نحو بناء فقه مقاصدي
الشيخ حسين الخشن
أجرت مجلة "المرتقى المعرفي" التخصصية الصادرة عن حوزة الإمام الخميني في سوريا , في عددها الثالث الصادر عام 1433ه, حواراً فكرياً مع سماحة الشيخ حسين الخشن تحت عنوان "نحو بناء فقه مقاصدي", وفي ما يلي نص الحوار:
عندما تتجاذب أطراف الحديث المعرفيّ مع عالم رحبِ الرؤى، تتسع لك الكثير من الآفاق التي كنت تظنها – في مرحلةٍ ما- أقرب إلى الانغلاق..
سماحة الشيخ حسين الخشن (الذي يحب أن يسم نفسه – أبداً- بـ "طالب العلم")، عالمُ من هذا الطراز، جمع إلى غزارة علمه دماثة أخلاق وحداثة فكر..
تشعر – وأنت تحادثه- بين الفينة والأخرى باتزان بيّن؛ بين جاذبية الطرح التجديدي، ورصانة الأصالة العلميّة؛ وهو ما يضفي على مفرداته عُمقاً، ويرسم في بسمته فكرة حالمة..
في لقائنا.. تناولنا مع سماحته إحدى أكثر نقاط التجديد قلقاً؛ وهي التي تمس الصناعة الفقهية المثقلة بالجمود؛ لا سيما وأنّ بيئة اليوم تغمرنا بكمٍّ هائل من المستجدات التي تستدعي تجديداً منهجياً، إن على صعيد الشكل أو المضمون، بيدّ أنّ أهمية الموضوع لا يمكن أن تطغى على أهمية الطرح؛ لمدخلية كليهما الجوهرية في عملية التجديد الفاعل لبيئة الفقه المعاصرة، وهو ما يُعول عليه رواد الساحة العلميّة في مواكبة المستجد وإشباع موارد الفاقة المعرفية.
وكان لنا مع سماحته – في إحدى مساءات بيروت- اللقاء التالي:
المرتقى: بداية.. ما الذي تقصده تحديداً بمصطلح "فقه المقاصد" وهل يتفق - من حيث المعنى والأثر- مع المصطلح القانوني الحديث المسمى بـ "روح القانون"؟
الشيخ حسين: في البدء لا بدّ أن نلفت إلى نقطة محورية؛ وهي أنّ الشريعة الإسلامية لا تمثل قوالب جامدة أو أحكاماً اعتباطية متناثرة، بل إنها تتشكل من مجموعة أحكام منظمة في عقد واحد متسلسل، وتهدف إلى تحقيق مقاصد كلية تضمن خير الإنسان في الدنيا والآخرة، وقد قال النبي(ص) فيما روي عنه في خطبة الوداع: "يا أيها الناس، ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه" (الكافي، ج2/74).
وقد يبدو ما ذكرناه بديهياً، ولذا فالسؤال ينبغي أن ينصب على طبيعة هذه المقاصد وماهيتها، وهل يمكن لنا اكتشافها أم أن هذا الباب موصد في وجهنا؟ وما مدى إمكانية الاستفادة منها في عملية الاستنباط الفقهي؟ وما هي العوائق أمام انطلاق المنحى المقاصدي في الممارسة الاجتهادية؟
ولذا.. عندما يُدرس مصطلح "فقه المقاصد"، ينبغي أن يُدرس بلحاظ كل هذه المعطيات والحيثيات.
نظرة تاريخية:
المرتقى: حبذا لو أضأتم لنا تفصيلاً – في سبيل فهمٍ أوضح للمصطلح ودلالته- على المنحنى التاريخي الذي مرّ به مصطلح "المقصد الشرعي" (من حيث نشأته، ومراحل تطوره، والمدارس الفقهية التي تبنته أو حاربته)..
الشيخ الخشن: إنّ الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية ليس بالجديد، فهو مطروح في كتابات بعض العلماء المسلمين منذ أمد بعيد، ولعل أول جهد تأصيلي وأهمه في هذا المجال هو ما قام به الشيخ الغرناطي أبو إسحاق الشاطبي المتوفي سنة 790 في كتابه "الموافقات في أصول الأحكام" وبعد الشاطبي خفتت الجهود التي كان من المفترض أن تصب في اتجاه بلورة نظرية المقاصد وتعميقها وتقويتها، إلى أن انبعث وعاد هذا المنحى إلى التداول والظهور في العصر الحديث من خلال جهود وكتابات الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (ت: 1369هـ) والشيخ علال الفاسي وغيرهما..
ولو جئنا إلى الأوساط العلمية الشيعية، لوجدنا أن أصول الفقه وكذا علم الفقه الشيعي، كان ولا يزال مقفلاً أمام التفكير المقاصدي لمبررات سيأتي الحديث عنها وعن مدى تماميتها، باستثناء ما نجده من إشارة في غاية الأهمية لكنها تكاد تكون يتيمة في هذا المجال، وهي ما طرحه الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني ( ت 786 هـ )في كتابه القيم (القواعد والفوائد) فإنه بعد تقسيم الحكم الشرعي إلى ما يكون الغرض الأهم منه الآخرة وهو العبادة، وما يكون الغرض الأهم منه الدنيا وهو المعاملة، يذكر بعض مصاديق القسم الثاني، ومنها الوسائل الخمس، ورابعها "ما كان وصلة إلى حفظ المقاصد الخمسة، وهي النفس والدين والعقل والنسب والمال التي لم يأت تشريع إلا بحفظها، وهي الضروريات الخمس، فحفظ النفس بالقصاص أو الدية أو الدفاع، وحفظ الدين بالجهاد وقتل المرتد، وحفظ العقل بتحريم المسكرات والحد عليها، وحفظ النسب بتحريمه الزنا وإتيان الذكران والبهائم وتحريم القذف والحد على ذلك، وحفظ المال بتحريم الغصب والسرقة والجناية وقطع الطريق والحد والتعزيز عتيها" (القواعد والفوائد ج1 ص38).
وما يدعو إلى الأسف والاستغراب، أن نظرية الشهيد هذه لم تتابع من الأصوليين والفقهاء الذين أتوا بعده، فبقيت يتيمة، كما هو الحال في نظريته الأخرى الهامة حول كون تصرفات النبي(ص) ليست كلها تشريعية، بل بعضها تصرفات بشرية جبلية ولا علاقة لها بالتشريع.
أضف إلى ذلك أن المنهج الذي لا يزال معتمدا في تعامل الفقهاء مع النص واستنباط الحكم الشرعي منه هو اتباع "الطريقة البنيوية" وهي تعني الاقتصار على دراسة بنية النص وتركيبه من خلال القواعد الموضوعة لذلك، كقواعد الصرف والنحو والبلاغة والرجوع إلى المعجم العربي، وفي المقابل، استبعاد "ال طريقة البيئية"التي تدعو إلى درس النص في إطار بيئته الاجتماعية التي صدر فيها وعلى ضوء القرائن العامة والخاصة، ويقصد بالقرائن العامة: مقاصد الشريعة التي تمثل الإطار العام للتشريع الذي يلزم من يريد التعامل مع النص وضعها نصب عينيه لئلا يخرج الحكم عن إطاره التشريعي العام، ويقصد بالقرائن الخاصة الاستعمال اللغوي الاجتماعي للنص من قبل أبناء عصر الصدور" (راجع قضايا إسلامية معاصرة العدد9، 10 مقال للعلامة الفضلي، ص:76).
المرتقى: في هذا السياق.. ما هي الدوافع – بتقييمكم- وراء حضور مصطلح "فقه المقاصد" بقوة في الآونة الأخيرة على الساحة الفقهية؟
الشيخ الخشن: في الآونة الأخيرة برز اتجاه فقهي جديد مثّله بعض الفقهاء، وأخذت بشائره تلوح في الأفق الحوزوي؛ وهو يدعو إلى ضرورة ولوج عالم المقاصد والاستفادة من المنحى المقاصدي في العمل الفقهي الاستنباطي، وهذه الضرورة إلى ولوج عالم المقاصد تمليها عدة اعتبارات:
1- إن الشريعة الإسلامية فيما عدا العبادات ليست مقفلة أمام التفكير الإنساني، فإن عالم المعاملات والفقه العام هو عالم عقلائي وفطري بقواعده وأسسه العامة ولا مسرح للتعبد الشرعي فيه إلا نادراً، كما أقر بذلك جمع من الفقهاء، وحتى العبادات ليست طقوساً جوفاء أو أفعالاً لا تحمل روحاً أو معنى، بل إنها ترمي إلى أهداف واضحة، ولا يجد الإنسان صعوبة في فهم ما ترمي إليه الطهارات الثلاث (الوضوء الغسل التيمم) وما تهدف إليه الصلاة أو الصيام أو سائر العبادات.
2- إن ابتناء أحكام الشريعة على المصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات سبب آخر يدعونا إلى فتح باب المقاصد ومحاولة اكتشاف علل الأحكام ومراميها، لأن الشارع الذي لا يأمر إلا بما فيه المصلحة ولا ينهى إلا عما فيه المفسدة، لم يتعمد ولم يكن في برنامجه وتخطيطه حجب هذه المصلحة أو تلك المفسدة عن عبادة، ولهذا فهناك إمكانية كبيرة وعالية ومن خلال النظرة الفاحصة في الكتاب والسنة، أن يتوصل الفقيه إلى ملاكات الأحكام، وهذا الباب ليس موصداً بوجهه لا بحكم العقل ولا بمرسوم من الشرع.
المنحى المقاصدي في القرآن الكريم:
المرتقى: أين يمكن أن نجد إضاءت أو إشارات إلى دخالة المقصد في عملية الاستنباط من خلال القرآن الكريم – باعتباره مصدر التشريع الرئيس- أو في السُّنة المعصومة (النبي والأئمة(ع)): بصفتها المرجعية العمليّة للتشريع (فمثلاً: هل يمكن أن نتلمس في فرض الإمام علي(ع) الزكاة على إناث الخيل – وهو ما لم يكن في زمن رسول الله(ص)- نوعاً من التطبيق المقاصدي الذي يمكن للفقيه اعتماده في موارد أخرى)؟
الشيخ الخشن: إنّ اهتمام القرآن الكريم والسنة الشريفة ببيان مقاصد الشريعة وعللها وحكمها وما ترمي إليه، هو سبب وجيه يدعونا إلى ولوج عالم المقاصد ومحاولة الإفادة منه.. وذلك في ضوء التفصيل الآتي:
أ-القرآن الكريم ومقاصد الشريعة:
فالمتأمل في التشريعات القرآنية يلحظ ظاهرة بارزة فيها، وهي أنها لم تطرح بطريقة فتوائية جامدة، بل بطريقة تعليلية توجيهية تقربها إلى الأذهان وتشير إلى فوائدها وفلسفتها، وهذا على الرغم من أن القرآن هو صاحب شعار {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (الأحزاب:36)، وهذه الظاهرة القرآنية التعليلية نلحظها على مستويي الواجبات والمحرمات معاً. وإليك بعض الأمثلة في المقامين:
على مستوى الواجبات
1- الوضوء والتيمم وفائدة التطهير: يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (المائدة:6).
2- الصلاة والنهي عن المنكر: قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والنكر..} (العنكبوت:45).
3- الحج ومنافعه: قال سبحانه: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق× ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير× ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج:27-29).
على مستوى المحرمات:
1- مفاسد الحمر والميسر: يقول تعالى: {يسأللونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (البقرة:219) وهذه الآية كالصريحة في أن التحليل والتحريم تابع للمصالح والمفاسد، وأنه إذا غلبت مفسدة الشيء على مصلحته كان حراماً وإلا كان حلالاً، وفي آية أخرى يبين لنا الله مفاسد الخمر والميسر فيقول :{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون× إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (المائد:90-91).
2- الربا وتدمير المجتمع: يقول الله سبحانه: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس..} (البقرة:275)، فالآية ربما تشير إلى أن المرابين ونتيجة لسيطرة حب المال على قلوبهم وعقولهم، فإنهم سيصابون بالعمى من النتائج السلبية للربا ويؤدي تماديهم في المراباة إلى تخبط المجتمع الربوي برمته وعدم استقراره.
3- الزنا ومفاسده: بعبارة موجزة ومختصرة أشار القرآن الكريم إلى أن علة تحريم الزنا هي كونه فاحشة وسبيلاً سيئاً ، تاركاً لعقولنا اكتشاف مفاسده ومساوئه، قال سبحانه: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً}(الإسراء:32).
السنة ومقاصد الشريعة:
وكما كان القرآن الكريم مهتماً ببيان مقاصد الشريعة عللاً أو حِكَمَاً، فإنّ السنة الشريفة نسجت على هذا المنوال أيضاً، وقلما تجد حكماً فرعياً أو كلياً لم تعلله السنة لنا أو تبين فلسفته وحكمته، ويكفينا في هذا المجال مراجعة كتاب "علل الشرائع" للشيخ الصدوق لنرى بأالعين م شدة اهتمام النبي(ص) والأئمة المعصومين(ع) ببيان فلسفة كل التشريعات الإسلامية في مئات من الروايات المروية عنهم(ع)، كما أننا نلحظ في التراث القليل الذي بلغنا عن سيدتنا الزهراء(ع) تركيزاً على المنحى المقاصدي، فخطبتها الشهيرة في جموع الأنصار والمهاجرين تضمنت بياناً مفصلاً عن أسرار التشريع وأهدافه، وهذه بعض مقاطعها، قالت(ع): "فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظام للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزا للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنفاق، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء...الخ" (بحار الأنوار، 34/148).
محفزات انطلاق التفكير المقاصدي وثماره:
المرتقى: بلحاظ اتساع موارد التقنين الفقهي، وكم من الابتلاءت المستجدة المتزايدة.. ما هي الثمار الفعلية التي يمكن أن تجنيها صناعة الفقه من إدخال المقصد في عملية الاستنباط؟
الشيخ الخشن: إن فتح باب التفكير في مقاصد التشريع الإسلامي له ثمار وفوائد عديدة وإيجابيات كثيرة؛ بعضها يرتبط بشكل أو بآخر بعملية استنباط الحكم الشرعي، وبعضها يرتبط بحركة الأحكام الولائية، وبعضها يهدف إلى تركيز الإسلام في نفوس المسلمين. وإليك التفصيل في ذلك:
1-إيجاد إطار تشريعي عام
إذا لم يكن باب علل الأحكام موصداً في وجهنا، ولم تكن الشريعة مجرد قوالب جامدة أو أحكام اعتباطية كما تقدم، فبالإمكان الاستعانة بالكتاب والسنة لاكتشاف هذه العلل أو استخراج المقاصد والقواعد العليا للتشريع التي تشكل الإطار التشريعي التي يلزم على الفقيه مراعاتها ووضعها نصب عينيه أثناء ممارسة العملية الاجتهادية، وإن الكثير من القواعد المقاصدية التي تسهم في تشكيل الإطار التشريعي المذكور منصوص عليها في الكتاب والسنة، ولا يحتاج الفقيه إلى عناء اكتشافها ليشكل عليه بأنها علل ظنية ، والظن لا يغني عن الحق شيئاً، ورغم أن هذه الكليات المقاصدية منصوصة، لكن لا يتم استثمارها فعلاً في العملية الاستنباطية، وإنما يتعامل معها معاملة ما يصطلح عليه بالحكمة التي لا يقاس عليها ولا يدور الحكم الشرعي مدارها، ولو أن فقيها استثمر أو استفاد من هذه النصوص المقاصدية، فإنه يتعامل معها معاملة المطلقات والعمومات القابلة للتخصيص والتقييد، مع أنها لا تندرج في نطاق الحكمة بالمعنى المصطلح، وليست من سنخ العمومات القابلة للتقييد ، وإنما هي "جزء من الأدلة الكلية العامة التي توجه النظر الفقهي الاجتهادي على أساس المقاصد، والمقاصد غير قابلة للتقييد ولا التخصيص، بل هي مطلقة وعامة تحكم على جميع مطلقات وعمومات الشريعة" (قضايا إسلامية معاصرة، عدد:9،ص:11 مقابلة مع الشيخ شمس الدين).
يعني أن هناك نوعين من الكليات: الكليات المقاصدية، والكليات العادية، والأولى يكون حالها حال العمومات الآبية عن التخصيص، فكما لا يمكن تقييد أو تخصيص قوله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء:81) بأن يقال: الباطل زاهق إلا الباطل الكذائي! كذلك لا يمكن تقييد قوله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط } (الأعراف:29) أو قوله: {وأمرت لأعدل بينكم } (الشورى:15) أو قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى}(النحل:90) لتكون النتيجة بعد التقييد أن الله يأمر بالقسط والعدل إلا في الحالة الفلانية أو مع فلان من الناس!
ثم إن الكليات المقاصدية التي تشكل الإطار العام للشريعة قد لا يكون بعضها منصوصا ً بشكل مباشر، وإنما يمكن إستفادتها من التأمل في ما طرحه الكتاب والسنة من مفاهيم وأحكام، وعلى سبيل المثال: من يتأمل في حث الشارع وترغيبه في الزواج ودعوته إلى الإسراع فيه، لا سيما بالنسبة للأنثى، ويتأمل في المقابل تشديده في أمر الزنا ونهيه عنه وعن اللواط والسحاق والإستنماء، يحصل له اليقين أن الزواج إنما شرع بهدف تحصين كل من الرجل والمرأة، مضافا غلى استمرار النسل البشري، وعليه فكيف نوائم بين ذلك وبين الفتوى المشهورة القائلة: "إن حق المرأة الجنسي هو أن يعاشرها زوجها في كل أربعة أشهر مرة واحدة"، فإن ذلك لن يحقق التحصين الذي شرع الزواج لأجله، ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع) عن رسول الله(ص) أنه قال: "أيها الناس... إنّ الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر، إذا أدرك ثمره فلم يجتن أفسدته الشمس ونثرته الرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركت ما يدرك النساء فليس لهن دواء إلا البعولة، وإلاّ لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشر.." (الكافي:5/377ح2)، وهذا ما حدا ببعض الفقهاء إلى التأمل في الفتوى المشهورة واختياره المساواة في الحق الجنسي بين كل من الرجل والمرأة (راجع كتاب النكاح ج 1 للسيد فضل الله).
2-إيجاد ناظم وهاد لحركة الأحكام التدبيرية:
إن التفكير المقاصدي إن لم يستطع أن يكتشف علل الأحكام الواقعية كون العقل البشري غير قادر على الوصول إليها كما يقال: فلا ريب أنه يستطيع الإسهام في إلقاء الضوء على الأهداف والمؤشرات العامة للتشريع الإسلامي، وهذه الأهداف تصلح ناظما وهادياً لحركة الأحكام التدبيرية الصادرة من ولي الأمر لملء منطقة الفراغ: بحيث إن الحاكم الشرعي يستهدي هذه الأهداف والمقاصد في أحكامه التدبيرية ويسير على ضوئها، ومثال ذلك، كما يذكر الشهيدالصدر(ره)، النص القرآني الآتي: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}(الحشر:7) فإن الظاهر من النص الشريف أن التوازن وانتشار المال بطريقة تشبع كل الحاجات المشروعة في المجتمع وعدم تركيزه في عدد محدود من أفراده هدف من أهداف التشريع... وعلى هذا الأساس يحق لولي الأمر أن يضع كل الصيغ التشريعية الممكنة التي تحافظ على التوازن الإجتماعي في توزيع المال وتحول دون تركزه في أيدي أفراد محدودين" (الإسلام يقود الحياة،ص:45) ومن الإجراءات التي يمكن للحاكم اتخاذها لتحقيق الهدف المذكور، أن يفرض بعض الضرائب على أصحاب رؤوس الأموال والأثرياء أو ما شابه ذلك .(المرجعية والقيادة للسيد الحائري، ص:133).
ومثال آخر يذكره الشهيد الصدر أيضاً: وهو أن نصوص الزكاة صرحت بأن الزكاة ليست لسد حاجة الفقير الضرورية فحسب، بل لإعطائه المال بالقدر الذي يلحقه بالناس في مستواه المعيشي، أي لا بد من توفير مستوى من المعيشة الذي يتمتع به غير الفقراء في المجتمع، وهذا يعنى أن توفير مستوى معيشي موحد أو متقارب لكل أفراد المجتمع هدف إسلامي لا بد للحاكم الإسلامي من السعي في سبيل تحقيقه. (الإسلام يقود الحياة:45) والنصوص التي يشير إليها الشهيد الصدر هي من قبيل ما روي عن الإمام الصادق (ع): ".. وما أخذ من الزكاة فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس" (وسائل الشيعة،باب 8 من أبواب المستحقين للزكاة، ح4).
وفي حديث آخر عنه أيضاً(ع)، سأله الراوي عن صديق له يملك داراً تسوى أربعة آلاف درهم، وله جارية وله غلام يستقي على جمل له كل يوم قيمة درهمين إلى أربعة دراهم ، مضافاً إلى علف الجمل، وللرجل عيال أيضاً، أفيجوز له أن يأخذ من الزكاة؟ فقال (ع): "نعم"، قال السائل: وهذه العروض؟! فقال (ع): "يا أبا محمد، فتأمرني أن آمره ببيع داره وهي عزه ومسقط رأسه؟! أو ببيع خادمه الذي يقيه الحر والبرد ويصون وجهه ووجه عياله؟! أو آمره أن يبيع غلامه وجمله وهو معيشته وقوته؟! بل يأخذ من الزكاة فهي حلال ولا يبيع داره ولا غلامه ولا جمله" (م ن، ح 3، ب9 من نفس الأبواب).
3- إخراج الفقه عن الشكلية والطقوسية
إن اكتشاف أسرار الشريعة ومراميها يعني أن المسلم "يأخذ الإسلام في العمق لا في السطح، فيكون الالتزام بأية مفردة من مفردات الإسلام عقيدة أو شريعة التزاماً بالسر الكامن فيها.. وبهذا نخرج عن الجمود الطاغي على ممارستنا وأعمالنا الإسلامية، بحيث أن المسلمين يتحركون بالإسلام من الخارج ولا يتحركون به من الداخل، مع أن الله سبحانه يريد أن يكون إسلامنا إسلام العقل والقلب والروح والإحساس والشعور قبل أن يكون إسلام الممارسة العملية الخارجية الشكلية" (الزهراء القدوة للسيد فضل الله 258 بتصرف).
ويرى الشهيد مطهري أن المدرسة الإخبارية اتسمت بالجمود والقشرية، ومن الأمثلة على ذلك إصرارهم على التحنك (إسدال حنك العمامة)، بينما الفيض الكاشاني ورغم اخباريته تخلص من ربقة الجمود ورأى أنه لا داعي للتحنك، لأن الأمر بإسدال الحنك كان معارضة للمشركين الذين كانوا يشدون الحنك ولا يسدلونه، فجاء الأمر بالتحنك معارضة لهم، حتى لا يتمسك المسلم بشعار غير إسلامي (الإسلام متطلبات العصر للشهيد مطهري:168).
تعزيز موقع الإسلام في النفوس
إن بيان مرامي التشريع وأهدافه ومقاصده له دوره في تمتين علاقة المسلمين بإسلامهم، لما يرونه من انسجام أحكامه وهدفيتها وابتعادها عن الاعتباطية أوالقشرية والشكلية ،كما أن لذلك دوراً في تفهم الآخرين للإسلام، وربما جذبهم إليه وأقنعهم به، لما يرونه من تحليل منطقي لكل حكم من الأحكام أومعتقد من المعتقدات،لأن من الطبيعي أن الإنسان لن ينجذب إلى ما لا يفهمه ولن ينشد إلى ما لا يفقهه، ولهذا تغدوعملية بيان أسرارالتشريع ومقاصده عملية دعوة إلى الإسلام وعملاً تبليغياً شريفاً.
معوقات اطلاق الفقه المقاصدي:
المرتقى: في ضوء كل هذه الأهمية التي أضأتم عليها لـ "فقه المقاصد".. ما هي تاعقبات التي تحول دون تطبيقها كآلية فاعلة في صناعة الفقه؟؟
الشيخ الخشن: تقف بوجه انطلاق عجلة الفقه المقاصدي عدة عقبات لا بد من تذليلها، وبعض مطبات لا بد من تجاوزها وإشكالات مشروعة لا بد من الإجابة عليها:
1- الذهنيةالتفكيكية: سادت - ولا تزال- في الأوساط والكتابات الفقهية النظرة الفردية التفكيكية التي تتعاطى مع الشريعة على أنها مجرد نصوص متناثرة وأحكام متشتتة لا يربطها رابط ولا ينظمها ناظم، وهذا ما تعبر عنه المقولة الشائعة القائلة: "إن الشريعة مبتنية على جمع المتفرقات وتفريق المجتمعات" (فوائد الأصول 3/91)، إلاّ أنّ هذه المقولة وإن ترسخت في الذهن الفقهي وربما يذكر لها بعض الأمثلة، لا يمكن قبولها بالمطلق، لأنها تكرس الشريعة كمجموعة من الأحكام المتناثرة، وهو ما لا ينسجم مع كونها نظام حياة متكامل للمجتمعات الإنسانية ف يمختلف الأزمنة، بل إن ذلك لا ينسجم مع واقع الحال، فإن المتأمل في الشريعة يجدها هادفة منتظمة مترابطة، وكل حكم من أحكامها يشكل لبنة في بناء الشريعة المتكامل، ومن هنا جاء الرفض القرآني لفكرة الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} (البقرة:85) فإن الإسلام كلهم تكامل، فإن ما أن تؤمن به ككل أو ترفضه ككل.
هذا على أن المقولة المذكورة ليست نصاً صادراً عن معصوم، وإنما هي عبارة لبعض الفقهاء استفادوها مما رأوه من اختلاف حكم بعض المتماثلات في الشريعة، وما أبعد ما بين ذهنية هؤلاء وذهنية بعض الفقهاء الآخرين الذين ألفوا في الأشباه والنظائر، كالشيخ يحيى بن سعيد الحلي (ت:690ه¬¬¬¬¬ـ) صاحب كتاب "نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر"، حيث عمل في كتابه على جمع الأحكام المتشابهة مما هو موزع في أبواب فقهية مختلفة.
2- الذهنية التعبدية: العائق الثاني أمام انطلاق عجلة الفقه المقاصدي هو سيطرة فكرة أو عقدة التعبد على الذهنية الفقهية إلى حد تغدو معه الشريعة مجرد قوالب جامدة وشكلية، وقوانين متحجرة وقشرية، والعذر الذي يتشبث به أصحاب الذهنية االتعبدية هو عدم تمكن العقل البشري من إدراك ملاكات الأحكام وعللها بشكل قطعي، لأن دين الله لا يصاب بالعقول، أما العلل والمناطات الظنية فلا قيمة لها، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا ً.
وفكرة التعبد الشرعي هذه صحيحة في دائرة العبادات، - كما مر سابقاً- لأن العبادة هي دين الله ومن اختراعه، فلا يمكن أن تصاب بالعقول، ولهذا "يناط وجودها بأمر الشارع، فهو مصدرها وبه قوامها، ومن هنا انعقد إجماع الفقهاء على أنها من الأمور التوقيفية وأن الأصل فيها المنع حتى يثبت الإذن من الشرع، ومن تعبد الله في شيء على أنه حكمه تعالى بلا إذن منه فقد أحدث في الدين وأبدع، قال سبحانه: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى:21) (الإسلام بنظرة عصرية للشيخ مغنية:95).
ولكن تعميم فكرة التعبد إلى سائر الحقول الفقهية غير العبادات كفقه المعاملات غير سديد ولا دليل عليه، لأنه ليس من اختراع الشارع، "وليس له فيها حقيقة شرعية، وإنما هي عادات وتقاليد عرفية اصطلح الناس عليها والتزموا بها في التعاون والتعامل، والشارع أقر بعضها كما هي وألغى بعضها من الأساس وقلم أوطعم البعض الآخر في نطاق المصلحة" (م.ن:96)، وإذا كان المبدأ العام في العبادات هو التعبد، فإن المبدأ الأساسي في المعاملات ما لم يثبت خلافه أنه لا يوجد تعبد، ولذا لا بد أن تنزل وفقاً للأدلة العليا من الشريعة، ووفقاً لمقاصدها وما نفهمه من ملاكاتها ومناطاتها (الاجتهاد والتجديد ص:21)، وقد ذكر العلامة شمس الدين مثالاً لذلك، وهو تناول الملح قبل الطعام نافياً استحبابه وتعبديته وقد أشرنا إلى ذلك في بعض الأبحاث السابقة.
ويقول العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله: إننا نتصور أن القول بعدم إمكان إدراك الملاك بالمطلق هو قول غير دقيق، لأننا إذا لم نستطع إدراك الملاك في الأحكام التوقيفية كالعبادات وأمثالها، فإن بإمكاننا أن ندرك الملاك في المعاملات، ولكن المشكلة هو الاستغراق في التعبدية والتعامل مع الفقه بمنطق الأسرار والتعبد المحض، ثم يذكر سماحته مثالاً لذلك، وهو قضية التعدد في تطهير المتنجس بالبول، حيث يشترط الفقهاء غسله بالماء القليل مرتين، فلو غسل بقطرتين من الماء متواليتين فإنه يطهر، ولكننا لو أهرقنا إبريقاً كاملاً دفعة واحدة بلا تعدد فلا يطهر لأنه لم يحصل التعدد؟! مع أنه يمكن القول إن التعدد في الغسل ليس إلا لإزالة عين النجاسة بالغسلة الأولى وإزالة الاستقذار بالثانية، بحيث أن الكمية الكبيرة من الماء تحقق الفرض بطريقة أكيدة أكثر من سابقتها" (م.ن 44 بتصرف).
3-عقدة القياس: اتخذ أئمة أهل البيت(ع) موقفاً صريحاً وواضحاً في رفض القياس كمصدر من مصادر التشريع، وتواترت الأخبار عنهم في ذلك، وغدا رفض القياس معلماً من معالم المدرسة الإمامية ووافقهم الظاهرية على ذلك، فألف شيخهم ابن حزم رسالة في إبطال القياس.
ولدى مراجعة كلمات الأئمة(ع)، يتبين أن السبب في رفض القياس يعود إلى ظنيته من جهة، وعدم الحاجة إليه من جهة أخرى، لعدم وجود فراغ تشريعي يدعو إلى الاستناد إليه، ففي الحديث عن الإمام الكاظم(ع)، وقد سئل عن السبب في حجية القياس، قال: "لأنه ليس من شيء إلا وقد جاء في الكتاب والسنة" (جامع أحاديث الشيعة 1/329).
هذا، ولكن بطلان دليله بالقياس لا يجوز أن يتحول إلى عقدة تمنع من انطلاق الفقه المقاصدي ومحاولة اكتشاف مناطات الأحكام الشرعية بالتأمل والتبصر في الكتاب والسنة، لأن إشكالية القياس تكمن كما أشرنا في أن نقل الحكم من الأصل إلى الفرع المشابه له مبتنية على الظن في وحدة المناط بينهما، فلو أمكننا اكتشاف الملاك على محو القطع أو الإطمئنان فلا يبقى هناك مشكلة. ومن هنا اعتقد الكثير من الفقهاء رغم رفضهم للقياس بحجية قياس الأولوية أو قياس منصوص العلة، وما ذلك إلا للقطع فيهما بوجود مناط الحكم في المقيس، وإن حاول بعضهم تبرير استثناء هذين بأنهما ليسا من القياس المصطلح في شيء.
وهكذا فإن الفقهاء مجمعون على إلغاء الخصوصية عن كثير من الموارد الجزئية التي وردت فيها النصوص, لأن غالب النصوص وردت في موارد جزئية، فلو جمدنا عليهالانتهت الشريعة وما استطاعت مواكبة تطورات الحياة، والحقيقة أن بعض ما يسميه علماء الشيعة إلغاء الخصوصية يسميه علماء السنة قياساً. وعليه، فيكون التباين والإختلاف لفظياً، كما أن بعض ما يعده علماء السنة استحساناً أو سد ذرائع قد يدخل عند الشيعة في باب التزاحم (الإجتهاد والحياة: 23).
وعليه، فيكون التباين والاختلاف لفظياً، كما أن بعض ما يعده علماء السنة استحساناً أو سد ذرائع قد يدخل عند الشيعة في باب التزاحم.
وسائل اكتشاف الملاك:
المرتقى: إذاً.. ما هي القاعدة العلميّة (أو مجموعة الوسائل) التي يُمكن أن تضبط بدقة تحديد المقصد بشكل قطعي؛ىوبالتالي كيف يمكن للفقيه أن يميّز بدقة علميّة ما بين حكمة قد تمثل جزءاً من علة الحكم، والمقصد الذي يمثل الغاية الكلية له؛ وبالتالي الوصول إلى بناء حجيّة للمقصد في عملية الاستنباط؟
الشيخ الخشن: إن لمعرفة ملاكات الأحكام واكتشاف عللها، وسائل وطرق عديدة كثر الإستناد إليها في كلمات الفقهاء، ومنها ما هو قطعي ومنها ما ليس كذلك، وبعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه وفيما يلي نستعرض أهم هذه الوسائل مع بعض لاأمثلة التي تعبر عن ارتكازية المنحى المقاصدي عند الفقهاء:
1- منصوص العلة: ترد بعض الأحكام في النصوص معللة بشكل واضح وصريح وفي هذه الحالة يلتزم معظم الفقهاء بتعميم الحكم إلى كل الموارد التي تتوفر فيها العلة، وأمثلة ذلك كثيرة منها ما ورد عن الإمام الرضا (ع): ماء البئر واسع لا يفسده شيء... لأن له مادة، فإنه علل عدم انفعال ماء البئر بمجرد ملاقاة النجاسة بكونه ذا مادة، وانطلاقاً من ذلك أفتى الفقهاء بأن كل ماء له مادة كالنبع فهو معتصم ولا ينفعل بملاقاة النجاسة، ومن أمثلته أيضاً: ما ورد عن الإمام الكاظم (ع)في بيان علة تحريم الخمر قال (ع): "إن الله عز وجل لم يحرم الخم لا سمها ولكن حرمها لعاقبتها فما كان عاقبة الخمر فهو خمر" (وسائل الشيعة 25/342) حيث يمكن الاستناد إليه في تحريم كل المسكرات وما تكون عاقبته عاقة الخمر، ومن أمثلته أيضاً: ما ورد في حديث عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "لا بأس بالنظر إلى شعور نساء أهل تهامة والأعراب وأهل البوادي من أهل الذمة والعلوج لأنهن إذا نهين لا ينتهين" (من لا يحضره الفقيه 3/47) حيث استفيد منه تعميم الحكم بجواز النظر إلى كل اللائي لا ينتهين إذا نهين، وهذا النحو من التعليل يصطلح عليه بقياس منصوص العلة، والأكثر على جواز العمل به.
2- قياس الأولوية: "وهو ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم بالفرع أقوى وأوكد منه في الأصل، ومثال ما ورد في الكتاب من النهي عن التأفف من الوالدين {ولا تقل لهما أف} القاضي بتحريم ضربهما وتوجيه الإهانة إليهما" (الأصول العامة للفقه المقارن302).
ويمكن أن يعد من أمثلة ذلك: الحكم بأمومة صاحب الرحم للولد الذي نما في رحمها ولم يتكون من بويضتها قياساً على الأم الرضاعية، بدعوى أنه إذا حكمت الشريعة بترتيب آثار الأمومة على المرأة التي ترضع الولد خمسة عشر رضعة أو إذا اشتد عظمه ونبت لحمه من لبنها، فبطريق أولى لا بد أن تحكم بأمومة من نشأ الولد في رحمها.
والمشهور أيضاً على الأخذ بقياس الأولوية.
3- تنقيح المناط القطعي وإلغاء الخصوصية: ويراد بتنقيح المناط: "أن يضيف الشارع الحكم إلى سببه فيقترن به أوصاف لا مدخل لها في الاضافة، فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم ومثلوا له بقصة الأعرابي الذي قال للنبي(ص): "هلكت يا رسول الله، فقال له ما صنعت؟ قال: وقعت على أهلي في نهار رمضان، قال: أعتق رقبة"(صحيح مسلم كتاب الصيام الحديث: 1870) حيث استفادوا عدم الخصوصية في كونه أعرابياً فألحقو به جميع المكلفين، ولا في كون المرأة التي وقع عليها أهلاً له فألحقوا به الزنا، ولا خصوصية لخصوص شهر رمضان الذي وقع فيه على أهله فألحقوا به جميع أشهر الصيام" (الأصول العامة للفقه المقارن 301، الحدائق الناضرة: 1/56).
والتعريف المتقدم لتنقيح المناط يجعله مرادفاً لإلغاء الخصوصية التي كثر التمسك به في كلمات الفقهاء من قبيل إلغاء الشهيد الأول الخصوصية عن الصبي الذي ورد النص في العفو عن بوله في الصلاة بالنسبة للمرأة المربية التي لا تملك سوى ثوباً واحداً، (الذكرى" 1/139) وهكذا في غيره من الموارد (راجع الحج للسيد الكلبيكاني 2/60 وفقه الصادق 2/451 وغيرها.
في حين أننا نجد بعض الفقهاء كالسيد الخوئي (رحمه الله) يعترض كثيراً على الاستدلال بتنقيح المناط بأنه: "أشبه شيء بالقياس بل هو بعينه لعدم علمنا بمناطات الأحكام وملاكاتها" كما أورد ذلك في كتاب الطهارة من التقريرات، وكتاب الحج منها أيضاً) ولكنه في موارد أخرى استند إلى إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، فقدعلق على الحديث الوارد في شأن المستحاضة "أنها لا تدع الصلاة بحال" قائلاً: "إن هذا الحكم لا تختص به المستحاضة لعدم الفرق بينها وبين سائر المكلفين من هذه الجهة، فبعد إلغاء الخصوصية عن المورد يكون مفادها عاماً يشمل جميع المكلفين" (وهو في كتاب الصلاة من التقيريرات نفسها).
4- تخريج المناط: "وهو أنينص الشارع على حكم في محل دون أن يتعرض لمناط أصلاً كتحريمه للربا في البر فيعمم إلى كل مكيل من طريق استنباط علته بدعوى استفادة أن العلة في التحريم هو كونه قليلاً" (الأصول العامة للفقه المقارن ص301).
ولكن هناك اتجاهاً فقهياً برى أن هذا الكلام ليس صحيحاً على اطلاقه، وإنما يصح في حقل التعبديات أما في المعاملات فقد يمكن للفقيه الجزم بالملاك، من قبيل ما نراه عند العلامة الحلي في إلحاق كلب الزرع والماشية بكلب الصيد في جواز البيع مع أن النص وارد في الأخير، لكنه فهم أن المقتضي والملاك في جواز بيع كلب الصيد هو المنفعة المتوفرة فيه مع حاجة الناس للمعاوضة عليه ةهذا اللاك موجود في الكلاب الأخرى بل ربما يكون الانتفاع بغيره أكثر منه والحاجة إلبه أشد (راجع مختلف الشيعة 5/12 ودراسات في المكاسب المحرمة للمنتظري 1/537).
5- الذوق الفقهي: إن إحاطة الفقيه بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة وتوفره على رؤية كاملة عن واقع الشريعة وكامل فرعها ودوزها في الحياة كل ذلك يساهم في تكوين ما يسمى بالذوق الفقهي الذي يمكن اعتمادع في محاولة اكتشاف الملاك وتقييد بعض النصوص أو تعميمها على ضوئه وبملاجظة مناسبات الحكم والموضوع.
وعلى سبيل المثال: إن ما دل على لزوم إرجاع العين المغصوبة إلى صاحبها لم يقبل بعض الفقهاء باطلاقه لما إذا صارت العين جزء من دار الغاصب أو سفينته مثلاً، بحيث يكون بإرجاعها مؤدياً إلى خراب ملكه، مستنداً في ذلك إلى أنه إلزامه بالإرجاع والحال هذه مما يأباه الذوق الفقهي (القواعد الفقهية للبجنوردي 4/95)، وهكذا رقض أيضاً احتمال إبقاء العين الموقوفة على حالها بدون بيع حتى تتلف على اعتبار أن ذلك مما يأباه الذوق الفقهي والفهم السليم أيضاً. (م.ن 4/298 وليراجع أجود التقريرات 2/212 ومنتقى الأصول 5/406).
في الختام لا يسعنا إلاّ أن نحث أخواننا المتخصصين في هذا الخط المعرفي إلى زيادة في التعمقى والبحث والتحقيق؛ آملين أن تتوفر في الأفق المنظور مقومات إعمال الآلية المقاصدية في صناعة الفقه، وفق منهج منضبط ورؤية متكاملة؛ لما لذاك من دور هام في إثراء صناعة الفقه ورفدها بعوامل التجدد والمواكبة والشمول لأيّ من المتغيرات.