حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
 
  محاضرات >> دينية
إسلامية الثورة الحسينية
الشيخ حسين الخشن



 

إنّ من نافل القول: إنّ ثورة الإمام الحسين(ع) في أبعادها المختلفة ودلالاتها المتنوعة هي ثورة إسلامية بامتياز، فهي منسجمة تمام الإنسجام مع مبادىء الشرعيّة الإسلامية ، بل هي مصدر الشرعية وبها تقاس الشرعية، إلا أننا في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأمة نشعر أنّ إسلامية هذه الثورة تغيب في خطاب بعض الناس، ولا نجدها حاضرة عند آخرين، الأمر الذي يحتم علينا - بحكم انتمائنا إلى الحسين(ع) روحاً وفكراً وعاطفة- أن نستحضر هذه الإسلامية ونبيّن عمقها وامتدادتها وتجلياتها.

وإسلامية الثورة - أية ثورة- لا تتمثل بمجرد انتماء أصحابها رسمياً إلى الإسلام،  ولا بادعاءات فارغة، أو شعارات رنانة، بل إنّ إسلامية الثورة تتمثل في: 

 

1) إسلاميّة القيادة.

2) إسلاميّة القضية والشعار والهدف. 

3) إسلامية الممارسة الثورية.

 

 والمتأمل في ثورة الإمام الحسين(ع) سيكتشف أنّ هذه العناصر الثلاثة متوفرة بشكل لا لبس فيه، وفيما يلي نوضح ذلك:

 

إسلامية القيادة 

 أمّا العنصر الأول وهو إسلامية الرمز والقائد، فغير خفي أننا أمام  قائد إسلامي غير عادي، فهو أحد أبناء  البيت الإسلامي الأول، وهو البيت الذي قام الإسلام على أكتافه، فالحسين(ع) تربية رسول الله(ص) وإعداده، درج في بيته، وتربى في حجره، وقد ألقمه (ص) الإيمان مع الحليب، كما إنّه ابن أول الناس إسلاماً وأشدهم عزيمة وشكيمة، عنيت به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وهوأيضا ابن سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة، فاطمة الزهراء(ع)، وهذه التربيّة والإعداد النبوي لشخصية الإمام الحسين(ع) جعلته يعيش منذ طفولته هموم الدعوة الإسلامية ويواكب انتصاراتها وأفراحها وأتراحها وكل حركيتها.. 

وفوق ذلك كله، فإنّ رسول الله قد منحه بجدارة العديد من الأوسمة التي لم يمنحها لغيره من صحابته، فهو سيد شباب أهل الجنة، "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وهو مع أخيه الحسن(ع) إمام قام أو قعد، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا" 

 . وأخال أن رسول الله(ص) وهو يطلق هذه الكلمة أو تلك وهو الذي لا يطلق الكلام جزافاً { إن هو إلا وحي يوحى } كان يستشرف المستقبل الآتي لينبّه الأمة في قادم الأيام وعند اشتباك الأمور وتشابه المواقف واحتدام الفتن أنّ عليها التمسك بالحسين(ع) فهذا ما تعنيه كلمة النبي(ص) أن الحسين(ع) إمام على كل حال، أو أنّه سيد شباب أهل الجنة، فهو المرجع الذي لا يبدّ للأمة أن تعود إليه وتتمسك بعراه، وبذلك تعتصم الأمة من الضلال والانحراف، لأن سيد شباب أهل الجنة لا يمكن أن يقودهم إلى ردى أو يوقعهم في الضلال، وإلاّ فكيف يكون سيد شباب أهل الجنة؟!

 وهذا المعنى يدل عليه بوضوح قول رسول الله(ص) الآخر فيما يروى عنه: "الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة" ، فأن يكون الحسين سفينة النجاة معناه أن الركوب في هذه السفينة فيه منجاة الأمة من هلاك الآخرة والعصمة من فتن الدنيا، وهذا المعنى هو ما يدل عليه أيضا حديث الثقلين بوضوح: "إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

 

 إسلامية القضية والشعارات والأهداف

 

 ولو جئنا إلى العنصر الثاني وهو إسلامية الثورة من جهة القضية والأهداف والطروحات، فإننا نرى أنّ الشعارات التي رفعتها الثورة الحسينية ليست شعارات مذهبية ولا عشائرية، بل شعارات قرآنية إسلامية  بكل ما تعنيه كلمة الإسلامية من معنى، ونرى أيضاً أنّ المبادىء والقيم والتطلعات التي استهدفتها ليست مبادىء مادية أو تطلعات سلطوية، بل هي مبادىء إنسانية، وإليك بعض الأمثلة على سمو المعنى وأخلاقية الهدف الذي طرحته الثورة وتطلعت إليه:

 

 1) عنوان الإصلاح: في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية يقول أبو عبد الله الحسين(ع): ".. وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي" ، فالإصلاح هو مهمة الأنبياء وطموح المرسلين، كما حدثنا الله تعالى عن أنبيائه: {ما أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.

 ولنا أن نتساءل: ما الذي استهدفت هذه الثورة إصلاحه؟ 

هذا سؤال هام ويحتاج إلى إجابة بمستواه من الأهمية، ولكني أعتقد أنها هدفت إلى إصلاح الكثير من الانحراف على مستويات عديدة، على المستوى الفكري والسلوكي والإجتماعي والسياسي..، وعلى كافة الأصعدة، على صعيد الأمة و الفرد.. أراد الحسين(ع) إصلاح النفوس .. وإصلاح تزوير النصوص.

 

2) مواجهة الظالمين والمستكبرين: ومن أهم أهداف الثورة الحسينية وعناوينها: عنوان مواجهة الظلم والظالمين، وهذا العنوان حاضر في الشعارات التي رفعتها هذه الثورة، وهذا ما أكدّ عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}.

 

 3) تغيير الواقع المنحرف: جاء في تاريخ الطبري: "أنّ الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنّ رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله(ص) يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألاّ وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غيّر". 

وهنا نتذكر كلام والده أمير المؤمنين(ع): "اللهم إنك تعلم أنّه لم يكن الذي الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلمون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك".  إنّ قضية التغيير (تغيير الواقع الفاسد) هي هدف قرآني إسلامي إنساني.

 

 4) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والآلية التي تستخدم لتطبيق العناوين المتقدمة هي آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول أبو عبد الله الحسين(ع) في تتمة كلامه الآنف حول الإصلاح: ".. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي(ص) وأبي علي بن أبي طالب(ع)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين"، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وهو الطريقة العملية التي يتجسد من خلالها الإصلاح- هو الآخر عنوان قرآني بامتياز، {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيز حكيم}، وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..}، وقال تعالى في آية أخرى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. 

 

وتجسيداً لمبدأ رفض المنكر فقد أعلن الحسين(ع) رفضه بيعة يزيد، لأنها مثال واضح وجلي للمنكر: "أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله".

ولا يخفى التداخل الكبير الحاصل بين العناوين المتقدمة، وهو تداخل لا يعنينا حالياً بيان حدوده، لأننا حالياً بصدد بيان إسلامية العناوين والشعارات، بصرف النظر عن  تحليل أبعادها وحدودها.

 

 5) كرامة الإنسان وعزته: وهذا العنوان هو من أهم العناوين الإنسانية التي رفعتها ثورة الحسين(ع)، يقول أبو عبد الله الحسين(ع): "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حميّة ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام". إنّ شعار "هيهات منا الذلة"، هو أيضاً شعار قرآني، يقول الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، وقد فوّض الإسلام إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، وإنّ كل من يعمل على إذلال الإنسان وإهانته فهو مدان في مدرسة الحسين(ع) ولو كان يلطم على الحسين(ع)ويبكيه.   

 

 معوقات أمام إمتدادات الثورة إسلامياً وإنسانياً  

            

أمام هذه العناوين القرآنية والمنطلقات الإسلامية والإنسانية لنهضة الحسين(ع) لا بدّ لنا أن نستغرب محاولات تفريعها من مضمونها أو مسخ معانيها أوتشويه صورتها وسجنها في إطار ضيق، وهذا ما قد يفعله بعض الناس جهلاً، وربما يفعله آخرون حقداً، إنّ ما نستنجه مما تقدم:

 

إنّ الحسين(ع) هو إمام المسلمين ومقتدى الأحرار وليس ملكاً لطائفة معينة، أو جماعة بعينها، وعليه، فلا يجوز احتكار الحسين(ع)، أو الإستئثار بثورته، وإنّ أكبر تشويه لثورته هو محاولة مذهبتها، أو وضعها في إطار غيبي لا يفهمه أحد، أو تقديم الإمام(ع) باعتباره صاحب مشروع انتحاري، أو ما إلى ذلك من تحليلات تحرف الثورة عن مسارها، ومن أسوأ هذه التحليلات ما يقوله البعض من أنّ مزاج الحسين(ع) كان حاداً وثوريا، بخلاف أخيه الحسن(ع) فإنه كان هادئاً وديعاً، ولذلك هادن الحسن(ع) وقاتل الحسين(ع)، فهذا يعبر عن جهل كبير، لأن الحسين(ع) في قضايا الأمة لم يكن لينطلق من منطلقات شخصية ولا من اعتبارات مزاجية انفعالية،  وهكذا كان الحسن(ع) أيضاً، وعندما  قرر الحسن(ع) أن يهادن أو قل أن يختار الصلح بشروط معينة، فلأنّ المصلحة الإسلامية كانت تقتضي إختيار هذا الموقف، ولو كان الحسين(ع) أنذاك في موقع القيادة لفعل ما فعله الحسن(ع)، بل إنّ الحسين(ع) وافق أخاه الحسن على صلحه وأمضى شروط أخيه ورفض أن يثور حتى توفي معاوية، لأنه رأى كما رأى الحسن من قبل أن لا مصلحة في الحراك والثورة في زمن معاوية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الحسن(ع) كان هو الآخر ثائراً ومقاوماً وقد حمل السلاح في أول الأمر إلى أن رأى أنّ الظروف لا تساعده على الاستمرار بالثورة فصالح. فالحسن والحسين(ع)- إذن - لم يختلفا، فهما معاً قد صالحا عندما رأيا أنّ الصلح خير، وهما معاً قد جاهدا وحملا السلاح عندما اقتضى الأمر حمله.

 

 ومن هنا فإنً نرى أن التحليل الخاطئ لمنطلقات الثورة وأهدافها هو من جملة المعوقات أمام امتدادها إلى آفاق جديدة، كما أن الخطاب المذهبي في إحيائها واستحضارها هو الآخر من جملة المعوقات وأخطرها.

 

إسلامية الممارسة الثورية:

 

والعنصر الثالث الذي تتجلى إسلامية الثورة فيه هو - كما ذكرنا في مستهل الحديث- إسلامية الممارسة الثورية، لأن الإسلامية لا تحققها الشعارات ولا المبادىْ المجردة، بل لا بد من التجسيد العملي لهذه المبادىء، وهنا مقياس الإسلامية الحقة، وهنا تختبر مصداقية الشعارات، وهنا يعرف الثائر الصادق من الكاذب، وهنا سقطت وتسقط الكثير من الحركات التي تزعم الإسلامية، حيث يتحول أتباعها إلى لصوص وقطاع طرق وسفاكي دماء، إنّ أخلاقية الثائر هي البرهان العملي على صدق إسلاميته ونبل قضيته، وهنا نجد النبل في ثورة الحسين(ع) ونرى الأخلاقية بأعلى مستوياتها، فهو الذي يخرج من مكة المكرمة محوّلاً حجته إلى عمرة مفردة، لأنه لا يريد انتهاك حرمة البيت العتيق، وهو الذي لا يمنعه حصار القوم له وغدرهم به أن يدعو لهم بالهداية، وأن ينصحهم ويشفق عليهم ويحذرهم من عاقبة قتله وسفك دمه، وهو الذي لا تسجل كتب التاريخ عليه زلة في قول أو فعل، أو تصرفاً عدوانياً في كل مسيرته وإلى حين استشهاده، وهو الذي يأمر فتيانه عندما يصل إليهم الحر بن يزيد الرياحي مع ألف فارس في حر الظهيرة قائلاً: "اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً"، بينما نجد في المعسكر المقابل - الذي يزعم أصحابها الإسلامية- الوحشية بأبشع صورها، والخسة بأجلى مظاهرها، والعدوانية بأقسى تعبيراتها، وما قتل الأطفال، والتنكيل بالأجساد، والتعرض بالأذى للنساء، ومنع الماء عن غير المقاتلين رغم العطش الشديد إلا بعض النماذج الصارخة على تلك الوحشية والممارسة اللأخلاقية التي لا تزال تشكل لعنة على أصحابها إلى يومنا هذا، يذكر المؤرخون أن عبيد الله بن زياد يرسل إلى الحر الرياحي رسالة يقول له فيها: "أما بعد فجفجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء"!

 

كيف نترجم إسلامية الثورة؟

 

   إنّ تأكيدنا على إسلامية الثورة الحسينية وقرآنية شعارتها وإنسانية أهدافها يعني:

 

أولاً: ضرورة إخراجها من الدائرة المذهبية ومن دائرة التحليلات الخاطئة التي تحبسها في نطاق ضيق أو تدخلها في إطار من الغيبية.

ثانياً: اتخاذها نموذجاً يحتذى، ومثالاً أعلى يستلهم ويقتدى، ومدرسة تتربى عليها الأجيال، وهذا ما يدفعنا إلى دعوة كل المسلمين والأحرار في العالم إلى الإفادة من معين هذه الثورة، لأن الحسين(ع) ملك الجميع، ومن يبتعد عن الحسين(ع) فهو الخاسر لأنّه يحرم نفسه من  النور الضياء، ومن استلهام دروس العزة والكرامة والإباء.

وثالثاً: ضرورة أن  نترجم إسلامية الثورة وقرآنية شعاراتها وإنسانية طروحاتها في أساليب استحضار الثورة، ووسائل إحيائها، لتكون أساليب الإحياء إسلامية وإنسانية، وليست أساليب ملتبسة أو متخلفة أو مبعث اشمئزاز ونفور. 

 
1-  مناقب آل أبي طالب ج3 ص163.
2-  مناقب آل أبي طالب ج1 ص267.
3-  مسند أحمد ج3 ص14، 26.
4-  كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي (ت:134هـ) ج5 ص21.
5-  تاريخ الطبري ج4 ص302.
6-  نهج البلاغة ج2 ص13.
7- اللهوف على قتلى الطفوف ص17.
8-  تاريخ الطبري ج4 ص302 والارشاد للمفيد ج2 ص78.
9-  تاريخ الطبري ج4 ص308، والارشاد للمفيد ج2 ص83. 
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon