حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
العنف : ممارسة خاطئة أم ثقافة مشوهة
الشيخ حسين الخشن



 

 
من الصفات اللصيقة بالجماعات التكفيرية اعتمادها طريق العنف والقسوة في مواجهة الآخر، فهي لا ترى له حرمة ولا تجد غضاضة في لعنه وشتمه وضربه والتعدّي عليه، وانتهاك حرمته وسفك دمه، وليس في قاموسها مكان للرأفة والرفق إلاّ في حالات خاصة، وكأن الأساس في الشخصية الإيمانية الشدّة والغلظة، وأمّا الرفق والمحبة والرحمة فهي استثناء! وتلك هي حالهم في الماضي والحاضر.
 
قتل دجاجة هو أمر عظيم عند الله:

 

فلو عدنا إلى الماضي لرأينا أنّ أول حركة تكفيرية وهي حركة الخوارج، اشتهرت بالقسوة والجرأة على انتهاك الحرمات وكفّرت المؤمنين واستحلّت دماءهم وعاثت في الأرض فساداً، قبل أن ينهض عليّ (ع) ليضع حداً لتمردهم وإخلالهم بالأمن الاجتماعي والنظام العام، وإن الحادثة التي ينقلها لنا الطبري وغيره من المؤرخين عن قتلهم عبد الله نجل الصحابي خباب بن الأرت وبقر بطن زوجته وهي حامل مقرب خير شاهد على مدى الوحشية التي بلغوها. والغريب أنّهم في هذه الأثناء اعترضوا على ما قام به بعضهم من قتل خنزير لرجل "ذمي" واعتبروا أنّ ذلك يشكّل فساداً في الأرض! إنّ هذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على حالة من التخبُّط والضياع لدى هؤلاء وعلى افتقادهم توازن الشخصية وافتقارهم إلى الميزان الديني والأخلاقي، ما جعلهم يعظمون الصغائر ويستهينون بالعظائم.

 

وقد وعظهم أمير المؤمنين (ع) وحذرهم عاقبة أعمالهم قائلاً: "فبيّنوا لنا بماذا تستحلّون قتالنا والخروج من جماعتنا أن اختار الناس رجلين، أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضوا الناس تضربون رقابهم وتسفكون دماءكم، إنّ هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي حرّم الله"(1).

 

وأمّا في عصرنا الحاضر فقد رأينا الحركات التكفيرية تمارس العنف بأشكال مختلفة في العديد من بلدان العالم الإسلامي من الجزائر إلى أفغانستان والعراق وسوريا وسواها من الدول التي سُفكت ولا تزال تسفك فيها الدماء بدم بارد، وهذا ما ساهم  تش تقديم صورة قاتمة سوداوية عن الإسلام والمسلمين.

 

من الجهاد إلى اللصوصية:

 

ومن النقاط المشتركة التي تتلاقى عليها الجماعات التكفيرية في الماضي والحاضر، أنّها إذا ما ضُيّق عليها الخناق وحوصرت تكون عاقبتها أن يتحوّل أفرادها إلى لصوص وقطّاع طرق، وبذلك ينتقلون من موقع الجهاد إلى موقع اللصوصية، وهذا ما تنبّأ بهذا المصير أمير المؤمنين (ع) بشأن الخوارج، فإنّه بعد أن قضى عليهم، قيل له: يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم، فقال (ع): "كلا، والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، وكلما نجم منهم قرن قُطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين"(2).

 

وهكذا يلاحظ أنّ الجماعات المذكورة تختلط عليها الأمور وتضيع الأولويات فيأخذون البريء بجريرة المذنب ولا يفرّقون بين مدني أو مقاتل، ولا بين صغير أو كبير، أو عدو أو صديق، وهذه صفة تلاقى عليها مكفِّرة الماضي والحاضر، أمّا مفكِّرة الماضي فكانوا كما وصفهم عليّ (ع): "سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم وتخلطون مَن أذنَب بما لم يُذنِب"(3) وأما مكفِّرة زماننا فهم كذلك بل أشدّ سوءاً كما ينبئ شعارهم القائل "إن قتلنا مجرماً عجّلنا به إلى النار، وإن قتلنا برئئاً عجّلنا به إلى الجنّة"!!

 

العنف ثقافة مشوهة:

 

ولو فتّشنا عن السبب في جنوح هذه الحركات إلى العنف واعتماده نهجاً وطريقاً في مواجهة الآخر ممّن لا يتّفق معهم في الرأي مسلماً كان أو كتابياً أو مشركاً، لما وجدنا مبرّراً لذلك سوى سوء فهمهم للدين وجهلهم بأهدافه ومقاصده وتطلّعاته، وتمسكهم بنصوصه بشكل مجتزئ وانتقائي وعدم إحاطتهم به من جميع جوانبه، وساهم في ذلك عوامل أخرى منها: هوى النفس وحبّ الدنيا والأطماع والعُقَد الخاصة، وعزّز ذلك أساليب القمع والوحشية التي لجأت إليها بعض السلطات الجائرة في مواجهتهم ومحاولة لاستئصالهم، وهو ما زادهم شراسة وعنفاً وقسوة، وفي هذا الجوّ نشأت وترعرعت الأفكار التكفيرية وتشكّل ما بات يُعرف "بثقافة العنف"، لأنّ المشكلة لا تكمن في مجرّد ممارسات عنيفة وقاسية هنا وهناك، بل في ثقافة مشوّهة وتعبئة خاطئة تنتج التطرّف والعنف وتجتذب الإرهاب وتصنع أفراداً وجماعات أشداءً غلاظاً قساة على المؤمنين والكافرين على السواء.

 

وعلى ضوء ذلك غدا علاج المشكلة معقّداً وبمكان من الصعوبة، فهو لا يتمّ بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تنبيه هنا وتوجيه هناك، لأنّ هؤلاء لا يرون أنفسهم فاعلين لمنكرٍ أو تاركين لمعروف، بل يعتقدون أنّهم يقومون بواجبهم الديني والرسالي، وإنّما العلاج باعتماد عملية توعية وتثقيف شاملة تعمل على غرس ثقافة الرفق في النفوس وتعميمها في كلّ الأوساط وتربية الجيل الصاعد عليها، إنّ علينا أن نعمل على مواجهة العنف من خلال تفكيك وتفنيد البنى التحتية التي يرتكز عليها، وأعني بذلك ثقافة العنف ومبرّراته الدينية الموهومة وروافده الفكرية المزعومة.

 

وهذا المنهج إذا عمل العلماء والمفكّرون على التنظير له وتأصيله ومن ثم إشاعته في مختلف الأوساط وتربية الأُمة عليه، فإنّه كفيل بالتخفيف من وطأة التكفيريين ونزع سلاح الشرعية من أيديهم، بخلاف ما لو كان الأسلوب المتبع معهم هو أسلوب القمع والشدّة فقط، فإنّ ذلك لن يزيدهم إلاّ شراسة وعدوانية وربّما أوجب تعاطف الكثيرين معهم لما يرون من مظلوميّتهم، ولهذا وجدنا أنّ أمير المؤمنين (ع) تريّث كثيراً قبل أن يفكّر في مواجهة مكفّرة زمانه أعني الخوارج، بل ناظرهم وحاورهم وأرسل إليهم عبد الله بن عباس لمحاججتهم وتفنيد ادعاءاتهم، وأرشده إلى الأسلوب الأنجح في إبطال حججهم قائلاً: "لا تخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً"(4) إنّ في ذلك درساً لنا بأن نفكّر في طبيعة وأسلوب الحوار مع الآخر قبل أن نفكّر في الحوار نفسه.

 

الإسلام والرفق:

 

وبناءً على ما تقدّم يكون من الضروري أن نطلّ على نظرة الإسلام لمفهومي العنف والرفق لنحدّد موقعهما في الحياة وفق الرؤية الإسلامية، وغير خفيّ أنّ الرفق قيمة كبرى يريدنا الإسلام أن نحملها في قلوبنا ونجسّدها على أرض الواقع، يقول رسول الله (ص): "إنّ الله رفيق يحبّ الرفق" وقال أيضاً: "الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانَه ولم ينزع من شيء إلاّ شانَه" ويعتبر باقر أهل البيت (ع) أن الرفق طريق الإيمان "إنّ لكلّ شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق"(5)، ولن يستطيع الإنسان بلوغ غاياته بدون انتهاج سبيل الرفق، يقول عليّ (ع): "الرفق مفتاح النجاح"(6)، ويقول الصادق (ع): "من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس"(7)، وهل انتشر الإسلام إلاّ بثقافة الرفق ولغة المحبة؟ وهل دخل رسول الله (ص) قلوب الناس لو لم يكن رحمة شاملة ومهداة لهم جميعاً؟!

 

وقد غدا الحديث عن رحابة الإسلام وأنّه دين المحبة والرفق حديثاً استهلاكياً، وآن الأوان أن نخرج من لغة التعميمات وطوباوية الكلمات وضبابيتها وندخل في التفاصيل والجزئيات وننزل إلى أرض الواقع وننشر ثقافة الرحمة ونبرهن على أنّ الرفق ليس مجرّد قيمة متسامية وشعار عريض نزيّن به ساحاتنا ونردّده في البروج العاجية، بل إنّه سلوك ومنهج حياة ينبغي أن يحكم كلّ مرافق الحياة ومختلف الدوائر الإنسانية العامة والخاصة، وأنّه من جهة أخرى محميّ بتشريعات وقوانين تكفل تطبيقه وتمنع تجاوزه، آن الأوان لكي ننقذ الرحمة نفسها من نصال العنف وأنيابه المتوحشة، لأنّ الضحية الكبرى لمنطق العنف هو غياب قيمة الرحمة نفسها وتلاشيها.

 

الرفق منهج حياة:

 

أمّا الجانب الأول: وهو أن الرفق ليس مجرّد شعارات عامة نطلقها بل هو سلوك يفترض أن يحكم كلّ الدوائر الإنسانية فهذا ما تسعفنا النصوص والتعاليم الإسلامية لإثباته بشكلٍ واضح، حيث نجدها تؤكد: أن العلاقة  الرجل بزوجته عمادها المحبة والرحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...}(8)، وكذلك العلاقة بين الولد ووالديه {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}(9).

 

ولو خرجنا من دائرة الأسرة إلى دائرة الأرحام والجيران والإخوان، سنجد الدعوة واضحة إلى أن يكون الرفق منهاج حياتنا، فعن رسول الله (ص): "الراحمون يرحمهم الرحمان، إرحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء"(10)، وقد وصف الله المؤمنين بأنّهم {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}(11)، والحاكم المسؤول لا بدّ أن ينتهج أسلوب الرفق مع الأُمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(12)، وعن عليّ (ع) في عهده لمالك الأشتر "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا نكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"

 

ولا بدّ أن تمتد حبال المودّة وسياسة الرفق إلى الآخر الذي يختلف معك في الدين كما أكّد عليه الإمام (ع) في كلامه الآنف لأنّه إنْ لم يكن أخاً لك في الدين فإنّه أخٌ لك في الإنسانية قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(13).

 

 وهكذا يريد لنا الله أن نرفق ونرحم حتى الحيوان، فعن رسول الله (ص): "ينادي ماندٍ في النار: يا حنان يامنان نجني من النار فيأمر الله ملكاً فيخرجه حتى يقف بين يديه فيقول الله عزّ وجلّ: هل رحمت عصفوراً"؟(14).

 

حماية المجتمع:

 

وأما الجانب الثاني: وهو الآليات القانونية الكفيلة بحماية المجتمع من النتائج السلبية لنزعة العنف والعدوانية التي قد لا تستطيع كلّ أساليب التربية أن تروضها، فيمكننا القول: إنّ التشريع الإسلامي وضع مجموعة من الضوابط القانونية الكفيلة بتحقيق الهدف المذكور والحدّ من كل أشكال العنف والعدوان على الآخر ابتداءً من العنف الزوجي الذي غالباً ما تكون النساء ضحاياه، أو العنف الأسري الذي يكون الأطفال أول ضحاياه، أو العنف مع الجيران أو مع الناس جميعاً، والضوابط المذكورة تنتظم في النظام الجنائي الإسلامي الذي يعطي للمعتدى عليه حقّ الدفاع عن النفس وحقّ القصاص أو الدية على قاعدة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}(15)، وحق التعويض المالي على قاعدة "مَن أتلف مال غيره فهو له ضامن" وقاعدة "على اليد ما أخذت حتى تؤدّي" وفوق ذلك كلّه منح الحاكم سلطة منع الظالم والتعدّيات بكلّ أشكالها، ولذا ورد في الحديث "الإمامة نظام الأُمة"(16).

 

هذا على نحو العموم، أمّا في التفاصيل فيمكننا الإشارة إلى أن الزوج إذا اعتدى على زوجته فعلى الحاكم منعه بسلطة القانون وإذا بقي مصرّاً على ذلك، وكانت الحياة الزوجية عسراً وحرجاً على المرأة فيمكن للولي أن يفرق بينهما كما يرى جمع من الفقهاء(17).

 

ولو أنّ الأب ضرب ابنه فأثّر الضرب فيه اسوداداً أو احمراراً عوقب من قبل الحاكم الشرعي وألزم بدفع الديّة كما هو مقرّر في محله، وإذا كان الضرب سلوكاً مستمراً له فعلى الحاكم أن يعزله وينتزع الولد منه، لأنّ الولاية تعني سدّ نقص المولى عليه وتكميله، وهي تقتضي القيام بشؤونه وتربيته لا ضربه والاعتداء عليه، باستثناء الضرب الخفيف الذي قد تقتضيه ضرورة التربية أحياناً.

 

ويمنع الإسلام كذلك من الإضرار بالآخرين وأذيّتهم ولو اقتضى الأمر أن يحدّ من سلطة الإنسان ويقيّد حريّته، وقد اشتهرت قصة سمرة بن جندب الذي كان يملك نخلة في دار رجل من الأنصار وكان مصرّاً على الدخول إليها بدون استئذان ممّا يؤذي الأنصاري وعياله، فشكاه إلى الرسول فاستدعاه (ص) وقدّم له بعض الحلول ولما رفض كلّ الحلول والعروضات التي قدّمها له النبيّ (ص) بما في ذلك أن يأخذ عوضاً عن نخلته عشر نخلات في الجنة بضمانة رسول الله، أمر النبي الأنصاري بقلعها ورميها في وجه سمرة معلّلاً ذلك بقوله: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"(18).

 

وهكذا لا يسمح القانون الإسلامي بالاعتداء على غير المسلم أو انتهاك حرمته أو سرقة ماله بل إنّه يحميه ويحترم خصوصيّته ويعطيه حقّ ممارسة عباداته وغيرها من الحقوق، ولو أنّ مسلماً اعتدى عليه عوقب وضُمِّن، حتى لو أنّ مسلماً قتل خنزيراً لرجل ذميّ فهو ضامن كما فعل أمير المؤمنين (ع)، مع أنّ الخنزير لا مالية له في الإسلام(19).

 

عنف الجهاد والقانون:

 

إنّ الرفق هو القاعدة والأصل في الإسلام، لكن ذلك لا يمنع من وجود بعض الاستثناءات المنطقية، وأولى تلك الاستثناءات حالة الدفاع عن النفس والجهاد في سبيل التحرّر والتخلّص من نير الظلم والعدوان والاحتلال، فهنا يختلف الأمر ويتبدّل الموقف ويصبح المنطق الطبيعي هو منطق {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} واللغة السائدة هي لغة {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}.

 

والاستثناء الآخر: هو عنف القانون بهدف تجسيد العدل وإحقاق الحقّ ومحاسبة المجرمين والمعتدين على الأمن الاجتماعي، فهنا لا يكون الموقف هو العفو بشكلٍ مطلق، لأنّ العفو قد يكون مضرّاً، يقول الإمام زين العابدين: "وحق مَن ساءَك أن تعفو عنه وإن علمت أنّ العفو يضرّه انتصرت"(20)، والإسلام لا يؤمن بقاعدة "من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الأيسر"(21)، إلاّ على المستوى الشخصي والحقّ الخاص.

 

وأعتقد أنّ كلام السيد المسيح المذكور ناظر إلى هذه الدائرة الأخلاقية وليس هو في مقام إلغاء القانون أو إلغاء حقّ الدفاع عن النفس خلافاً لما فهمه الشاعر القروي منه، ولذا قال بلغة المعترض عليه: 

 

إذا أردت رفع الضيم فاضرب بسيف محمد واهجر يسوعا
فيما حملاً وديعاً لم يخلّف سوانا في الورى حملاً وديعاً
أجرنا من عذاب النير لا من عذاب النار إنْ تك مستطيعا

 

والحقيقة أنّ محمداً ويسوعاً لا يختلفان في شيء، فكلاهما يدعوان إلى التسامح على المستوى الفردي وقد قال تعالى في هذا الشأن: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(22)، ولكن على المستوى الاجتماعي والحقّ العام لا يجوز أن تكون القاعدة لا عند محمد (ص) ولا عند عيسى (ع) هي التسامح والعفو، لأنّ معنى ذلك نسف فكرة القانون من رأس وسيادة شريعة الغاب وانتشار الفوضى في المجتمع، ومن هنا لمّا سئل عليّ (ع): أيهما أفضل العدل أم الجود (العفو)؟ قال: "العدل يضع الأمور في مواضعها والجود يخرجها من جهتها، العدل سائس عام والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما"(23)، إنّ علياً يريد أن يقول لنا: إنّ العدل هو القاعدة والقانون العام، لأنّه يضع الأمور في مواضعها، أمّا العفو فهو استثناء وحالة خاصة وربّما كان مضراً بالمعفو عنه، كما أسلفنا، ولذا قال (ع) في كلمةٍ أخرى: "إذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً"(24)، وقد أجاد المتنبي في التعبير عن هذا المعنى عندما قال:

 

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى

 

وما ذكرته عن استثناء عنف القانون أقوله مع علمي بأنّ الكثير من الحكّام المستبدين يسيئون استغلال القانون وينحرون الحريات ويصادرون الحقوق ويقمعون الشعوب باسم سلطة القانون وتحت رايته.
 

 

 

 

1-كتاب الجمل وصفّين والنهروان لأبي مخنف: 438.
2- نهج البلاغة: 93.
3-بحار الأنوار: 33/373.
4-نهج البلاغة: 465.
5-الكافي: 2/118- 119 .
6-تصنيف غرر الحكيم: 294.
7-الكافي: 2/120.
8- سورة الروم، آية: 21.
9-سورة الإسراء، آية: 24.
10- مستدرك الوسائل: 9/56.
11-سورة الفتح، آية: 29.
12-سورة آل عمران، آية: 159.
13-سورة الممتحنة، آية: 8.
14-كنزل العمال: 3/167.
15-سورة البقرة، آية: 179.
16-تصنيف غرر الحكم: 339.
17-راجع أقوال الفقهاء في كتاب: الفقه على المذاهب الخمسة: 415.
18- الكافي: 5/294.
19- راجع المسائل: ج 29/262.
20-أمالي الصدوق: 456.
21-إنجيل متّى الاصحاح الخامس: 38.
22-سورة البقرة، آية: 237.
23-نهج البلاغة: 553.
24-م. ن. : 402.
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon