في رحاب الرحمة الإلهية(3)
الشيخ حسين الخشن
إن حديثنا السابق عن أن رحمة الله سبحانه قضت بغفران صغائر الذنوب وتكفيرها في حق من اجتنب الكبائر، لا يعني أن الكبائر من الذنوب التي لا سبيل إلى تكفيرها والخروج من تبعاتها، فهناك أكثر من باب للتخلص من تبعات الذنوب الكبيرة، منها: باب التوبة الذي أسلفنا الحديث عنه، ومنها: باب الشفاعة وسيأتي.
غفران كافة الذنوب إلاّ الشرك:
ومن هذه الأبواب المرجوة إمكانية شمول عفو الله ومغفرته للعاصي، لأنه وإن كان مستحقاً للعقوبة، إلاّ أنّ إمكانية العفو تبقى واردة، وعلى الإنسان مهما بلغت ذنوبه أن يحسن الظن بربه ويثق برحمته الواسعة، ويطمأن إلى وعده بأنه يغفر كافة الذنوب إلا الشرك، قال تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النساء:50)، وقد جاء في الحديث القدسي: "ولكن برحمتي فليثقوا، وفضلي فليرجعوا إلى حسن الظن بي فليطمئنوا، فإن رحمتي عند ذلك تدركهم"(الكافي2/71).
إنّ الذنوب بأسرها بما فيها الكبائر قد تقع في محل عفو الله وصفحه، ولا يجوز أن ييأس العاصي من رحمة الله، فإنّ اليأس من أكبر الآثام ويُعبّر عن سوء الظن بالله، أجل إنه وفي الوقت الذي يحرم اليأس والقنوط من روح الله فإنه لا يجوز الأمن من مكر الله، بمعنى شعور العاصي بالاطمئنان والأمن من عذابه تعالى، فإن ذلك مدعاة لمزيد من الجرأة على الله والتمادي في معصيته، ولذا كان الأمن من مكر الله كما اليأس من روحه كبيرة من الكبائر، ففي الحديث عن عبد العظيم الحسني قال: حدثني أبو جعفر(ع) سمعت أبي يقول: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله(ع) فلما سلّم وجلس تلا هذه الآية {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} ثم أمسك، قال له أبو عبد الله(ع):" ما أسكتك؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله عز وجل، فقال(ع): "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، يقول الله: {إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة}(المائدة:72)، وبعده الأياس من روح الله، لأنّ الله عز وجل يقول: {إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون}(يوسف:88)، ثم الأمن لمكر الله، لأن الله عز وجل يقول: {فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون}(الأعراف:99)... (الكافي2/285).
وفي ضوء ذلك، فإنه يجدر بالمؤمن العاقل بل يتعيّن عليه أن يعيش دائماً بين الخوف والرجاء، فلا يصل خوفه إلى حد اليأس من روح الله، ولا يبلغ رجاؤه إلى حد الأمن من مكره تعالى، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع):" كان فيما أوصى به لقمان لابنه أن قال: "يا بني خفْ الله خوفاً لو جئته ببرّ الثقلين خفت أن يعذبك الله، وارج الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر الله لك"(الكافي ج2 ص67).
ولا يتوهمن متوهم أن الحديث عن غفران الذنوب بأجمعها سوف يجرّئ العباد على ارتكاب المعاصي أكثر فأكثر اتكاءً على سعة عفوه وعظيم مغفرته تعالى، والوجه في بطلان هذا التوهم: أنّ الحديث هنا هو عن إمكانية العفو لا حتميته، والعبد العاصي حيث أنه لا يستطيع أن يجزم أو يطمأن أنه أهلٌ لعفو الله إذا لم يتب إلى الله من ذنوبه ويعمل صالحاً فسوف لن يتجرأ على المعاصي إذا كان عاقلاً وحريصاً على حفظ نفسه من المهالك، ولذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع):" إرجُ الله رجاءً لا يجرّئك على معاصيه، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحته" (الأمالي للصدوح ص:65).
إن الرجاء الحقيقي لرحمة الله دافع للعمل وباعث نحوه ليس مثبطاً عنه. وتحجج بعض العصاة الذين يصرون على ارتكاب الذنوب بسعة عفو الله وعظيم رحمته هو من الأماني الشيطانية الكاذبة والمخادعة، في الحديث عن أبي عبد الله(ع) قال: "قلت له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون: نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني كذبوا، ليسوا براجين، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه"(الكافي2/68).
الشفاعة:
ومن أبواب الرحمة الإلهية: باب الشفاعة، وهو باب واسع يدخل من خلاله الكثير من الناس في رحمة الله ويشملهم عفوه وصفحة، ومبدأ الشفاعة مبدأ قرآني لا يشك فيه مسلم وهو تعبير عن كرامة اختص الله بها بعض أوليائه فأعطاهم حق الشفاعة في العصاة والمذنبين وفق ضوابط معينة عبّرت عنها الآية القرآنية بجملة مختصرة:{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}(الأنبياء:28).
ولسنا هنا بصدد الحديث التفصيلي عن حقيقة الشفاعة وشروطها وضوابطها، ولكننا نكتفي بالتنبيه على أمرين دالين يؤشران على عظيم الرحمة الإلهية التي فتحها الله لعباده من خلال باب الشفاعة.
من هم الشفعاء؟
الأمر الأول: يتصل بمعرفة من هم الشفعاء؟ والمستفاد من النصوص المستفيضة أن الأشخاص الذين يكرمهم الله يوم القيامة ويمنحهم الإذن في الشفاعة هم أصناف عديدة من عبادة المخلصين، وعلى رأسهم: الأنبياء ثم الأوصياء ثم الشهداء، ففي الحديث الموثق عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي(ع) قال: قال رسول الله(ص): "ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجلّ فيُشّفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء"(الخصال للصدوق ص:156).
ويدخل في عداد الشفعاء أيضاً الطفل الصغير وكذا السقط أيضاً، فإنه يشفع لأبويه فيدخلهما الجنة، ففي الحديث عن رسول الله(ص):" إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المؤمنين: أن أخرجوا من قبوركم فيخرجون من قبورهم، ثم ينادي فيهم: أن أمضوا إلى الجنة زمراً، فيقولون: ربنا ووالدينا معنا؟ ثم ينادى فيها ثانية: أمضوا إلى الجنة زمراً، فيقولون: ربنا ووالدينا معنا؟ فيقول في الرابعة: ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم فيدخلون بهم إلى الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم ـ يومئذ ـ من أولادكم الذين في بيوتكم"(لا مسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص34).
وفي الخبر الصحيح عن أبي عبد الله(ع): "... أما علمتم أني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى السقط يظل مُحْبَنْطِئاً (غاضباً) على باب الجنة، فيقول الله عز وجل:أدخلْ الجنة، فيقول: لا أدخل حتى يدخل أبو أي قبلي، فيقول الله تبارك وتعالى لملك من الملائكة: أيْتِني بأبويه فيأمر بهما إلى الجنة فيقول: هذا بفضل رحمتي لك"(الكافي5/334).
ويدخل في الشفعاء أيضاً المؤمن، فإنه يشفع لأهله كما في بعض الروايات(الحماس1/8184)، أو يشفع لحميمه، كما في رواية أخرى (ثواب الأعمال211)، وفي نصوص أخرى أنّه يشفع لأكثر من ربيعة ومضر، وهما قبيلتان كبيرتان(كنز العمال14/640)، إلى غير ذلك من النصوص.
لمن يشفعون؟
والأمر الثاني الذي يؤشر على سعة رحمة الله بعباده من خلال الشفاعة هو ملاحظة دائرة الأشخاص الذين تنالهم الشفاعة، فإنها دائرة كبيرة جداً ربما تضم غالبية العصاة بمن فيهم مرتكبو الكبائر، وقد اشتهر عن النبي(ص) قوله: "ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة وهي ما رواه الحسين بن خالد عن الرضا(ع) عن آبائه عن علي(ع) قال: قال رسول الله(ص): "من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثم قال: إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد، فقلت للرضا: يا ابن رسول الله(ص): فما معنى قول الله عز وجل:{ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى}؟ قال:" لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى الله دينه" عيون أخبار الرضا(ع) ج2 ص:125).