حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> خطب جمعة
خطبة الجمعة 10/02/2012
الشيخ حسين الخشن



 

في وصفه لرسول الله(ص)، يقول تلميذه الأول والأوفى وأقرب الناس إليه هدياً ومنطقاً أمير المؤمنين(ع): "طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي وآذان صم وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة".
 
هكذا كان رسول الله(ص) طبيباً لا كالأطباء فهو طبيب مرضى العقول والأرواح لا مرضى الأجساد ، كان هدفه أنسنة الإنسان، وكان طبيباً لا ينتظر مرضاه ليأتوا إليه بل يفتش عنهم ويذهب إليهم ،وقد وقف نفسه لهدايتهم وخدمتهم، فمنذ الخطاب الإلهي الأول "إقرأ"والذي مثل دعوة للقراءة ، {إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان منعلق إقرأ وربك الأكرم..} عكف(ص) على القراءة، قراءة كتاب الحياة ليعطيها إشراقاً ونوراً، وقراءة كتاب الكون ليتعرف على الله أكثر فأكثر في مواضع عظمته ،وقراءة كتاب الإنسان - لإن كل إنسان هو كتاب- ليفك عقده ويستكتشف مواهبه ويستخرج طاقاته.

 

 ثم جاء النداء الالهي الثاني "قم" والذي مثل دعوة للنفير العام:{يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر} ومنذ ذلك الوقت وقف(ص) ونهض ولم يعرف الراحة والاسترخاء طرفة عين حتى عمّ نور الإسلام أرجاء الجزيرة ،وقف في وجه صُناع الموت ،ومحترفي الهدر ،هدر العقول وهدر الكرامات وهدر إنسانية الإنسان ،وقف في وجه سياسة القهر والظلم، قهر الإرادات وقتل الطاقات، وقف في وجه ذلك كله، ليس بالسيف، فهو لم يستخدم السيف إلاّ عندما فُرض عليه ذلك ،للدفاع عن النفس وعن المستضعفين، وإنما وقف متسلحاً بالمنطق والحجة، معتمدا أسلوب فتح العقول بالكلمة الطيبة ،وفتح القلوب باللمسة الروحية الحانية ، فأعاد للعقل قيمته، باعتباره ميزاناً للمعرفة وطاقة الإبداع لدى الإنسان،" أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل وقال له أدبرفأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إلي منك إياك آمر وإياك أنهى وبك أعاقب وبك أثيب "، وأعاد للإنسان كرامته: {ولقد كرمنا بني آدم}، وقوض سياسة التجهيل عندما جعل العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.

 

ولقد أرسى(ص) نظاماً بديلاً لنظام الجاهلية القبلي المتوحش الذي هو أقرب إلى اللانظام، لأنه ليس كافيا أن ترجم الظلام، بل لا بد أن تحمل النور وتقدمه للناس، وكان النظام البديل رائداً على المستوى الإجتماعي والاقتصادي والأخلاقي..كان نظاماً محوره الإنسان وغايته الله.

 

وهكذا ولد الإنسان مع رسول الله (ص)، وولدت الأمة وولدت معها الآمال الكبيرة والطموحات العظيمة، لقد كانت أسمى طموحات الإنسان الجاهلي المستضعف أن يجد شخصاً قوياً يعطيه الولاء والأمن واللجوء، وكانت أسمى رغباته وأمانيه أن يجد لقمة خبز ليسد بها جوعته، فجاء النبي(ص) ليؤسس نظاماً يقول فيه : إنّ الأمن والرغيف هما حق طبيعي للإنسان قد كفلهما له خالقه ،ولا يحق لأحدأن يمن بهما عليه، فالله تعالى هو {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} ،وقد كانت أعظم رغبة لدى المرأة في الجاهلية أن تحلم بالحياة ،وأن تملك حق الحياة، لأنه كانت تدفن حية، {وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت}، وإذا بالإسلام يعطيها ليس حق الحياة فحسب، بل وحق العمل والعلم والمشاركة {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ويعطيها معنى الحياة باعطائها الثقة بنفسها وقدراتها.

 

   إنّ ولادة رسول الله(ص) تعني ولادة الإنسان ، وتلك هي معجزة رسول الله(ص) الكبرى،وهي أهم بكثيرمما يذكر من معاجز حسية، ففي مدة قصيرة في عمرالزمن وعمر الحضارات وهي مدة عقدين ونيف استطاع(ص) أن يبني الإنسان المصادر والمهدور والمقهور،وأن تبني الإنسان معناه أن تبني روحه وعقله، معناه أن ترسي النظام ،وقد أرسى (ص)  نظاماً على أنقاض الفوضى.

 

وقد ارتكز هذا النظام البديع على أسس ثلاثة ،عمل(ص) على تركيزها في العام الهجري الأول، والأسس هي:

 

1) بناء المسجد.
2) المؤخاة.
3) الوثيقة الدستورية (دستور المدينة).

 

وبناء المسجد يعني بناء العقيدة الصحيحة، يعني العلاقة بالله وحده، { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} ،إن بناء المسجد يعني تلبية حاجة الإنسان إلى الأمن الروحي.

 

وأما المؤاخاة فهي تعني تلبية حاجة أخرى للإنسان وهي حاجته إلى الأمن الاجتماعي ، تعني إلغاء الفوارق الطبقية، ليغدو– طبقا لهذه المؤاخاة- زيد بن حارثة وهو العبد الذي بيع في أسواق مكة ذات يومواشتراه النبي(ص) قبل الإسلام وكان إنساناً مستضعفاً يغدو أخاً لحمزة بن عبد المطلب وهو سيد من سادات قريش.

 

وأما الوثيقة الدستورية ،فهي تعني القانون الذي يرسم الحقوق والواجبات، وينظم العلاقات بين الجماعات الدينية المختلفة، لقد كانت وثيقة المدينة فتحاً على المستوى الدستوري ،فقد جاء في إحدى فقرات هذه الوثيقة" أن المؤمنين ويهود بني عوف أمة واحدة من دون الناس".

 

   هذا هو النظام المعجزة الذي بناه رسول الله(ص)، فأين حالنا نحن من هذا النظام؟ ولو أطل علينا رسول الله(ص) من عليائه فماذا سيكتشف؟ 

 

سيجد أن الأسس الثلاثة المشار إليها قد تقوضت، سيجدنا  نعيش الكثير من الفراغ الروحي ،نملأ مساجدنا بالزخارف والمظاهر أكثر مما نملأها بالمعنوية وبذكر الله، سيجدنا نعيش تناحراً مذهبياً وعرقياً مدمراً، سيجدنا أشداء على المؤمنين رحماء على الكفار، وسيجدنا أمة يحكمها الطغيان والاستبداد والنظام العشائري القبلي وليس القانون ، سيجدنا أمة تستهلك ولا تنتج وتستورد ولا تصدر ،وتتكلم أكثر مما تفعل ، امة يعلو صراخها وضجيجها ولكن بدون بركة.

 

   لو جاءنا رسول الله فسيشعر بالغربة في هذه الأمة التي أرادها أن تكون الأمة الشاهدة على الأمم {كنتم خير أمة أخرجت للناس...} وإذا بها أمة تعيش على هامش الأمم!

 

   لو جئتنا يا رسول الله ستشعر بالغربة لأننا ابتعدنا عنك كثيراً وصدقت نبؤتك: "لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض"، فها نحن يضرب بعضنا رقاب بعض ويستحل دمه،وكل ذلك باسمك!

 

   لو جئتنا لشعرت بالغربة ،لأن الذين يهتفون باسمك مشغولون عنك، مشغولون عنك بعصبياتنا الضيقة وكهوفنا المظلمة، حتى أننا من حيث ندري أو لا ندري نريد اقحامك في مذاهبياتنا الضيقة، لتغدو عند الشيعة شيعياً، وعند السنة سنياً ،بدل أن نكون مسلمين كما أردتنا ،وتكون أنت الذي يظلل الجميع ،كما قال تلميذك علي(ع): "بأبي انت وأمي يا رسول الله... خصصت حتى صرت مسلياً عمن سواك ، وعممت حتى صار الناس فيك سواء."

 

   وكماتشعر أنت بالغربة ،فنحن بدورنا يا رسول الله نشعر بغربتك ،لا لأنك ارتفعت عنا فحسب وقد قالها علي(ع): "كان في الأرض أمانان من عذاب الله، أما أحدهما فقد رفع وهو رسول الله ، فدونكم الآخر فتمسكوابه لاوهو القرآن "، بل لأن صمامات الأمان التي تركتها وأرسيتها فينا قد تعطلت، وإحدى هذه الصمامات التي علمتنا إياها أن نأخذ بالظاهر: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً} ،وقد قلت لأحد أصحابك وقد قتل رجلاً يهوديا مع أنه تشهد الشهادتين :أقتلت رجلاً يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فأجابك إنما قالها تعوذاً ، فقلت له: أفلا شققت الغطاء عن قلبه" هذا ما علمتنا ولكننا بعيدون عن ذلككل البعد ،فالذي يقودنا اليوم هوسوء الظن بالمؤمنين فضلا عن غيرهم.

 

   علمتنا أن الدين حياة: {يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وإذا بتديننا اليوم يغدو تديناً تفوح منه رائحة الدم والموت، علمتنا أن التدين حب وانفتاح وإذا به يغدو تزمتاً وحقداً أسود.

 

ونشعر أيضاً بغربتك عنا في أخلاقك في تواضعك الذي هو درس لكل العلماء والقادة وعامة الناس، فقد كنت صاحب الخلق العظيم، كنت لا تحتجب عن العامة "تجلس جلسة العبد وتأكل على الأرض وترقع ثوبك بيدك، وتركب الحمار العاري وتردف خلفك"كما وصفك أمير المؤمنين (ع).

 

   هذا هو واقعنا يا رسول الله وهذه هي حالتنا، لكننا مع ذلك نعاهدك مع كل المخلصين بأننا لن نسمح لليأس بأن يسقطنا، ففينا - رغم كل تلك السلبيات -الكثير من نقاط القوة وعلامات الضوء ،وكل ذلك من بركاتك، فكل ما في هذه الأمة من خير فأنت مصدره وكل ما فيها من عزة فأنت منبعه وكل ما فيه من نور فأنت مبعثه، فلن نسمح لليأس أن يسيطر علينا، بل ستبقي الأمل الذي يفتح لنا آفاق المستقبل لنزرع –ببركتك - الخير في النفوس والأمل في عيون الأطفال وعقول الأجيال.

 

   إنّ أدنى الوفاء لك سيدي يا رسول الله أن نعاهدك في ذكرى المولد أن نعمل لتبقي الأصل وغيرك الفرع ، وأن نعاهدك أن يبقى القرآن حاضراً فينا، لأننا كلما تلوناه قرأناك في كل آية من آياته ،وكلما ذكرنا واحداً من أهل بيتك أو صحابتك المنتجبين سنذكر جهودك في تربية هذا الجيل الطليعي الأول الذي حمل لواء الإسلام إلى العالمية،ونعاهدك أن نبقى عنوان الحضور، لتبقى حاضراً في القلب والوجدان حاضراً في كل ميادين الحياة.

 

  والسلام عليك يوم ولدت ويوم ارتفعت إلى عليائك ويوم تبعث حياً.

 

هو فخر التاريخ لا فخر شعب يدعيه ويصطفيه ولياً
لا تقل شيعة هواة علي إنّ في كل منصف شيعياً
جلجل الحق في المسيحي حتى عدّ من فرط حبه علوياً
يا سماء اشهدي ويا أرض قري واخشعي إنني ذكرت علياً
 

 

 

خطبة الجمعة 10/02/2012 في مسجد الحسنين
 

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon