واقع المرجعيّة وشؤونها بعد رحيل سماحة المرجع السيد فضل الله (رض)
أجرت جريدة اللّواء اللبنانيّة مقابلةً مع سماحة الشّيخ حسين الخشن حول قضايا تتعلّق بالمرجعيّة، ووضعها الحاضر بعد رحيل العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، وهذا نصّ الحوار:
نشأة المرجعيَّة
س: ما هو أساس نشأة المرجعيَّة في الواقع الشّيعيّ؟
ج: إنّ المرجعيّة، بمعنى مرجعيّة الإفتاء، ورجوع الجاهل في قضايا الدّين إلى العالِم، ليست مسألةً شيعيّةً خاصّة، بل ولا حتى إسلاميّة النّشأة فقط، فقد عرفت هذه الظّاهرة لدى أتباع كلّ الدّيانات، وأمّا بداياتها الإسلاميّة، فترجع إلى عصر النبيّ(ص)، فقد كان النّاس يرجعون إليه(ص)، أو إلى بعض فقهاء صحابته، للاستفسار عن شؤون دينهم، بل إنّه(ص) كان ينتدب الرّسل من صحابته بهدف تعليم النّاس أحكام دينهم، فقد أكّد القرآن الكريم ضرورة تشكّل هذا النّحو من المرجعيّة، في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التّوبة: 122].
وقد استمرّت هذه السّيرة في عصر الصّحابة والتّابعين، وجرى عليها الأئمّة من أهل البيت(ع)، حيث عملوا على تربية جيلٍ مثقّفٍ إسلاميّاً في شتى المعارف الإسلاميّة؛ من الفقه والكلام والتّفسير وغير ذلك، وقد نظّموا وأشرفوا على رعاية التخصّصات في هذا المجال، فشجّعوا بعض صحابتهم على القيام بمهمّة الإفتاء دون الخوض في القضايا الكلاميّة، لأنهم لا يحسنون ذلك، وشجّعوا البعض الآخر على العكس أيضاً...
وهكذا، فقد كان من الطبيعيّ أن تتعمّق هذه الظّاهرة بعد عصر الغيبة أكثر، وتتجذّر في وعي المسلمين الشّيعة أكثر، لأنّ الفقيه غدا يرمز إلى الإمام باعتباره نائباً، واستناداً إلى ما ورد في التّوقيع المعروف عن الإمام المهدي(عج): "أما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا (وهم الفقهاء)، فإنهم حجّة عليكم، وأنا حجّة الله".
ولعلّ ما ميّز مدرسة أهل البيت(ع) وأتباعهم، هو بقاء باب الاجتهاد لديهم مفتوحاً، خلافاً لما حصل عند عامّة المذاهب الإسلاميّة، الأمر الّذي خلق حيويّةً فقهيّةً مستمرّةً، ساهمت في إعلاء شأن الفقيه، ومع مرور الزّمن، شكّلت مرجعيّة الفقيه، ولا سيّما في ظلّ الاستقلالية الماليّة، استناداً إلى نظام الخمس، مركز استقطابٍ كبيرٍ، ما مكّنها من لعب أدوارٍ هامّة على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ، فقد قادت هذه المرجعيّة حركة الثّورة والمطالبة باستقلال بلاد المسلمين من المستعمر الإنكليزي والفرنسي، كما حصل في ثورة العشرين في العراق.
مفهوم التّقليد
س: هل يجب على كلّ إنسانٍ أن يكون مقلِّداً؟
ج: من الطّبيعيّ أنّ على كلّ مسلمٍ لا يملك ثقافةً فقهيّةً تمكّنه من معرفة الحكم الشّرعيّ من مصادره، أن يرجع إلى من يملك هذه الثّقافة، فيتمكّن هذا المسلم من المواءمة بين سلوكه العمليّ وانتمائه إلى الإسلام، وهذا ما يجعل من ظاهرة التّقليد ظاهرةً طبيعيّةً وعقلائيّة، ولذا كانت مسيرة العقلاء القاضية برجوع الجاهل إلى العالم، هي المستند الأهمّ في تبرير ظاهرة التّقليد. إنَّ هذا ما يعنيه التّقليد، وهو لا يعني أبداً ـ كما يخيَّل إلى البعض ـ الانقياد الأعمى للفقيه في كلّ ما يقوله أو يفعله، ولا سيّما في المواقف التي يتّخذها في الشّأن العام، أو في تحديد الموضوعات أو تقييم الأفراد، فإنّ الفقيه ليس معصوماً، ولا مانع من مناقشته أو نقده ممن يملك ثقافة ذلك، وقد تعلّمنا في مدرسة رسول الله(ص)، أن نبقي عقولنا مفتوحةً ولا نؤجّرها لأحد، وقد قالها الإمام عليّ(ع) وهو يحرّض صحابته على التّفكير النقديّ: "فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ، أو مشورةٍ بعدل".
شروط المرجعيّة
س: هل كلّ مجتهد مرجع؟
ج: ليس كلّ مجتهد مرجعاً بالضّرورة. أجل، إنّ للمجتهد حقّ العمل بآرائه، كما أنّه مشروع مرجع، وإنما يتحوّل إلى مرجع فعليّ، إذا اقتنعت به الأمّة، وأثبت حضوره في وسطها العلميّ، ويرى بعضهم أنّه لا بدّ من أن يترقّى في مستواه العلميّ ليصبح أعلم الفقهاء، وإلا فلا يجوز تقليده. لكن في مقابل هذه النظرية المعروفة، هناك نظرية أخرى لا تشترط الأعلميّة في مرجع التقليد، وتكتفي باجتهاده وفقاهته، وممن يرى هذا الرّأي، المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، بل إنّ السيّد محسن الأمين قد نسب هذا الرّأي في كتابه (أعيان الشّيعة) إلى مشهور الفقهاء.
المرجعيّة في لبنان
س: هل لدينا مرجعيّات في لبنان؟
ج: عرف جبل عامل في تاريخه العلميّ الحافل العديد من المرجعيّات الكبيرة التي لعبت دوراً هاماً في إثراء الثقافة الإسلاميّة وتطوير الفقه الإسلاميّ، ولا تزال آثارهم الفقهيّة تُدرَّس إلى اليوم في الحوزات العلميّة، وبعض تلك الشخصيّات أقامت في لبنان، والبعض الآخر اضطرّتهم الظّروف السياسيّة والأمنيّة الضّاغطة للهجرة إلى العراق أو إيران، ووصل بعضهم في بلاد الهجرة تلك إلى أعلى المراكز العلميّة، ولعبوا أدواراً سياسيّةً هامّة، من قبيل المحقّق الكركي، والشّيخ البهائي، ووالده الشّيخ حسين بن عبد الصّمد الجبعي، وغيرهم.
وقد استمرّ هذا الجيل العامليّ في حيويّته المعهودة، وحراكه الفقهيّ والأدبيّ، وحتى العلميّ، وهذه آثار الشّيخ بهاء الدين العاملي الهندسيّة لا تزال شاخصةً إلى اليوم، منذ ما يقرب من أربعمائة عام في مدينة أصفهان الإيرانية.
وقد تميّزت مدرسة جبل عامل بحيويّتها الاجتهاديّة الّتي تطلّ على كلّ قضايا العصر ومستجدّاته، وبرفضها للجمود والتحجّر، وبانفتاحها على التجديد الفقهيّ، وكذلك على المذاهب الإسلاميّة الأخرى، حيث نلاحظ أنّ الفقيهين: الشّهيد الأول والشّهيد الثاني، درساً على أئمّة المذاهب الأخرى، كما درّس الشّهيد الثاني على المذاهب الخمسة في المدرسة النوريّة في بعلبك.
إنّ هذه الخصائص لمدرسة جبل عامل استمرّت إلى عصرنا الحاضر، ومثّلها العديد من الشّخصيّات العلميّة، وكان من أبرزهم العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رحمه الله)، الذي كان بحقّ فقيهاً مجدّداً ومفكّراً إصلاحيّاً، وقد عرف القرن الماضي شخصيّةً إصلاحيّةً معروفة، هو السيد محسن الأمين، صاحب رسالة التنـزيه التي دعا فيها إلى إصلاح الشّعائر الحسينيّة من الممارسة الشاذّة والدّخيلة.
مصير المرجعيّة بعد فضل الله
س: ما هو مصير المرجعيّة بعد رحيل سماحة السيّد؟
ج: الحقيقة أنّ المرجعيّة لا ترتبط بمكانٍ جغرافيّ معيّن، وإنما تخضع لشروطٍ أهمها الفقاهة والورع، فإذا توفّرت تلك الشّروط في إنسانٍ معيّن، كان من حقّه أن يتصدّى للإفتاء وشؤون المرجعيّة، بصرف النظر عن موطنه ومقرّ إقامته، وقد كان سماحة السيّد (رحمه الله)، وقبل تصدّيه للمرجعيّة، يتبنى مرجعيّة السيّد الخوئي في النّجف، ومن ثمّ مرجعيّة السيّد الكلبيكاني في مدينة قمّ، ثم إنّه، ومع رحيل سماحة السيّد فضل الله، فإنّنا لا نجد في لبنان مرجعيّةً دينيّةً يمكن أن تملأ الفراغ الّذي تركه، ولا سيّما أنّه مثّل تجربةً رائدةً في مرجعيّته الحركيّة والحاضرة في شتّى الميادين الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والفقهيّة، كما ومثّل ظاهرةً إنسانيّةً فريدةً في علماء الدّين، انعكست ليس على سلوكه فحسب، بل على فكره وفقهه، ومن هنا جاءت فتاواه الإنسانية، إذا صحّ التعبير، من قبل فتواه بطهارة الإنسان، وأنّ الله لم يخلق إنساناً نجساً، وإنما الإنسان هو الّذي يلوّث نفسه وفكره وروحه بالقذارات الفكريّة والمادّيّة..
إلا أنّ ثمة جيلاً واعداً من العلماء اللّبنانيّين، وبينهم الكثير من تلامذة سماحة السيّد، من الممكن أن يكونوا في المستقبل فقهاء بارزين، ويستمرّوا في خطّ الوعي والتّجديد الذي خطّه سماحة السيّد، بما يرفع من مستوى الأمّة الثّقافيّ، ويخفّف من شطحات المغالين والمتعصّبين.
جريدة اللواء اللبنانيّة
التاريخ: 15شعبان 1431 ه الموافق: 27/07/2010 م