الدين والفطرة(2/3) الإنسان بين هداية الفطرة وهداية الوحي
الشيخ حسين الخشن
هل يمكن أن تشكّل الفطرة مصدراً للمعرفة الدينية الاعتقادية؟ كيف ذلك؟ ما هو الدليل عليه؟ وكيف ندحض حجّة المنكرين للإحساس الديني الفطري؟
الدين حاجة فطرية:
قلنا: إن واحداً من أجلى الأحاسيس الفطرية لدى الإنسان هو الإحساس الديني، لكن هذا الأمر لا يبدو مسلماً، فإن ثمة من يعتقد أن فطرة الإنسان "محايدة" من هذه الجهة، فهي لا تختزن ميلاً نحو الإيمان أو الإلحاد، وإنما ذلك مكتسب ومستمد من البيئة الاجتماعية والمؤثرات التربوية، وعلى ذلك فقد فسّر بعضهم الحديث الشريف: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" بـ "أن المولود يولد على السلامة خلقاً وطبعاً وهيئة، ليس فيها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة، لأنه لو كان مفطوراً على إحدى هذه الحالات لما انتقل عنها أبداً" (المعجم الفلسفي:2/150). إلاّ أن هذه النظرية مجانبة للصواب، وكل واحد من بني الإنسان إذا رجع إلى نفسه وابتعد عن المكابرة يكتشف هذا الإحساس الديني في أعماق وجدانه، ولا نبالغ بالقول: إن الفطرة هي منبع التدين، وهي الدافع والمحرّك لعملية البحث في قضايا الإيمان، وبوحي منها يتحرك العقل فيبرهن ويستدل ويحاكم، ومهما عصفت الأيدلوجيات الإلحادية بالإنسان فإنها لن تستطيع أن تطمس أو تطفئ نور الفطرة، وثمة شواهد عديدة على فطرية الإيمان بالله سبحانه سنأتي على ذكرها.
وأما تفسير الحديث النبوي بما ذكر فهو تفسير غير موفق، بل الحديث على العكس أدلّ، فهو ليس بصدد نفي هداية الفطرة ومقتضياتها، وإنما هو بصدد بيان أنّ الانحراف عن الفطرة يتأتى من التربية الخاطئة، ولذا لم يأت الحديث على ذكر دور الأبوين في إسلام الابن ليقول ـ عطفاً على كلمة "يهودانه" ـ : أو "يسلمانه" على اعتبار أنه ـ أعني الإسلام ـ في عقائده الأساسية وخطوطه التشريعية والأخلاقية العامة منسجم مع الفطرة، على أن سياق الحديث يشهد بما نقول، فقد استشهد(ص) بمثلٍ حسي لتأكيد فكرة أن الانحراف طارئ على نظام الخلقة، ومفاد المثل: أن البهائم تُخلق دون عوار أو عيوب وإنما يطرأ عليها ذلك، ثم يستشهد(ص) بالآية الشريفة:{فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}(راجع الحديث في صحيح البخاري6/20).
كما أن ما قيل: من أن الإنسان لو كان مفطوراً على الإيمان أو الكفر لما انتقل عنهما أبداً كما جاء في الكلام المتقدم هو قول غير صحيح، لما ذكرناه في المقال السابق من أنّ النوازع الفطرية لا تسلب إرادة الإنسان، وإنما تخلق لديه استعداداً معيناً نحو الإيمان أو غيره من الأمور الفطرية.
الحاجة إلى هداية النبوة:
ولكن هل يكتفي الإنسان بهداية الفطرة ويستغني بها عن هداية الوحي؟
والجواب بكل تأكيد بالنفي، وذلك لسببين: أحدهما داخلي ينبع من صميم الإنسان وتكوينه الداخلي، والآخر خارجي تمليه بعض الظروف والمعطيات.
أما السبب الداخلي: فهو أنّ في تكوين الإنسان ـ مضافاً إلى الفطرة الهادية ـ متطلبات غريزية ينجذب إليها، وهذه المتطلبات رغم حاجته ـ أي الإنسان ـ إليها وعدم استغنائه عنها، فإنّها قد تجتاح إرادته وتخرجه عن خط الفطرة، وبعبارة أخرى: إن الغريزة أيضاً هي مما فطر الإنسان عليه، لحاجته إليها في معاشه وبقائه، وكثيراً ما لا يستطيع أن يوازن بين فطرة الغريزة وفطرة الخير وحب الجمال، فتتغلب عليه الغريزة وتطمس نور الفطرة الهادية فيسقط بذلك في أسر الشهوات وينحرف عن الصراط السوي، يقول العلامة الطبطبائي رحمه الله: "إنّ الإنسان ـ بحسب طبعه وفطرته ـ سائر نحو الاختلاف، كما أنّه سالك نحو الاجتماع المدني"، ويضيف: "إذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف فلن تتمكن من رفع الاختلاف، إذ كيف يَدْفَع شيء ما تجذبه إليه نفسه"(الميزان).
أمّا السبب الخارجي: فهو عبارة عن المؤثرات البيئية والظروف الاجتماعية والتربوية المحيطة بالإنسان والتي قد تحجب ـ بضوضائها ـ نداء الفطرة وتلوّث صفاءها، وقد شهدنا ولا نزال، حالات فردية أو جماعية تحاول التمرد على المتطلبات والمقتضيات الفطرية سواءً الاعتقادية منها، كالتمرد على فطرة الإيمان بالله ومحاولة جحوده وإنكار وجوده، أو السلوكية، كالتنكر لنزعة حب التملك وإلغاء الملكية الفردية، أو التنكر للرغبة الجنسية والدعوة إلى الترهب.
لو أضفنا إلى ما تقدم أن هداية الفطرة يعتورها نقص كبير نابع من محدودية أحكامها وعموميتها، الأمر الذي يحول دون مساهمتها في تقديم أجوبة تفصيلية حول الكثير من أسئلة الإنسان الملحة فيما يرتبط بقضايا المصير وعالم الآخرة، إنه بالالتفات إلى ذلك كله ندرك أن هداية الفطرة غير كافية وحدها لإيصال الإنسان إلى الكمال، وأنه بحاجة إلى هداية من نوع آخر، وهي هداية النبوة، وهذه الهداية هي الكفيلة برفع التنافي بين متطلبات الغريزة ومقتضيات الفطرة، كما أنها كفيلة بإزالة كل أشكال التلوث عن الفطرة وإعادتها إلى صفائها، وقد أشار الإمام علي(ع) إلى أنّ إحدى مهام الأنبياء(ع) محاولة إعادة الناس إلى صفاء الفطرة ونقائها، قال(ع):" فبعث ـ أي الله ـ فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول" (نهج البلاغة الخطبة الأولى).
مرجعية الفطرة بين النفي والإثبات:
إن الإقرار بفطرية الدين على نحو العموم لا بدّ أن يقودنا إلى التفاصيل، لنتساءل عن دائرة هذا الإحساس الفطري وسعته؟ فقد عرفنا أن جملة من القواعد الكلامية برهن عليها العلماء استناداً إلى دليل الفطرة، إلى ذلك فقد تمّ الاستناد إلى هذا الدليل في الكثير من المطالب الاعتقادية، وهذا ما يعنينا ـ حالياً ـ التركيز عليه والتأكد من صدقيته، فهل يمكن أن تشكل الفطرة مصدراً للمعرفة الدينية الاعتقادية كما هو الحال في العقل والوحي؟
ولكن قبل ذلك يهمني الإشارة إلى طبيعة الاستدلال بالفطرة، وذلك أنها تارة تعتمد دليلاً على نفي بعض المعتقدات أو الأحكام أو السلوكيات، وأخرى تعتمد كدليل إثبات، أما في الصورة الأولى ـ وهي صورة الاعتماد السلبي على دليل الفطرة ـ فيبدو أن مرجعية الفطرة أمر لا شك فيه، لا لأن ذلك مما يمليه العقل السليم القاضي بقبح أو استهجان أن يفطر الله الإنسان على استعدادات خاصة ثم يسّن قوانين مخالفة لتلك الاستعدادات أو النوازع، لا لذلك فحسب، بل لأنّ "الاعتماد السلبي" على دليل الفطرة هو القدر المتيقن لأدلة الفطرة من الكتاب أو السنة، فلو ثبت أن معتقداً معيناً أو سلوكاً محدداً يتنافى وموجبات الفطرة فيتعين رفضه، لأن منافاته للفطرة تكشف عن بطلانه وعدم صدوره عن مصدر الوحي، من قبيل القانون القاضي بإلغاء الملكية الفردية، أو إلغاء الزواج أو إباحة الشذوذ أو ما إلى ذلك وإنما الكلام في الصورة الثانية وهي صورة "الاعتماد الإيجابي أو الإثباتي" على دليل الفطرة، فهذا الأمر يحتاج إلى دليل، لأنّ التسليم بأن المفاهيم العقدية أو الأحكام الشرعية أو التعاليم الإسلامية تنسجم مع الفطرة ولا تضادها لا يعني التسليم ولا يلازم الاعتراف بمرجعية الفطرة في الإثبات والتشريع، ليغدو كل أمر تقتضيه الفطرة ثابتاً اعتقادياً أو مطلوباً شرعاً، فهل يمكن الالتزام بمرجعية الفطرة في مجال الإثبات؟ وما هو المستند لذلك؟
يبدو للباحث والمتتبع أن ثمة قضايا اعتقادية يمكن إثباتها بدليل الفطرة وهي ـ رغم قلتها ـ مهمة جداً، بل هي من أمهات القضايا العقدية. وهذا ما نعرض له في المقال اللاحق.