ضابط الإسلام والكفر
الشيخ حسين الخشن
إنّ خروج الأمّة الإسلامية من نفق التكفير والتكفير المضادّ وتداعيات ذلك على واقعها وحاضرها ومستقبلها لن يكون ممكناً إلاّ بعد الاتفاق على ضوابط الإسلام والكفر ورسم الحدود الفاصلة بينهما، فهذه هي البداية الصحيحة لمعالجة مشكلة التكفير، وعبثاً نحاول التفتيش عن حلول وعلاجات خارج المراجعة الحقيقية لموجبات التكفير والتي توسعت فيها بعض المذاهب توسعاً غير مبرر، فأخرجت معظم المسلمين عن دينهم وحكمت بهدر دمائهم واستحلال أموالهم، وإذا ما تسنى لنا وضع ضوابط صحيحة وأسس محكمة لعمليّة التكفير فسوف نتمكن من محاصرة الظاهرة والتخفيف من مخاطرها، وهذا يحتّم علينا أن نجد جواباً واضحاً على السؤال التالي: ما هي الأصول التي يكون الاعتقاد بها شرطاً لاعتبار الإنسان مسلماً، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويكون إنكارها كلاً أو بعضاً موجباً لخروجه عن الإسلام ؟
عن أي إسلام نتحدث؟
ومحل كلامنا هنا هو في الإسلام بمعناه الرسمي الظاهري الذي يعدّ معه المرء مسلماً وتجري عليه أحكام المسلمين، لجهة الحقوق والواجبات، ولسنا نقصد بالإسلام هنا معناه الواقعي الذي يتقبله الله من العبد، وهو الذي ينطلق من عقيدة صادقة والتزام واعٍ بالتعاليم الإسلامية والتكاليف الشرعية، فإنّ الاسلام بالمعنى الثاني لا يناله إلاّ القليل من الناس الذين يحملون الهوية الإسلامية، فما هي الأصول التي تخوّل كل من آمن بها حمل الهوية الاسلامية ؟ وفي حال عدم الإيمان بها تُسلب منه هذه الهوية ويصبح كافراً ؟
ما المراد بالأصول؟
يتفق علماء المسلمين في الجملة على أنّ إنكار أصل من الأصول مخرج عن الدين، ولكنهم قد يختلفون في أمرين:
الأول: في عدد أصول الدين، ففي حين يؤمن بعض المسلمين وهم الشيعة أنّ إمامة الأئمة من أهل البيت(ع) – مثلاً - هي من أصول الدين، فإنَ سائر الفرق لا ترى هذا الرأي، وهكذا فإنّ بعض الفرق تذكر في عداد أصول بعض المعتقدات التي تخصها .
الثاني: هل إنّ ثمة ما يوجب الخروج عن الدين غير إنكار الأصل ؟ فقد ذهبت بعض المذاهب إلى أنّ المكفرات لا تقتصر على إنكار أصل من الأصول، بل إنكار ضروري من ضرويات الدين موجب للكفر، كإنكار وجوب الحجاب أو الصلاة – مثلاً - وتوسّع بعضم في هذا الأمر، فحكم بكفر مرتكب المعصية الكبيرة ولو لم يكن منكراً لحرمتها، فمن اغتاب مسلماً – مثلاً - فهو كافر، لأن الغيبة هي من كبائر الذنوب.
وفي البداية، لا بدّ لنا أن نحدد معنى الأصل الذي يؤدي إنكاره إلى الخروج عن الدين، لأننا لا نملك - بحسب الظاهر- نصاً رسمياً يحدد لنا ما هي أصول الدين وما هي فروعه بالمعنى المصطلح لذلك ؟ وتقسيم الإسلام إلى ما يعرف بالأصول والفروع هو تقسيم تنظيمي استفاده علماء الإسلام – بحسب اجتهادتهم - من الكتاب والسنّة.
مع اتضاح ذلك، نعود إلى السؤال المحوري والذي يفرض نفسه في المقام، وهو: ما هي أصول الإسلام التي يستوجب إنكارها الخروج عن الدين؟
فيما يلي أقدّم رؤية أعتقد أنّها الأقرب إلى الصحة في الإجابة على السؤال المشار إليه، وأخال أنّه لو تسنى للأمة أن تعتمدها فسوف تضعها على الطريق السوي الذي يخرجها من فوضى التكفير، وخلاصة هذه الرؤية: إنّ التأمل الدقيق في الكتاب والسنة يقودنا إلى القول: إنّ أركان الإسلام التي يلزم الاعتقاد بها هي على نوعين:
1- الأركان التي يتقوّم بها الإسلام، ويكون للإيمان بها موضوعيةً تامة في تلبّس الإنسان بحِلْية الإسلام، وإنكارها أو إنكار واحد منها هو في حدّ نفسه موجب للكفر، سواءً كان الإنكار مستنداً إلى العناد واللجاج، أم كان مستنداً إلى الغفلة وعدم الالتفات الناشئ عن التقصير أو القصور 1.
2- الأركان التي يلزم الإيمان بها أو العمل بمضمونها دون أن يكون إنكارها – في حدّ ذاته – مستلزماً للكفر، إلاّ إذا رجع – الإنكار- إلى تكذيب الرسول أو إنكار الرسالة.
والأصول هي ما يدخل في النوع الأول، وما يدخل فيه ليس سوى الإيمان بالله ووحدانيّته والإيمان بنبوّة محمد (ص) والاعتقاد بالمعاد – على كلام آتٍ في الأخير – فالإيمان بهذه الأصول الثلاثة هو المُدخل للإنسان في الإسلام، وإنكارها كلّاً أو بعضاً، عمداً أو جهلاً، قصوراً أو تقصيراً، هو ما يخرج الإنسان عن دائرة الإسلام.
وأما النوع الثاني من الأركان، فيدخل فيه كل ما يعرف بضروريات الدين العقدية، من قبيل الإعتقاد بعصمة النبي(ص) وخاتميته للأنبياء.. وكذا ما اصطلح عليه بأصول المذهب، كالإمامة والعدل، فإنّ الإيمان بهذه الأركان ضروري وواجب، لكنّ منكرها أو منكر بعضها لا يخرج عن الإسلام إلى الكفر إلاّ إذا علم - المنكر - أو قامت عليه الحجة أنّ رسول (ص) جاء بهذه العقيدة ومع ذلك لم يؤمن بها رافضاً كلامه (ص)، فإنّ إنكاره - والحال هذا- يرجع إلى تكذيب النبي (ص)، ومن كذّب رسول الله (ص) أو ردّ عليه لا يُعدُّ مسلماً.
ويدخل في النوع الثاني أيضاً كلّ ما اصطلح على تسميته بضروريات الدين الفقهية كوجوب الصلاة والصوم والحجّ وحرمة شرب الخمر وأكل الربا وقتل النفس المحترمة وما إلى ذلك، فإنّ إنكار الضروري - كما عليه الفقهاء المتأخرون- ليس سبباً مستقلاً للكفر ما لم يرجع إلى إنكار الرسالة وتكذيب الرسول .
وهكذا الحال لو أنّ شخصاً أنكر واجباً من الواجبات، كما هو حاصل في أيامنا من إنكار بعضهم وجوب الحجاب على المرأة بسبب شبهة معينة، أو فهم خاطئ للنصوص، فإننا قد نحكم بخطأه واشتباهه، لكن لا يمكن لنا أن نحكم بكفره ما دام غير مكذّب للنبي ولا منكراً لرسالته.
وكما أن إنكار الضروي – كإنكار وجوب الصلاة أو إنكار حرمة الربا - لا يوجب الكفر والخروج عن الدين، فبالأولى أن لا يكون مجرد ارتكاب الحرام دون إنكار حرمته أو ترك الواجب دون إنكار وجوبه موجباً لذلك، ما يعني أنّ الالتزام العملي بفروع الدين ليس مقوّماً للإسلام في معناه الرسمي.
هذه خلاصة الرؤية التي نتبناها، وقد قدمناها بإجمال، ويهمنا الآن أن نقيم الدليل التفصيلي على هذه الرؤية بكل ما تضمنته، وذلك ضمن عدة نقاط .
الإسلام هو الشهادتان
النقطة الأولى: إنّ تقوّم الإسلام بالشهادتين، أعني الشهادة لله بالوحدانية وللنبي محمد(ص) بالرسالة هو من البديهيات، ولذا لم يستشكل أحد من المسلمين في أنّهما أصلان من أصول الدين، وهذا ما تؤكّده الأدلة والشواهد الكثيرة من الكتاب والسنّة، أمّا الكتاب فقد تضمن العشرات من الآيات التي تدل على اعتبار الإيمان بالله ووحدانيّته في تحقق الإسلام، وهناك آيات أخرى تدل على اعتبار الإيمان بالرسول (ص) في تحقّق ذلك، كما في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (سورة البقرة: آية 23- 24).
وأمّا السنّة، فقد ضمّت العشرات من الروايات الدالة على تقوّم الإسلام بمضمون هاتين الشهادتين وأنّ من أقرّ بهما حكم عليه بالإسلام وجرت عليه أحكام المسلمين، وإليك بعض هذه الروايات:
أولاً: ورد في المصادر الحديثية للمسلمين السنة ما يشهد بوضوح على ذلك، من قبيل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّ رسول الله (ص) قال يوم خيبر: "لأعطيّن هذه الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله يفتح الله على يديه" ، قال عمر بن الخطّاب: ما أحببت الإمارة إلاّ يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال: فدعى رسول الله (ص) عليّ بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال: إمشِ ولا تلتفت حتّى يفتح الله عليك"، فقال: فسار عليّ شيئاً، ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله على ماذا أُقاتل الناس؟ قال (ص): قاتلهم حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على الله" 2.
ثانياً: وهذا المعنى تؤكده العديد من روايات أهل البيت (ع)، منها ما رواه سماعة عن أبي عبد الله (ع) أنّه قال: "الإسلام: شهادة أن لا إلاّ الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس" 3.
ثالثاً: إنّ المعروف من سيرة رسول الله (ص) أنّه كان يكتفي في إسلام المشركين أو غيرهم ممن يدخلون في الإسلام بمجرد نطقهم بالشهادتين، ولذا نراه قد اعترض على ما فعله بعض صحابته من قتلهم رجلاً يهودياً بعد تشهده الشهادتين، ولم يقبل(ص) اعتذارهم على ما فعلوه بأنّه – أي اليهودي - إنّما نطق بالشهادتين ليدرأ عنه القتل 4، ومن هنا فقد حكم النبي (ص) بإسلام المنافقين وتعامل معهم معاملة المسلمين، لأنّهم أظهروا الإسلام وإن أبطنوا الكفر.
إنّ المستفاد من هذه السيرة القولية والفعلية لرسول الله (ص) - مضافاً إلى الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن - ليس فقط أنّ الإيمان بالله الواحد، والإيمان بنبوّة سيدنا محمد بن عبد الله (ص)، هما من الأصول التي يتقوم بها الإسلام، وأنّ من أنكر أحدهما فلا يحكم بإسلامه ولا إيمانه، وإنما يستفاد من ذلك أيضاً أنّ الإيمان بهما كاف في اكتساب الهوية الإسلامية، وأنه لا دخالة لأمر آخر في ذلك.
ماذا عن المعاد؟
النقطة الثانية: وهذا الكلام يدعونا إلى التساؤل عن المعاد الذي اشتهر على ألسنة الخاصة والعامة كونه من أصول الدين، واتّفقت على ذلك كلمة المسلمين على اختلاف مذاهبهم، ألا يعني ما تقدم نفي كونه أصلاً من أصول الدين؟
الذي يظهر من بعض العلماء التأمّل أو التشكيك في ذلك، وهذا ما يظهر من الفقيه السيد كاظم اليزدي، يقول رحمه الله في بيان معنى الكفر وتحديد الكافر: "والمراد بالكافر من كان منكراً للألوهية أو التوحيد أو الرسالة أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضرورياً بحيث يرجع إنكاره إلى إنكاره الرسالة" 5.
والذي يلوح من هذه العبارة أنّ المعاد – بنظره – ليس من أصول الدين بالمعنى المتقدم للأصل، ولذا علّق الفقيه الكبير السيد الخوئي رحمه الله على هذا المقطع بالقول: "أو المعاد"، وعلّق السيد أبو الحسن الأصفهاني على عبارة "والأحوط الاجتناب عن منكر الضروري مطلقاً" بالقول: "خصوصاً في منكر المعاد" 6، ومفاد كلامه التشكيك في كون المعاد من الأصول التي يستلزم إنكارها الكفر مطلقاً.
ومن هؤلاء الإمام الخميني رحمه الله، فإنّه وفي دراسته لهذه القضية دراسة استدلالية شكّك في دخالة الإيمان بالمعاد في انتساب المرء إلى الإسلام وامتلاكه الهوية الإسلامية، ولم يستبعد تقوّم الإسلام بمعناه الرسمي واقعاً بالاعتقاد بالألوهية والتوحيد والنبوّة 7، وأما الارتكاز المتشرعي على عدّ المعاد من أصول الدين فهو- بنظر السيد الخميني - ناشئ من التلازم بين إنكار المعاد وإنكار النبوة، "ووضوح عدم الجمع بين الاعتقاد بالنبوة وإنكار المعاد" 8.
وهكذا استقرب الشهيد مرتضى المطهري أنّ أصول الدين إثنان: وهما التوحيد والنبوة، فمنكر أحدهما كافر، وأما منكر المعاد فهو إنّما لا يُعدّ مسلماً باعتبار أنّ إنكار المعاد يلازم إنكار النبوة ذاتها" 9، وثمة علماء آخرون ذهبوا إلى الرأي عينه 10.
والوجه فيما ذهب إليه هؤلاء الأعلام من نفي كون المعاد أصلاً يتوقف الإنتساب إلى الإسلام على الإيمان به هو ما تقدمت الإشارة إليه من أن سيرة النبي (ص) وسنته جرت على الاكتفاء في قبول إسلام الأشخاص على التلفظ بالشهادتين، ولم يأخذ عليهم ضرورة الإيمان بالمعاد كشرط لاكتسابهم الهوية الإسلامية .
وقفة مع السيد الخوئي رحمه الله
وهكذا يتبيّن أنّه ليس هناك اتفاق على كون المعاد أصلاً من أصول الدين بالمعنى المتقدّم للأصل، ولذا رأينا أنّ السيد الخوئي رحمه الله يشير إلى أنّ فقهاءنا قد أهملوا عدّ المعاد في عداد الأصول مع أنّه لا وجه لهذا الإهمال برأيه، بعد أن قرن الله الإيمان به – أي بالمعاد - بالإيمان به تعالى في أكثر من آية من آيات الكتاب الكريم، كما في قوله تعالى {... إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (سورة النساء: آية 59) وقوله سبحانه: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (سورة البقرة: آية 228) وقوله عزّ من قائل: {مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...} (سورة البقرة: آية 232) إلى غيرها من الآيات 11.
ويمكن أن يلاحظ على كلامه بأنّ مجرد مجيء "الإيمان بالمعاد" في القرآن الكريم مقروناً بـ "الإيمان بالله" لا يدل على كون المعاد أصلا، وإلاّ فقد اقترن العمل الصالح مع الإيمان بالله في أكثر من آية 12 ولم يتوهم أحد أن العمل الصالح من أصول الدين، وهكذا قُرن الإحسان إلى الوالدين بعبادة الله الله وعدم الشرك به في أكثر من آية من آيات الذكر الحكيم 13 وقرن شكر الوالدين بشكر الله أيضاً، مع أن شكر الوالدين لا يقاس بشكر الله سبحانه.
أجل، إنّ المعاد وإن لم يكن بنظر بعض الأعلام أصلاً من أصول الدين، بيد أنّه لا مجال للتشكيك في كونه ركناً من أركان الدين وضرورة من ضرورياته وحكم منكره كحكم منكر الضرورة وهو ما سوف نتحدث عنه بعد قليل، ولا سيما بملاحظة اهتمام القرآن الكريم بقضية المعاد اهتماماً لا نظير له، وقد قام بعضهم بإحصاء الآيات الواردة في المعاد فبلغت زهاء ألف وأربعمائة آية، وينقل عن السيد الطباطبائي رحمه الله بأنّ الآيات التي تتحدّث عن المعاد تصريحاً أو تلميحاً تربو على الألفين 14، وهذا قد يدعو إلى التساؤل: أيبلغ أمر من الأهمية حداً تنزل فيه من آيات الكتاب الكريم ما يبلغ مقدار الثلث ثم لا يكون أصلاً من أصول الدين الإسلامي؟!!!
وأضف إلى ذلك أنّ الإيمان بالمعاد مما تلاقت عليه كل الديانات السماوية وغيرها، قال تعالى: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {سورة البقرة، آية: 62). كما أنّ المعاد وفق المنطق الديني هو هدف الخلقة ودار القرار والحياة الحقيقية الأبدية، أما الدنيا فهي دار مجازٍ وممر، قال الله تعالى: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (سورة العنكبوت، آية: 64).
إلاّ أن يقال: إنّ ذلك كله لا يثبت سؤى أهمية المعاد ومحوريته في العقيدة الإسلامية، ولكنه لا يثبت كونه أصلاً بالمعنى المتقدم للأصل، وهو الذي يحكم بكفر من لم يؤمن به ولو كان عدم إيمانه لشبهة أو غفلة.
إنكار الضروري:
النقطة الثالثة: هل ثمة أمر آخر غير الأصول الثلاثة المتقدمة – التوحيد، النبوة، المعاد – يكون للإيمان أو التصديق به موضوعية ومدخلية في صدق الانتساب والانتماء إلى الإسلام؟
ذهب جمع من فقهاء المسلمين 15 إلى إضافة أصل رابع، وهو الإيمان بضروريات الدين وبديهياته، معتبرين أنّ إنكار الضروري سبب مستقل للكفر، كما أنّ انكار النبوة أو التوحيد موجب للكفر، وعليه فمن أنكر وجوب الصلاة أو الصوم أو الحج أو الزكاة، أو أنكر حرمة الخمر أو القمار أو الزنا أو غيرها من ضروريات الإسلام العقدية أو الفقهية فهو كافر وخارج عن الدين.
ولكنّ جمعاً آخر من العلماء المحققين 16 ذهبوا إلى أنّ إنكار الضروري لا يشكّل في حد ذاته سبباً مستقلاً للكفر، وإنما يوجب الكفر والارتداد عن الإسلام إذا استلزم تكذيب النبي (ص) وإنكار رسالته، فيعود الأمر إلى إنكار الأصلين الأساسيين ( التوحيد والنبوّة)، فلو علم المسلم بوجوب الصلاة في الشريعة بشكل قطعيً وأنّ النبي (ص) جاء بذلك جزماً، ومع ذلك أنكر وجوبها ونفاها، فإنّه يكون في الحقيقة مكذباً لرسول الله (ص) ومنكراً لرسالته، ولذا يحكم بخروجه عن الإسلام، أما لو لم يستلزم إنكاره تكذيب النبي (ص) فلا يكفر، وعلى سبيل المثال: لو أنّ شخصاً في أوائل إسلامه سئل عن حكم الربا في الإسلام ؟ "فأنكر حرمته بزعم أنّه كسائر المعاملات الشرعية، فلا يكون ذلك موجباً لكفره وارتداده، وإن كانت حرمة الربا من المسلمات في الشريعة المقدسة، لعدم رجوع إنكاره إلى تكذيب النبي (ص) أو إنكار رسالته 17.
وهكذا لو أنّ مسلماً أنكر وجوب الحجاب في الإسلام لا من موقع تكذيب النبي (ص) أو الجحود بالقرآن الكريم، بل لشبهة معينة في قراءة النص أو فهم خاطئ لمضمونه، فلا يحكم بكفره وردته.
وهذا الرأي هو الأصح والأقرب لمضمون الآيات والروايات المتقدمة التي أستفدنا منها تقوّم الإسلام بالنطق بالشهادتين، ومما يزيد هذا الرأي وضوحاً أنّ عنوان منكر الضروري لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة، وإنما هو - على الأرجح – اصطلاح فقهي مُستفاد من مضمون بعض النصوص الروائية التي فهم بعض الفقهاء منها ذلك، وقد أدخلوا تحت هذا العنوان الكثير من الحالات والمصاديق التي حُكم فيها بالارتداد وسفك الدماء.
وأما المستند الذي اعتمد عليه القائلون بكفر منكر الضروري فهو بعض الوجوه والروايات التي هي محل نقاش سنداً ودلالة، وقد كفانا بعض الفقهاء مؤنة الرد عليها 18.
وإني أوجّه في هذا المقام دعوة صريحة إلى علماء المسلمين – سنة وشيعة – إلى دراسة موضوع إنكار الضروري برويّة وموضوعية، بعيداً عن سطوة السلف والمشهور، ليكون الدليل هو رائدهم والحق هو مستندهم وهدفهم، والذي أعتقده أنّ الدراسة الموضوعية لهذه المسألة ستقودنا ليس فقط إلى الاعتراف بحقيقة أنّه ليس هناك دليل يعتد به يقضي بتكفير منكر الضروري وإخراجه عن الدين، بل إلى اكتشاف أن الكثير من الضرورات المدعاة لا أصل لها وأنّها تشكّلت في مراحل زمنية متأخرة وبعيدة عن عصر النص، وذلك بسبب الجمود الذي أصاب علم الكلام، فإنّ مرور قرن أو أكثر على بعض المفاهيم العقائدية أو غيرها دون إعادة وضعها على طاولة البحث والنقاش سيجعلها في مصاف الضرورات.
وفي ضوء ما تقدّم من أنّ كفر منكر الضروري إنّما يحكم بكفره في حال كون إنكاره للضروري مستلزماً تكذيب الرسول (ص)، يمكن القول: إنّه لا خصوصية في ذلك لإنكار الضروري، بل إنّ ذلك يجري في كل ما ثبت كونه من الدين، سواء كان ضرورياً أو لم يكن كذلك، فيكفي في ترتيب أثر الإنكار كون المفهوم العقدي أو الحكم الشرعي ثابتاً بالحجة والدليل المعتبر عند المنكر.
وبملاحظة ما تقدم من أنّ إنكار الضروري ليس سبباً مستقلاُ للتكفير، يتضح أنّ ما ذهب إليه بعضهم 19 من إلحاق منكر الإجماع بمنكر الضروري لا وجه له ولا دليل عليه.
حكم مرتكب الكبيرة:
النقطة الرابعة: ثمّ لو أنّ المكلف لم يمتثل الواجبات ولم يأت العبادات ولم ينته عن المحرمات، دون أن ينكر وجوب هذه أو حرمة تلك، فإن ذلك لا يخرجه عن الإسلام، نعم إنّ عدم التزامه بالحدود الشرعية من الواجبات والمحرّمات يخرجه عن دائرة الإيمان لا الإسلام، باعتبار أنّ الإيمان أخص من الإسلام، كما يدل عليه قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (سورة الحجرات: آية14). وهكذا نجد أن روايات أهل البيت (ع) تميّز بين الإسلام والإيمان وترسم الحدّ الفاصل بينهما، فقد كتب عبد الرحيم القصير إلى أبي عبد الله (ع) يسأله عن الإيمان ما هو؟ فأجابه الإمام: "سألت رحمك الله عن الإيمان، والإيمان هو الإقرار باللسان وعقدٌ في القلب وعمل بالأركان... وقد يكون العبد مسلماً قبل أن يكون مؤمناً ولا يكون مؤمناً حتّى يكون مسلماً، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزّ وجل عنها كان خارجاً عن الإيمان ساقطاً عنه اسم الإيمان وثابتاً عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال، أن يقول للحلال: هذا حرام، وللحرام هذا حلال، ودان بذلك.." 20.
وقد غالت أول فرقة إسلامية تكفيرية وهي الخوارج في الحكم بتكفير معظم المسلمين وعلى رأسهم مرتكب الكبيرة، معتبرين أنّ العمل جزء من الإيمان والإسلام، ومن أخلّ به خرج عن دائرة الإسلام، خلافاً للمرجئة الذين أخروا العمل واكتفوا بالإيمان القلبي أو اللساني 21.
وفي مقابل إفراط أولئك وتفريط هؤلاء ذهب جمهور المسلمين إلى قول وسط، يرى أنّ الإيمان والإسلام متقومان بالتصديق القلبي والإقرار اللساني، أمّا العمل فهو مظهر من مظاهر الإيمان لا من مقوّماته، دون أن يعني ذلك أنّ التصديق القلبي الذي لا يترافق مع العمل كافٍ في النجاة من المحاسبة الأخروية، وإنما هو كافٍ في خروج الإنسان من الكفر.
وقد أفاض علماء الكلام في الرد على الخوارج ودحض حججهم التي هي على أحسن تقدير مجرد شبهات انطلقت من بعض الالتباسات في فهم نصوص معينة قد ورد فيها إطلاق كلمة الكفر أو الشرك على ارتكات بعض المحرمات، أو ترك بعض الواجبات، غافلين عن أنّ للشرك والكفر مراتب عديدة يلتقي بعضها مع الإسلام، كما سيأتي.
ومن أروع الردود على عقيدتهم هذه: ما جاء على لسان الإمام علي (ع) قال: "قد علمتم أنّ رسول الله (ص) رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله بذنوبهم وأقام حق الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله.." 22.
نعم لو ارتكب المرء المعصية الكبيرة مستحلاً لذلك، ومكذباً لرسول الله (ص) أو لكتاب الله الذي جاء بتحريمها فإنه يخرج حينذاك عن الإسلام لا لارتكابه الكبيرة، بل لتكذيبه لرسول الله (ص) أو لما ورد في كتاب الله، ومن هنا ورد في الحديث الصحيح عن أبي عبد الله الصادق (ع): عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت، هل يخرجه ذلك من الإسلام، وإن عُذِّب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدة انقطاع؟ فقال (ع): "من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذب أشد العذاب، وإن كان معترفاً أنه أذنب ومات عليه أخرجه من الإيمان، ولم يخرجه من الإسلام وكان عذابه أهون من عذاب الأول" 23.
وطبيعي أنّ عذاب هذا أو ذاك، إنّما هو في حال إصراره على التمرد على الله وعدم توبته، وأما مع توبته ورجوعه إلى الله تعالى، فإنّ ذلك كفيل في العفو عنه، وتشمله بكل تأكيد رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكان الله بكل شيء رحيماً.
1-راجع: مصباح الفقاهة: 1/246.
2-صحيح مسلم: 7/121.
3-الكافي: 2/26.
4-أنظر: صحيح مسلم ج 1 ص 67.
5-العروة الوثقى ج1 ص144.
6-راجع العروة الوثقى: 1/44 طبعة جماعة المدرسين.
7-راجع كتاب الطهارة:1/428-445.
8-الطهارة للإمام الخميني ج1/445.
9-النبوة: 76.
10-راجع في هذا الشأن: كتاب عمدة المطالب للسيد تقي القمي ج1 ص 188، فقد أفاد أنه لا دليل قرآني على كون المعاد أصلاً من الأصول، وكتاب الإحكام في علم الكلام للترحيني: ص 9، قال الأخير: "شاع عند الإمامية أنّ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد هو أصل الدين، والإمامة أصل من أصول المذهب لا الدين، والذي يقتضيه النظر أن أصول الدين أمران: التوحيد والنبوة الخاصة فقط، ويدل عليه – باإضافة إلى سيرة النبي الأعظم من قبول إسلام الشهادتين، الأخبار الكثيرة..".
11-التنقيح في شرح العروة: 2/59.
12-كما في سورة العصر.
13-راجع: البقرة: 83، النساء: 36، الأنعام: 151، الإسراء: 23.
14-الإلهيات للسبحاني المجلد 2/664 – منشورات المركز العالمي للدراسات قم 1411 هـ .
15-الرسائل العشر للشيخ الطوسي: ص317، شرائع الإسلام: ج1 ص 147، كشف اللثام: ج2 ص 409 وغيرها.
16-مجمع الفائدة والبرهان: ج3 ص199 حيث يقول: "إنّ دليل كفره – منكر الضرورة – إنكار الشريعة وإنكار صدق النبي (ص)".
17-التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الطهارة: ج2 ص60، تأليف الميرزا علي الغروي تقريراً لأبحاث المرجع السيد الخوئي.
18-راجع التنقيح: ج2 ص 61.
19-الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: ج9 ص 334.
20-الكافي: 2/26.
22-راجع الملل والنحل للسبحاني: ج5 ص 398- 399.
23-نهج البلاغة ص 184.
24-الكافي: ج 2 ص 217 الحديث 23 ونحوه الحديث رقم 10 من الباب نفسه.