حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
الدعاء وسيلة ضعف أم قوة
الشيخ حسين الخشن



 

 

هالني – لأول وهلة- عندما لاحظت وأنا أتصفح شبكة التواصل الاجتماعي(الـ facebook) تعليقاً لاحدى الأخوات سجلّته على دعوةٍ لي كنت قد وجهتهها – في إحدى ليالي الجمعة - إلى الأخوة والأخوات أن لا يحرموا أنفسهم من بركات دعاء كميل في مثل هذه الليلة، وكان تعليق تلك الأخت يقول: "لو أن الدعاء يأتي بنتيجة لانحلّت كل مشاكلنا"، "الدعاء – تضيف صاحبة التعليق- هو أسلوب الضعفاء والمهزومين والمقهورين".

 

   ولكن سرعان ما عُدت إلى نفسي وقلت: إنّ مضمون هذا التعليق - وبصرف النظر عن قائله أو دوافعه- هو جدير بالتوقف عنده ويحتاج إلى إجابة، فقد يُطرح من قبل البعض ويلقي بعض الصدى في النفوس، فهو بحاجة إلى أن نتوقف عنده، لننطلق منه إلى تقديم رؤيتنا بشأن الدعاء، ومدى تأثيره العملي، وهل تراه ينسجم مع كون الحياة جارية وفق القوانين والسنن، ثمّ لِمَ لم تنحل مشاكلنا وهي كثيرة من خلال الدعاء بل نحن أمة الدعاء؟!

 

   وقد لا يكفي في الإجابة على هذه التساؤلات القول: بأنّ القرآن الكريم نصّ على مشروعية الدعاء وحثّ العباد على الالتجاء إلى الله وطلب الحوائج منه فقال تعالى : {قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم} (الفرقان 77)، ووعدهم الإجابة {وقال ربكم ادعوني استجب لكم ...} (غافر 60)، والسبب في عدم كفاية هكذا إجابة هي أنّ هذا التساؤلات التشكيكية قد تنسحب على النص القرآني نفسه، ليقال: إنّ هذا النص في دعوته الناس إلى الدعاء إنما يريد بذلك أن يقدم بعض المخدرات الدينية للعباد وتهدئة خواطرهم والتخفيف من أزماتهم النفسيّة الناتجة عن الفقر والجوع والقهر والضعف والمعاناة.. ولذا لا بدّ أن نتلمس الإجابة بطريقة أخرى.

 

1)الدعاء وصناعة الشخصية العزيزة والقوية

 

   والذي أعتقده أنّ الكلام حول أن الدعاء هو ملجأ الضعفاء ووسيلة المهزومين والمحرومين هو كلام مجافٍ للحقيقة، بل هو كلام مَنْ يجهل حقيقة الدعاء وأثره في النفوس وفي واقع الحياة، إنّ الدعاء - بما يعنيه ويتضمنه من التجاء المرء إلى الله وطلب الحوائج منه - هو حاجة إنسانية عامة، فكل إنسان بحاجة إلى الدعاء، وحاجته هذه تنبع من فقره الذاتي، وحاجته المستمرة إلى الغني المطلق، فالدعاء فضلاً عن كونه تجسيداً حيا وعمليا لعقيدة التوحيد، فإنّه إقرار من الداعي بأنّ الله هو المهيمن والمالك وبيده كل شيء، وهو – أي العبد - إنما يلتجأ إلى الله ليستمد منه العزيمة والقوة والعزة والغنى، ليستطيع أن يتماسك في الحياة ويثبت في الشدائد، فالدعاء يعلّمه أن يكون قوياً لا ضعيفاً، لأنه يستمدّ القوة من الله القوي الجبار، والدعاء يمنحه العزة، لأنه يتصل بمن بيده العزة جميعاً، والدعاء يشعره بالغنى عن كل الناس، لأنه يرتبط بغني الأغنياء.

 

  ولهذا فإننا ندعو الله ، لا لأنّ الدعاء هو عبارة عن مهدئات أو علاج نفسي، بل لأنه يمدّنا بكل عناصر القوة والعزة والمنعة، ولأنّه يمنحنا الأمن والاستقرار الروحي وهو المدخل الأساس لاستقرارنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويكفي ذلك ثمرة وإيجابية لنتنادى إلى الدعاء ونشجع عليه.

 

   وقد تسأل : هل ندعو لأننا ضعفاء؟ وأجيبك أجل وما العيب في ذلك؟ ومَنْ من الناس لا يشعر بالضعف في بعض الأحيان أو لا يعتريه التعب أو الوهن في أحيان أخرى ؟ ومَنْ هو الذي لا يصاب بالألم والوجع؟ ومَنْ هو الذي لا يشعر بالخوف من المستقبل المجهول أو من بعض الأمور؟ وأين هو الإنسان الكامل المستغني بذاته؟ 

 

   إنّ بكاء العبد وشكواه وانكساره ورفع حوائجه إلى غيره يعبر بالتأكيد عن حالة ضعف، لكن حالة الضعف الوحيدة التي لا يشعر فيها بالمهانة والمذلة هي عندما يبكي بين يدي الله ويرفع حوائجه إليه ويشكو همومه له، لأنه لا يشكو للناس، وإنّما يشكو لربه، ولأنه لا ينكشف أمام نظرائه من بني الإنسان ولو كانوا ذوي قربى، وإنما يكشف نفسه أمام ربه الذي هو أعلم بنفسه منه {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، ولهذا فقد كان النبي(ص) يشعر بالقوة والعزة وهو يردد داعياً "إلهي أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى عدوٍ وكلته أمري أم إلى قريب فيقطعني أم إلى بعيد فيتجهمني".

 

    ولكن هذا لا يعني أن الدعاء هو مجرد مخدرات نفسيّة يصفها الدين للضعفاء والمتعبين، ليهدأ روعهم ويسكّن أنينهم، بل إنه يريد لهم أن يتعلموا من خلال الدعاء أن يكون الأقوياء، وليستمدوا القوة من الله، ثمّ متى كان أهل الدعاء الحقيقيون ضعفاء؟! إنّ الذين علّموا الناس الدعاء وكانوا سادة مَنْ دعى وأكثر الناس التجاءً إلى الله إنّ هؤلاء كانوا في الوقت عينه أشجع الناس وأقواهم عزيمة وأشدهم شكيمة، كانوا هم الذين غيروا وجه التاريخ وصنعوا العزة لأممهم وشعوبهم، لقد كان رسول الله(ص) أكثر الناس دعاءً لربه، ومن وحي دعائه واختلائه بربه في غار حراء صنع أمة وبنى مجداً، لقد كان علي بن أبي طالب(ع) دعّاءً أو كما يصفه بعض الشعراء "هو البكاء في المحراب ليلاً"، ولكنه كان أشجع الناس وأحكمهم وأقواهم عزيمة، "هو الضحاك إذا اشتد الحراب"، وهكذا كان معظم الأئمة (ع) والثائرون والمقاومون.

 

2)الدعاء والوظيفة التربوية

 

   ثم إنّ للدعاء وظيفة تربوية، ولا أبالغ إن قلت: إنّه أحد أفضل أساليب التربية تأثيراً وأشدها تغييراً، لأنّ محاسبة النفس ونقد الذات من خلال عملية الدعاء، تنطلق في جوٍ روحي مثالي حيث يستغني الداعي بالله ويشهده على تصرفاته وما في نفسه، طالباً منه العون والمدد، إن مدرسة الدعاء هي خير مدرسة للتغيير والتربية، ففي هذه المدرسة يتعلم الإنسان احترام الآخر والتحسس بآلامه وأوجاعه ويحاسب نفسه على تقصيرها تجاه المظلومين والمعذبين "اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره ومن ذي فاقة سألني فلم أو ثره ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره" (الصحيفة السجادية).

 

   وفي هذه المدرسة يتعلم التواضع ومراقبة النوازع الذاتية التي تفقده توازن الشخصية عندما يرتفع درجة أو ينال شهادة "أللهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي..."

 

  وفي مدرسة الدعاء يتعلم أن يكون منتجاً لا أن يكون عطالاً بطالاً "أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني.."

 

      وفي مدرسة الدعاء يتعلم كيف يقدر نعمة الزمن وكيف يحسن استثماره وإدارته "أللهم وهذا يوم حادث جديد وهوعلينا شاهد عتيد إن أحسنا ودعنا بحمد وإن أسأنا فارقنا بذم اللهم...".

 

   وفي مدرسة الدعاء يتعلم كيف يتحرك في خط العلم وأن يأخذ بأسباب المعرفة "أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني".

 

   وفي هذه المدرسة يتعلم مكارم الأخلاق "أللهم وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح واجزي من هجرني بالبر وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة...".

 

3)الدعاء والأخذ بقانون الأسباب والمسببات

 

   ولكن إذا كان للدعاء هذا التأثير القوي فلِمَ لم تنحل مشاكلنا؟ بل لِمَ تأخرنا ونحن أمة الدعاء؟

 

   والجواب: إننا تأخرنا في كثير من المجالات، لا لأننا أخذنا بالدعاء، بل لأننا لم نفقه معنى الدعاء، ولم نعرف منْ ندعو ومتى ندعو، فخِلْنا أنّ الدعاء يعني الاستغناء عن العلم، أوترك العمل، وأنّ علينا أن نلجأ في كل أمورنا إلى الله بعيداً عن منطق الأسباب والمسببات (منطق العلية).

 

   إنّ الله سبحانه أقام هذا الكون على أساس السنن والقوانين، وقد علّمنا القرآن الكريم أن نفتش عما وراء الظاهرة ،لأنّ لكل مسبب سببا، ووراء كل معلول علةً، وإنّ الدين يأمرنا بأن نأخذ بهذه السنن، لأنّ الأخذ بها هو الشرط الأساس لتقدم البشرية ، وعليه فإذا مرضنا فعلينا أن نأخذ بأسباب الشفاء ونتعالج "إن الذي خلق الداء خلق الدواء فتداووا"، وهكذا إذا افتقرنا فعلينا أن نبحث عن عمل أو صنعة نسترزق بها لا أن نجلس في بيوتنا ونطلب الرزق، فالرزق إنما يأتي مع الطلب والعمل "{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}.

 

   وإنه لخطر كبير وانحراف بيّن عن تعاليم الدين نفسه هذا الذي وقع به البعض عندما تخيلوا أن الارتباط المباشر بالله والطلب إليه مباشرة يغني عن الأخذ بالأسباب، فالإسلام يقول لنا: إذا أردتم النصر فلا يكفي أن تجلسوا في المساجد أو زوايا البيوت لتدعوا اللله بالنصر، بل عليكم أن تعدو العدة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ، وإذا أردتم النهوض فعليكم بالتغيير فـ {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وإذ أردتم الشفاء فعليكم بمراجعة الأطباء واستخدام الدواء.
   إنّ الدعاء في حقيقته - بما يعني من التجاء المخلوق إلى الخالق وطلب الحوائج منه باعتباره الخالق المقتدر والرازق والمنعم ومسبب الأسباب - يرتكز على تصور نظري إزاء هذا الكون مفاده: إنّ هذا الكون الفسيح من الذرة إلى المجرة لم يخلق عبثاً، بل هو قائم على أساس السنن والتنظيم والحكمة، وما علينا إلاّ أن نكتشف ذلك وأن نطلب من الله في أدعيتنا أن يوفقنا لاكتشاف مجاهل هذا الكون، وبهذا المعنى سيغدو الدعاء محفزاً للتقدم، ومساهماً في رقي الأمم، وليس سبباً في تخلفها على الاطلاق.

 

4)لماذا لا يستجاب

 

   ومن خلال ما تقدم يتضح بعض الجواب على التساؤل الذي يَطرحه البعض: لماذا لا يستجاب لنا ونحن ندعوا الله ؟ ونحن نلحّ عليه بطلب الحوائج ومع ذلك لا تتحقق أمنياتنا؟

 

والجواب: إنّ عدم استجابة الدعاء – مع أن الله تكفل الاجابة وكما قال أمير المؤمنين(ع): "ما كان الله ليفتح باب الدعاء ويغلق باب الاجابة" - لها أسبابها، وإحدى هذا الأسباب تكمن في أنّ بعض الناس يريد معاكسة السنن والقوانين، فهو يطلب الرزق دون عمل، ويطلب الشفاء دون استخدام الدواء، ويطلب النصر دون إعداد واستعداد، وهذا ما كان ليحصل حتى لأنبياء الله وأوليائه فما بالك بغيرهم، اللهم إلا على سبيل اللطف والكرامة، وهي حالة استثنائية وليست قاعدة عامة، ومن هنا ورد في الأحاديث الشريفة المتعددة أن ثمة أصنافاً من الناس لا يستجاب لهم، ومنهم ذاك الرجل الجالس في بيته يطلب الرزق فيقول: يا رب ارزقني،دون أن يسعى في سبيل تحصيل الرزق، ومنهم رجل كان بيده مال فأنفقه في غير وجهه أو أنفقه في البر والتقوى ولم يبق شيئاً لنفسه وعياله ثمّ قال: يا رب إرزقني، ومنهم رجل له حق على إنسان لم يُشهد عليه مع أنّ بإمكانه ذلك ، فيجحد ذاك الرجل حقه فيلتجأ الشخص إلى الدعاء، فيقال له: "ألم آمرك بالشهادة"، ومنهم شخص عنده امرأة تؤذيه بكل ما تقدر عليه وهو يدعو الله ويقول يا رب أرحني منها، فيقول له الله تعالى: "أوما قلدتك أمرها فإن شئت خليتها وإن شئت أمسكتها".

 

   كما أن بعض الناس لا يستجاب لهم، لأنهم لم يأخذوا بأسباب الدعاء وشروطه، ومن هذه الشروط ما يتصل بروحية الداعي في أن يتوجه إلى الله بقلب مخلص، لأنّ "الله لا يقبل دعاء قلب ساه" (كما في الحديث)، ومنها :ما يتصل بنوعية ما يطلبه الداعي من الله فعندما يطلب محالاً عقليا أو تكوينياً فلن يجاب دعاؤه، كمن يطلب من الله أن يريه وجهه، وكذلك عندما يطلب محرماً شرعياً، وقد ورد في عداد من لا يستجاب لهم "منْ دعى على ذي رحم أو في مأثم" (أنظر: الوسائل ج9 ص127 ح7) إلى غير ذلك من أسباب استجابة الدعاء وشروطه.

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon