الإجماع فحسب بل ظهر جلياً في خبر الواحد أيضاً حيث كثر الاعتماد عليه في الاستنباط الكلامي كالاستنباط الفقهي، في غفلة بينّة عن اختلاف الموازين الاستدلالية بين الفقه والكلام، وهذا في الحقيقة يعبّر عن اجتياح المنحى الفقهي وسيطرته على عقل العالم المسلم متكلماً كان أو فقيهاً أو مفسراً، وهو ما جعله يستخدم أدوات الاستنباط الفقهي في المجال الكلامي، كأن الإسلام يساوي علم الفقه وحسب، إن ذلك إن دلّ على شيء فهو يدل على ضرورة تأصيل قواعد الاستنباط الكلامي على غرار ما حصل في أصول الفقه من تأصيل قواعد الاستنباط الفقهي، وبذلك تسهل الموازنة والمقارنة بين أدوات الاستنباط الفقهي والكلامي.
النفاق العقدي:
إن الاستدلال بالإجماع في المجال العقدي لم يُعبّر فقط عن سيطرة الذهنية الفقهية واجتياحها لكافة حقول المعرفة الإسلامية، وإنما كان له تداعيات سلبية أخرى فهو قد أثرّ سلباً على حيوية علم الكلام ومواكبته للمستجدات والتطورات، لأن دعاوى الإجماع خاصة في الحقل الكلامي تحولت إلى سيف مسلط بيد أولئك الذين أَلِفوا القديم وجنّدوا أنفسهم حراساً له، الأمر الذي جمّد العقل الكلامي وقتل فيه روح الإبداع، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فإن سطوة الإجماع هذه أسست لحالة من النفاق العقدي أو التورية العقدية أو كتمان الرأي في الصدور وعدم البوح به إلا للخواص، إنّ بعض العلماء وحذراً من أن تطالهم سهام التكفير أو التضليل و التبديع يعمدون إلى إخفاء آرائهم العقدية أو الفكرية التي تمس"المقدس الشعبي" وإذا ما اضطروا للإجابة وإبداء الرأي فإنهم يجيبون بعبارات ملتبسة حمالة أوجه.
"الإجماع الاحتفاظي":
نعم ربما يرى البعض أن الإجماع أثمر في حفظ هوية الجماعة المذهبية من التلاشي والتشتت، وشكّل حارساً أميناً لكيانها وحدودها الفكرية أمام اختراق "الآخرين" لأنه وضع خطوطاً حمراء أمام تجاوز الفواصل المذهبية من خلال مقولة التكفير وأخواتها، وقد اصطلح بعض العلماء وهو السيد عبد الأعلى السبزواري على هذا النحو من الإجماع بالاجماع الاحتفاظي، لأنه يهدف إلى حفظ وحدة الجماعة ولمّ شملها وعدم تشتتها، يقول رحمه الله: " ويمكن زيادة قسم من الاجماع وهو الاجماع الاحتفاظي، حيث أن العامة ـ أي السنة ـ تشتت إلى مذاهب كثيرة بما تجاوز التسعين كما لا يخفى على من راجع التواريخ، ثم استقرت مذاهبهم على الأربعة المعروفة بأمر من خليفة ذاك الوقت" والأمر الذي فعله السنة فعله الشيعة أيضاً، يقول السيد رحمه "وكان أعلام فقهائنا متوجهين إلى هذه الجهات فادعوا الإجماع في كل المسائل ـ مع وجود الدليل ـ اهتماماً ببقاء وحدة المذهب وعدم تشتته"(تهذيب الأصول 2/75).
والسؤال: إن وحدة المذهب ـ أي مذهب كان ـ هل تُحفظ بهذه الاجتماعات الموهومة التي لا تعكس الحقيقة أم تُحفظ بتشييد أركان المذهب على أسس متينة وبراهين مقنعة؟ وهل إنّ تحويل الإجماع إلى سيف مسلط على رقاب العباد بحجة حماية وحدة المذهب وأطره المذهبية هي بهذه المثابة من الأهمية بحيث تسوّغ دعوى الإجماع جزافاً، وتبيح القفز فوق كل المضاعفات الخطيرة المترتبة على ذلك، هذه المضاعفات التي ليس أقلها الحكم بالعزل أو التكفير على كل من يخالف الإجماع الموهوم، وليس أهونها بناء جُدرٍ سميكة بين أتباع المذاهب لا ترتكز على الحقائق بقدر ما ترتكز على عصبوية جاهلية مقيتة.
إنّ هذا التوظيف الخطير لمقولة الإجماع يبعث ـ في حال صحته ـ على الارتياب في ما مصداقية دعاوى الإجماع ويحتّم التوقف إزاءها ملياً قبل تصديقها والبناء عليها.
التوظيف السياسي:
وأعتقد أن ثمة توظيفاً هو الأخطر لهذه المقولة هو التوظيف السياسي، وقلّ أن تخلو عقيدة من عقائد المسلمين من التوظيف السياسي، فقد جهد العقل الكسروي والاستبدادي في العمل على استيعاب وتوظيف المفاهيم الدينية واستخدامها ذريعة لتحقيق أغراضه السلطوية، ووسيلة لإضفاء نوع من الشرعية على حكمه، وسلاحاً "شرعياً" لإسقاط خصومه وقمعهم، وإحدى أهم المقولات التي تم توظيفها في هذا السياق هي مقولة الإجماع التي استغلت أسوأ استغلال لا لقمع المعارضين واستحلال دمائهم أو زجهم في السجون فحسب، بل للحؤول دون تشكل نواة الفكر النقدي المعارض، كل ذلك بحجة" شرعية" وهي ما ورد في الحديث الشريف " إن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة فان الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب".
لقد مثّلت مقولة الإجماع المستند الشرعي الأساسي لتشكّل السلطة السياسية في العهد الإسلامي الأول، حيث لم تكن نظرية النص مطروحة لدى مدرسة الخلافة وإنما تمّ تبرير شرعية السلطة بحجة الإجماع.
وهكذا استمر الإمعان في التوظيف السياسي لمقولة الإجماع طيلة العهد الأموي والعباسي دون أن يواجه هذه "الشرعية" كبير مشكلة، فالإجماع قائم، إلى أن خَلَعَ السّلطانُ سليم العثماني آخِرَ خلفاء بني العباس سنة940هـ، وهنا عاد سؤال الشرعية ليطرح مجدداً باعتبار أن الأئمة والخلفاء لا بدّ أن يكونوا من قريش وفق منطوق الحديث الشريف المعروف، ولم يجد العقل السلطوي سوى الإجماع للتسلح به من جديد في مواجهة أزمة الشرعية هذه، فالأمة "التي لا تجتمع على الخطأ" هي نفسها أجمعت أو ادعي إجماعها على مبايعة ملوك بني عثمان وهذا الإجماع "المبارك" ينسخ الإجماع السابق على شرط القرشية في الخليفة، وكما جاء في المنتظم لابن الجوزي "ليس لنا دليل معصوم سواه ـ أي الإجماع ـ جعله الله في الشريعة خلف النبوة حيث كان نبيها خاتم الأنبياء لا يخلفه نبي، فيجعل اجتماع آمته بدلاً من نبوة بعد نبوة".
إنه التلاعب بالدين باسم الدين والاستغلال الفاضح لمفاهيمه المقدسة في بازار السياسة الوضيع.