الحسين أمن وأمان
الشيخ حسين الخشن
لماذا عاشوراء؟ ولِمَ هذا الإصرار على استعادة ذكرى كربلاء؟ أليس في عاشوراء الحاضر ما يغني عن الرجوع إلى عاشوراء التاريخ؟ أليس في مآسي الحاضر أكثر من كربلاء فلِمَ نضيف كربلاءً إلى كربلائنا؟! ثم أليست عاشوراء بطريقة استعادتها مصدر توتر وعامل تفرقة بدت أن تكون مصدر إلهام وعنصر اطمئنان وفرصة للتوحد في مواجهة الطواغيت والظالمين؟
والإجابة على هذه الأسئلة تحتم علينا العودة إلى عاشوراء القضية والأهداف، ولدى دراسة هذه الأهداف بدقة وعناية سنكتشف أنّ ثمة هدفاً حسينياً عاشورائياً قد أضعناه في صخب المأساة وضوضائها، حيث طغت المأساة في عاشوراء على ما عداها من قيم الثورة وأهدافها، وتلك مأساة هذه الذكرى المبدعة والخلاقة، وهذا الهدف الضائع هو هدف الأمن والأمان الذي أرادت هذه الثورة إعادته إلى الأمة، فالحسين (ع) لم يكن داعية شقاق وحرب، ولم يكن ثائراً لمجرد الثورة، بل داعية سلام وتوحيد، أراد توحيد الأمة على الرسالة والحق، إنّ كل ما استهدفته النهضة الحسينية هو أن تستعيد الأمة أمنها السليب وسلامها المفقود.
وربما يتساءل البعض معترضاً: أي أمنٍ أو سلام هذا الذي تتحدثون عنه والحال أنّ النهضة الحسينية بكل أحداثها هي مسيرة يلفها القلق ويكللها الخوف وتتحرك في طريق القتل وسفك الدماء؟!
ولكننا في الإجابة على ذلك نقول: لا تعجب مما ذكرناه , فإنّ رسالة الحسين (ع) هي رسالة الإسلام و رسالة الإسلام ما هي إلاّ رسالة أمنٍ وسلام، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم…}، فالإسلام رسالة حياة، ولا حياة بدون أمن واستقرار.
الجاهلية والأمن السليب
ولتتضح علاقة الإسلام بالأمن والاطمئنان تعالوا معي في إطلالةٍ سريعة على المشهد العام ما قبل بعثة النبي(ص)، فكيف كانت الصورة أنذاك؟
إنّ الصورة العامة لما عليه الجاهلية وحياة الإنسان أنذاك هي عبارة عن صورة قبائل متناحرة متقاتلة، يغير بعضها على بعض، وصورة إنسان مهدور الكرامة، يُسلب ويقتل ويُسبى فلا يعرف الأمن على المستوى الحياتي، وكذلك على المستوى الأخلاقي، إذ يكفيك أن تعرف أنّ الإنسان الجاهلي وصل به الانحطاط الخلقي إلى درجة إكراه فتياته على البغاء حتى لو أردن تحصناً كما نصّ على ذلك الذكر الحكيم، ولا أمن على المستوى الإجتماعي إذ الطبقية والعبودية وقطع الأرحام ووأد البنات هي سيدة الموقف، ولا أمن على المستوى الإقتصادي، فالربا والقمار وأكل المال بالباطل وتجارة الرقيق هي من أشهر تجارات العربي أنذاك، وفوق ذلك كله فلا أمن على المستوى الروحي، لأن عبودية الأصنام لا تمنح الإنسان أمناً روحياً ولا سلاماً داخلياً، أيُّ أمن روحي استمده العربي من الآلهة وهو الذي حولها ألى وسيلة للتجارة؟
في هذا الجو المكفهر والملبد كانت بعثة رسول الله(ص)، ولم يمضِ ربع قرن من الزمن على بعثته(ص) حتى اجترح المعجزة الكبرى عندما حوّل تلك الجماعات المتقاتلة إلى أمة واحدة لها كيانها وهويتها، أمة مترابطة متكافلة، أعاد للإنسان ثقته بنفسه، وأرسى في ذلك المجتمع منظومةً أخلاقيةً وقيماً سامية فكان الإسلامُ دين الأمن والسلام والرحمة، لأن مشكلة الإنسان " مطلق الإنسان " وليس الإنسان العربي والجاهلي فقط هي مشكلة الأمن بكل أبعاده ، والأمن هو حاجة فطرية للإنسان ، لذا ترى أن لديه تطلعاً فطرياً نحو الأمن، فهو يطمح أن يعيش بأمن وسلام واطمئنان، وقد لا يدرك الإنسان قيمة هذه النعمة -نعمة الأمن- إلا بعد افتقادها ، وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) "نعمتان مجهولتان: الأمن والعافية".
الإسلام والأمن
ولكن كيف حقق النبي(ص) هذه المعجزة؟
والجواب: إنّه واستجابة لهذه الحاجة الفطرية عن الإنسان عنيت بذلك حاجته إلى الأمن على جميع الأصعدة , فإنّ الإسلام في كل تشريعاته وعقائده ومفاهيمه هدف إلى توفير هذه الحاجة للناس جميعاً.
فعلى مستوى الأمن الشخصي ، فإنّ الإسلام حرّم كل ما يمس بالنظام العام، فحرّم السرقة والتعدي والقتل وكل ما يؤدي إلى إقلاق راحة الناس حتى لو كان ذلك من خلال صوت القرآن أومجلس العزاء، وإنّ أقسى عقوبة أقرّها التشريع الإسلامي هي عقوبة من يخل بالنظام العام ويفسد في الأرض، قال تعالى: {أنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. (المائدة؛33).
وعلى المستوى الإجتماعي، دعى الإسلام إلى كل ما من شأنه تمتين أواصر المجتمع، (صلة الأرحام، زيارة الإخوان، حقوق الجار، عيادة المرضى، تشييع المؤمن...) ونبذ كل ما يؤدي إلى التنابذ والتناحر وتعميق الفوارق وقطع الجسور مع الآخر، ( تحريم الغيبة والنميمة والفتنة، والتكبر والتعدي على الناس وازعاجهم...).
وعلى مستوى الأمن الأخلاقي ، فإنّ الإسلام دعى إلى تحصين المجتمع، معتبراً أنّ الصدق والأمانة هما عنوان الإيمان وفي ضوئها يختبر تدين الإنسان ، وحرّم كل ما من شأنه أن يمس بالأخلاق العامة فحرّم العلاقات غير الشرعية والشذوذ والكذب والغدر، ولم يكن عبثاّ أن يُلخِّص رسول الله(ص) رسالته بكلمة مختصرة وهي قوله ، {إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}.
وعلى المستوى الإقتصادي ، نجد الأمر عينه حيث هدف الإسلام إلى تحقيق الإستقرار و ردم كل الفجوات الإجتماعية الإقتصادية ، فأمر بالزكاة والخمس وندب إلى الإحسان والصدقة، وحرّم الربا والاحتكار وأكل المال بالباطل ليحقق بذلك استقراراً اقتصادياً في المجتمعات.
والأمر عينه نجده على المستوى الصحي والغذائي والبيئي، قال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.
ولكن كل ذلك ما كان ليكفي بإشباع حاجة الإنسان إلى الأمن، إن لم يترافق من توفير الأمن الروحي للإنسان ، إذ لو أنّ الإنسان عاش في مجتمع آمن حياتياً ومتواصل اجتماعياً وعاش برفاهية اقتصادية ومناعة أخلاقية فإنّ ذلك على أهميته لا يعطيه سلاماً روحياً داخلياً ، ألا ترون أن بعض الذين ينتحرون كانوا يعيشون رغد الحياة ومع ذلك أقدموا إلى وضع حد لحياتهم ، لماذا يا ترى !؟ , لأنّ هذه الرفاهية لم تعطهم سلاماً واطمأناناً داخلياً . إنّ الأمن الروحي لا يتحقق إلا بالعودة إلى الله، وإلاّ بذكر الله، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، ومن هنا فإنّ المنظومة العبادية في الإسلام من صلاة وصوم ودعاء وغيرها ما هي إلاّ وسائل ترمي إلى إيصال الإنسان إلى السمو الروحي، والحقيقة أنّ كل أشكال الأمن الأخرى لا يمكن أن تتحقق بصورتها المثلى إن لم يحصنها الأمن الروحي.
معادلة الإيمان والأمان
وهذا يجعلنا أمام معادلة هامة، وهي أنّ الأمن على جميع مستوياته إنّما ينبعث من الإيمان وذكر الله، قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} , وفي حديث عن الإمام الصادق (ع) : " لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة " ولهذا فكلما وجدتَ أنّ المجتمع مستقرٌ من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والروحية فاعلم أنه مجتمع مؤمن وسائر على خط الحسين (ع) ، وكلما كان مجتمعاً مهتزاً إجتماعياً ويعيش انسانه القلق الروحي والتفلت الأخلاقي وتتفشى فيه الجريمة والانحلال، فهذا مؤشر على أنّ الإيمان قد غادر هذا المجتمع حتى لو كان أفراده يصلون ويصومون ويبكون على الحسين(ع) ويقيمون المجالس في بيوتهم، إنّ مجتمعاً يسوده القلق والخوف والجريمة وتنتشر فيه المخدرات كيف يكون مجتمعاً مؤمناً؟!
وبهذا يتبين أنّ العقيدة الإسلامية ليست عقيدة تجريدية ذهنية، بل هي عقيدة حركية تملأ القلب والوجدان، كما ترضي العقل والفكر، وتساهم في صنع الأمن في حياة الإنسان، فالإيمان بالله يمنح الإنسان السلام والاستقرار، وكذا الإيمان بالمعاد.
إنّ العقيدة الصحيحة لابد أن تقدم إجابات مقنعة ومورثة لليقين حول أسئلة المصير التي تُقلق الإنسان وتقتحم عليه فكره.
وهكذا الحال في العبادات، فصلاتك إن لم تمنحك سلاماً روحياً واستقراراً عائلياً فهي مسمى صلاة وليست جوهر الصلاة، فإن الصلاة هي صلاة القلب التي تتناغم مع حركات الجسد، قال تعالى: {ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} إنّ علينا أن نعيش في أمان مع الله قبل كل شيء لنعيش في أمان مع أنفسنا ومع الناس من حولنا، فالله هو الذي يعطينا الأمن لأنفسنا ولمجتمعنا، وإذا عشت الأمن مع الله فحسبك ذلك، وكما قال الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
ويقول سيدنا أبو عبدالله الحسين (ع) في جوابه لعمرو بن سعيد على كتاب الأمان الذي قدّمه له : " فخير الأمان أمان الله , ولن يُؤْمِنَ اللُه يومَ القيامة من لم يخفْ في الدنيا، ونسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة".
صمامات الأمان في الأمة
وتأكيداً على حاجة الإنسان إلى الأمن بكل أبعاده، فإنّ الإسلام وبالإضافةإلى ما تقدم قد جعل في حياة الإنسان صمامات أمان وهي:
1-المكان الآمن، ويطالعنا على هذا الصعيد مكة المكرمة، فهي واحة أمن وسلام يأمن فيها الإنسان والحيوان والطير، {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات..}، وكم كان الإمام الحسين (ع) يقدر حرمة هذا البلد الآمن عندما خرج منه مخافة أن تنتهك حرمته ويقتل هناك.
2-الزمان الآمن، فهناك الإشهر الحرم التي يحرم فيها القتال , ليستريح المقاتلون وتأمن الناس، وهناك شهر رمضان الذي يفترض أن يساهم في تحقيق الأمن الروحي والاقتصادي والاجتماعي للإنسان، ومن أعظم ليالي هذا الشهر المبارك ليلة القدر التي هي كما وصفها الله تعالى : {سلام هي حتى مطلع الفجر}.
3-الإنسان الذي يمثل الأمن والأمان، وفي الطليعة يأتي المعصوم(ع)، والحقيقة أنّ هذا هو سر حاجتنا إلى الرسل والأئمة(ع)، فالنبي وكذا الإمام ليس سلطاناً، وإنّما هو من خلال رسالته ومهمته الملجأ الذي يأمن من لجأ إليه، فهو الملجأ والحصن والكهف، في حديث ابن عياش قال: قال رسول الله (ص): "النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس"، (المستدرك للحاكم ج3 ص129) .
وعنه (ص): "النجوم أمان لأهل السماء فإن طمست النجوم أتى السماء ما يوعدون، وأنا أمان لأصحابي فإذا قبضت أتى أصحابي ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمتي ما يوعدون"، (م.ن. ج3 ص457).
وعن سيدتنا الزهراء (ع) في خطبتها الشهيرة: "جعل الله الإيمان تطهيراً من الشرك... وإمامتنا أماناً من الفرقة"، وعن أمير المؤمنين(ع): "كان في الأرض أمانان من عذاب الله، أما أحدهما فقد رُفع وهو رسول الله(ص) فدونكم الآخر فتمسكوا به وهو الاستغفار"، ثم تلا قوله تعالى: {وما كان ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبّهم وهم يستغفرون} وهذ هو الدور الأساسي للأئمة من أهل البيت(ع) فدورهم الأساس ليس تولي السلطة الزمنية وإن كانت حقاً لهم، بل إنّ دورهم الأساس هو في مرجعيتهم الروحية والعلمية.
وما يؤسف له أننا نركز على المرجعية الزمنية لأهل البيت(ع) أكثر مما نركز على إمامتهم الروحية والمعرفية، ولذلك نخوض في هذا الجدل الكبير حول اثبات أحقيتهم بالخلافة بعد الرسول(ص) , ويا حبذا لو أننا نبذل بعض هذا الجهد في تأكيد المرجعية العلمية والروحية، صحيح أن السلطة الزمنية حق لهم ولكنهم أرادوها ليحققوا من خلالها الأمن للأمة، ويفشوا العدل في الناس، يقول أمير المؤمنين(ع) "اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلمون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك" , فقد كان علي (ع) صمام أمن وأمان للناس وهذا هو دور كل الأئمة من أهل البيت (ع) ، والإمام الحسين(ع) هو أحد هؤلاء الأئمة الذين جسدوا هذا المعنى فكان صمام أمن وأمان للناس حتى في ثورته وحركته" , وهو أشار إليه قول النبي(ص): "الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة" ، فإنّ المصباح هو الذي يمنح الإنسان النور ليأمن في الطريق، والسفينة هي التي تمنحه الاستقرار والأمن من مخاطر الأمواج وتلاطمها.
ولهذا فإن حركة الامام الحسين(ع) لم تكن حركة فتنة ولا شقاق، يقول (ع): "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي .." , و في رسالته (ع) لعمرو بن سعيد : "أما بعد فإنّه لم يشاقق الله من دعا إلى الله وعمل صالحاً", وقال: "إنني من المسلمين.."، ولو أننا نظرنا إلى كل شعارات الثورة الحسينية لوجدناها شعارات إسلامية ترمي إلى تحقيق الخيرللناس .
لقد استطاعت السلطة الأموية أن تسلب الناس أمنهم واستقرارهم وتماسكهم وأخلاقهم وروحانيتهم ، وتعيد الأمة إلى ما يشبه عصر الجاهلية، وأراد الحسين بثورته أن يعيد للناس شيئاً من هذا الأمن المفقود، يقول(ع) في رسالته إلى أهل البصرة: "فإنّ السنة قد أميتت والبدعة قد أحييت فإن تسمعوا قولي أهدكم سبيل الرشاد". إنّ نداء الحسين(ع) على رمضاء كربلاء وفي كل تلك الرحلة الجهادية ونداؤه لكل الأجيال تعالوا إلى فعندي كل الخير والأمن لكم، تعالوا إليّ فقلبي يسعكم جميعاً، لكن أولئك القوم الذين قد ختم الله على قلبهم، طعنوا ذلك القلب الكبير برماحهم وسهامهم وانتهكوا حرمة الله والرسول فيه وسال الدم الطاهر ليتحول دمه بعد ذلك إلى نهج يقتدي به الأحرار الذين يريدون الوصول إلى شاطئ الأمان.
الجناية على الحسين (ع)
هذه هي حقيقة الحسين(ع) وحقيقة الدين الذي استشهد من أجله الحسين، لكن ماذا فعلنا نحن بني الإنسان! لقد جنينا على الدين كما جنينا على الحسين(ع)؛ جنينا على الدين عندما حولناه إلى عامل توتر وقلق وخوف، وكم من دماء سفكت باسم الدين! وكم من أعراض انتهكت باسم الدين! إن الخطاب الديني برع في أن يقدم الله وهو الرحمة المطلقة والحب المطلق وهو السلام الشامل إلى كائن مخيف جلاد يتلذذ بتعذيب عباده وخلقه بالنار، فنقدم صور العذاب والنقمة على صور المحبة والرحمة وكأنه يقال خلقهم للنار والشقاء، أين "يا من سبقت رحمته غضبه"؟ أين "كتب على نفسه الرحمة"؟ أين صورة "وإذا سألك عبادي فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون".
وهكذا فإن خطابنا الديني صوّر النبي (ص) باعتباره جلاداً ، وشعاره "لقد جئتكم بالذبح"! , مع أنه الرحمة المهداة للعالمين ، {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} [الانبياء:107] .
وهكذا جنينا في بعض خطاباتنا وأساليبنا على الحسين(ع) وبدل أن نقدمه باعتباره سفينة للنجاة قدمناه وحاصرناه باعتباره رمزاً للمأساة، وبدل أن نحول ذكراه إلى "مصباح للهدى" وموئل للأنام فإذا بنا نحولها إلى عنصر توتر، عنصر توتر على المستوى الإسلامي عندما أردناها ذكرى في وجه الآخرين، وإلاّ فما معنى أن يقف عالم من إخواننا أهل السنة على هذا المنبر أو غيره ليقدم شهادة على حب الحسين وأهل بيته (ع)؟! إنّ معنى ذلك إن خطابنا لا يزال يشعر الآخرين بالإدانة ويحملهم المسؤولية. وعنصر توتر على المستوى الإنساني العام من خلال صورة الدم التي نظهر بها للناس من خلال ما يسمى التطبير حتى أطلق بعضهم على يوم عاشوراء يوم الدم، لأنّ البعض حوله إلى ما يشبه حمام الدم، والحسين(ع) لم يرد لنا أن نسفك دمنا في الساحات، بل أراد لهذا الدم أن يجري في عروقنا لنصنع الحياة العزيزة، وإذا فرضت علينا الحرب من أعداء الأمة فلنسفك دمائنا في الجبهات.
هذا هو الحسين(ع) فلا تحبسوه في الكهوف المظلمة، أبقوه في الهواء الطلق ليتنفس كل الناس من خلاله نسيم الحرية وعبق النبوة، لا تجعلوه في الظلمة والعتمة أبقوه في النور ساطعاً كالشمس ترسل ضياءها إلى البر والفاجر، لا تنزلوا بالحسين إلى مستواكم، بل اصعدوا إلى مستواه حيث القمة الشامخة والنفس المطمئنة، حيث الفرح الروحي الذي يجعل طعم الموت حلواً ما دام في سبيل الله، حيث الفناء بالله، ما أعظم هذا الاطمئنان الذي انطوى عليه قلب الحسين(ع)! وما أرسخ هذا الإيمان الذي جعله فرحاً مستبشراً وهو يقدم القرابين تلو القرابين من أبنائه وأصحابه وهو يترنم قائلاً: "إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ مني حتى ترضى".
إننا إذ نرفع صوتنا إزاء هذه السلبيات فلا نريد أن نغفل إيجابيات الخطاب الحسيني الكثيرة لا نريد جلد ذاتنا بطريقة معنوية وفكرية كما يجلد البعض نفسه بطريقة حسيّة، وإنّما نريد تنزيه الذكرى من كل ما يشوه صورتها، ونريد الاصلاح على هدي الحسين(ع)، "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمتي جدي…" وعلى هدي الأنبياء من قبله، "إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب".
هذه المحاضرة ألقاها سماحة الشيخ حسين الخشن في ليالي عاشوراء في مسجد الإمامين الحسنين.