نظرة فقهية في صلاة الرغائب
الشيخ حسين الخشن
شاع في أوساط المؤمنين في الآونة الأخيرة الاهتمام بصلاة خاصة تعرف بصلاة الرغائب يؤتى بها في ليلة الجمعة الأولى من شهر رجب، ويعمد الكثير من المؤمنين إلى الاجتماع لها في المساجد ويؤدونها سوية على نحو المتابعة لا الجماعة، باعتبار أنّ النوافل لا تشرع فيها الجماعة، إلاّ أنّ عمليّة البحث العلمي والمتابعة الدقيقة بشأن هذه الصلاة توصل إلى قناعة مفادها: إنّها من الصلوات التي لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، بل إنّ الراجح رجحاناً قوياً كونها من الموضوعات المكذوبة على لسان رسول الله (ص).
وهذا البحث يتكفل – بعون الله - بدراسة هذه المسألة بشيء من التفصيل، وذلك وفق العناوين التالية:
-
لماذا هذا البحث؟
-
نظرة تاريخية.
-
التعريف بالصلاة وكيفيتها
-
المستند الروائي لهذه الصلاة
-
سند الرواية في ميزان علم الرجال
-
موقف فقهاء الفريقين من صلاة الرغائب
-
تقييم وتحقيق.
لماذا هذا البحث؟
وربما يتساءل البعض لماذا هذا البحث؟ وما الغرض من إثارة هذا الموضوع؟ فلنترك الناس تعبد الله وتصلي له بهذه الصلاة أو غيرها! فلماذا تصدّون الناس عن عبادة الله بدل أن تنهوهم عن فعل المنكرات المنتشرة فيما بينهم !؟ هكذا قال لي بعض الناس، وأضاف آخرون: ما الضير في أن يصلي الناس لله تعالى ونحن أحوج ما نكون إلى اللجوء إلى الله تعالى والتزود روحياً ومعنوياً ؟
والحقيقة أنّني في الأساس لم أكن بصدد كتابة بحث حول هذه الصلاة، وإنّما ألقيت محاضرة في هذا الشأن على طلاب الحوزة العلمية في بيروت، وتمّ نشرها على بعض المواقع الالكترونية، وبسبب ردود الأفعال المتفاوتة إزاء هذا البحث ودفعاً لبعض الشبهات التي وقع فيها البعض ارتأيت التوسع قليلاً في الموضوع عسى أن يكون نافعاً ومفيداً بعون الله وتسديده، لا أريد من خلال هذا الكلام التقليل من أهمية هذا البحث وأمثاله، كلا فكل بحث يتصل بتصحيح الأخطاء والممارسات التي يقع فيها البعض هو بحث له أهميته الخاصة.
بالعودة إلى الأسئلة المشار إليها والتي تطالبنا بتقديم مبرر لهذا البحث وتسألنا عن جدواه فإننا نقول بأن هذه القضية المطروحة للبحث وأمثالها تتصل بمسألة تشريعية حساسة، وهي مسألة التشريع الذي هو حق من حقوق الله تعالى، والذي قد يتم تجاوزه من قبل بعض المؤمنين من دون قصد، لأنّ ثمة خيطاً رفيعاً - في بعض الأحيان - بين السنة والبدعة.
ومع اتضاح ذلك فإننا نقول: إنّه غير خافٍ على أهل العلم والفضل وعامة المؤمنين أنّ الصلاة عبادة، وأنّ العبادات أمور توقيفية وتحتاج إلى نصٍ يثبت شرعيتها، وإلاّ كان الإتيان بها ابتداعاً في دين الله، وهو محرّم بالإجماع، لأنّ التشريع بيد الله دون سواه، {آلله أذن لكم أم على الله تفترون} (يونس: 59)، ومن هنا ورد النهي في الأحاديث المعتبرة عن أنواع متعددة من الصلوات التي لم يرد فيها أمر شرعي، وذلك من قبيل "صلاة الضحى" التي وصفتها الروايات الصحيحة الواردة عن الأئمة (ع) بالبدعة وغبرها من الصلوات.
والوجه في هذا النهي هو - بالإضافة إلى ما أسلفناه عن أنّ التشريع هو حق الله - أنّ فتح هذا الباب سيؤدي إلى نوع من الفوضى على هذا الصعيد، إذ من الممكن حينها أن يعمد كل مكلف إلى صلاة معينة وأن يعبد الله بالطريقة التي تحلو له، مع أنّ الله تعالى – بحسب الظاهر والمستفاد مما ورد في النهي عن ابتداع عبادات خاصة - أراد لنا أن نعبده كما يحب وكما أراد وخطط ، لا كما نريد نحن أو نحب، فهو أعلم بنا وبمصالحنا وما ينفعنا أو يضرنا.
على أنّه لا مبرر إطلاقاً لأن نبتدع نحن صلوات خاصة، فإنّ الله تعالى قد نظّم لنا برنامجاً عبادياً متكاملاً يكفل سمونا الروحي والمعنوي ولم يترك فراغا أو نقصا لنأتي نحن ونملأه، والبرنامج العبادي الذي أعده الله على صعيد الصلوات يتمثل بنوعين من الصلوات: الصلاة المفروضة على اختلافها من يومية أو غيرها ، والصلوات المندوبة الليلية أو النهارية أو التي تؤدى في مناسبات شتى. ولمن أراد الاستزادة من العبادة الصلاتية، فقد فتح الله له باباً عاماً يتمثل بالصلاة المندوبة والتي تؤدى في كل زمان أو مكان، على قاعدة "أنّ الصلاة خير موضوع، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر" كما ورد في بعض الأخبار.
ولو أراد المكلف الإتيان بهذه الصلاة المندوبة والتي ثبت استحبابها بالعنوان العام في وقت معين كالصباح مثلاً أو مكان خاص، كالمسجد مثلاً، فلا محذور في ذلك إطلاقاً، لكن شريطة أن لا ينسب تلك الخصوصية إلى الشريعة، لأنّها نسبة بغير دليل وهي توقع صاحبها في التشريع المحرّم. وهنا يظهر الخيط الرفيع بين الامتثال بالسنة والارتطام بالبدعة، فأي صلاة يراد الإتيان بها بكيفية خاصة أو زمان أو مكان خاصين مع نسبة الكيفية إلى الشرع الحنيف فإنها تحتاج إلى نص خاص في المسألة يصحح تلك النسبة، وإلا كانت بدعة محرمة، ويقع صاحبها في الحرام في الوقت الذي يريد هو عبادة الله.
نظرة تاريخية
تكشف المتابعة التاريخية أنّ بدء ظهور هذه الصلاة ( صلاة الرغائب) كان في القرن الثالث حيث "اختلق بعض الكذابين حديثاً في فضلها، ثم اشتهر في القرن الرابع.."، وقد شاعت في أوساط المسلمين من أهل السنة في القرنين الرابع والخامس الهجريين واستحكمت في نفوس العامة منهم، وربما أفتى باستحبابها بعض علمائهم، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أدرك فقهاؤهم بدعيّة هذه الصلاة واتهموا بعض الصوفية بوضعها، وعملوا على مواجهتها بشتى السبل، مستعينين على ذلك بأجهزة السلطة الحاكمة، لتنحسر عندهم مع مرور الوقت، ولم يعد – بحسب الظاهر- يفتي بجوازها أحد منهم، بل لم تعد تصلى حتى من قبل عوامهم في زماننا هذا وما سبقه.
والغريب في الأمر أنّ هذه الصلاة وبعد أن انحسرت في الأوساط السنية وواجهها علماء السنة وحكموا بكونها بدعة، وتركها العامة والخاصة منهم، فإذا بها تتسرب بطريقة أو بأخرى إلى أوساط الشيعة دون أن يكون لها مصدر يعوّل عليه في كتبهم الحديثيّة ! ويلاحظ أنّها قد اكتسبت في السنوات الأخيرة أهمية خاصة واحتلت مكانة راسخة في النفوس، وازداد الإقبال عليها عاماً بعد عام، ولا سيّما بعد أن تمّ الترويج لها والدعوة إلى إحيائها في المساجد من خلال وسائل الإعلام، ونقدر بأنّ هذا التسرب هو إحدى النتائج الطبيعية للتوسع الكبير في تطبيق قاعدة التسامح في أدلة السننن.
صلاة الرغائب التعريف والكيفية:
الرغائب أي ما يرغب فيه، وهي لغةً بمعنى العطاء الكثير واحدها رغيبة، وأمّا اصطلاحاً فهي ما رغّب فيه الشارع وأثاب عليه بالثواب العظيم، وقال بعضهم: "هي ما داوم الرسول(ص) على فعله بصفة النوافل، أو رغّب فيه بقوله: مَنْ فَعَلَ كذا فله كذا ، قال الحطاب: "لا خلاف أنّ أعلى المندوبات يسمى سنة، وسمى ابن رشد النوع الثاني رغائب، وسماه المازري فضائل، وسموا النوع الثالث من المندوبات نوافل، والرغائب عند الفقهاء: صلاة بصفة خاصة تُفعل أول رجب أو في منتصف شعبان".
كيفية الصلاة:
وكيفية هذه الصلاة - على ما تنص عليه الرواية الآتية والتي شكلت مستنداً لهذه الصلاة - أن يصوم المكلف يوم الخميس الأول من رجب، ثم يصلي ما بين المغرب والعشاء اثنتي عشر ركعة يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرّة و"إنا أنزلناه في ليلة القدر" ثلاث مرات و"قل هو الله أحد" اثنتي عشر مرة، فإذا فرغ من الصلاة صلى على النبي(ص) سبعين مرة يقول: "اللهم صل على محمد النبي(ص) الأمي وعلى آله"، ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة: "سبوّح قدوس رب الملائكة والروح"، ثم يرفع رأسه ويقول: "رب اغفروارحم وتجاوز عما تعلم إنّك أنت العلي الأعظم"، ثم يسجد سجدة أخرى فيقول فيها مثل ما قال في الأولى ويسأل حاجته فإنها تقضى انشاء الله".
المستند الروائي لهذه الصلاة:
وفيما يلي نلقي نظرة على المستند الروائي لصلاة الرغائب، ونبدأ بمصادر السنة، لأنّها - باعتقادنا- الأصل لهذه الصلاة، ثم نلاحظ بعد ذلك ما جاء في مصادر الحديث الشيعية.
الصلاة في مصادر السنة
لم ترد هذه الصلاة بكيفيتها المشار إليها في المصادر الحديثية المعتبرة لدى المسلمين السنة، وإنّما أوردها البعض من متأخريهم في كتب الأعمال العبادية أو في الكتب المعدة لذكر الموضوعات، وإليك الرواية كما جاءت في موضوعات ابن الجوزي:
"أنبأنا علي بن عبيد الله بن الزاغوني أنبأنا أبو زيد عبد الله بن عبد الملك الأصفهاني أنبأنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن مندة ح وأنبأنا محمد بن ناصر الحافظ أنبأنا أبو القاسم بن مندة أنبأنا أبو الحصين علي بن عبد الله ابن جهيم الصوفي حدثنا علي بن محمد بن سعيد البصري حدثنا أبي حدثنا خلف ابن عبد الله وهو الصغاني عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي. قيل: يا رسول الله ما معنى قولك: رجب شهر الله؟ قال: لأنّه مخصوص بالمغفرة، وفيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله على أنبيائه، وفيه أنقذ أولياءه من يد أعدائه من صامه استوجب على الله تعالى ثلاثة أشياء: مغفرة لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمة فيما بقي من عمره، وأماناً من العطش يوم العرض الأكبر. فقام شيخ ضعيف فقال: يا رسول الله إني لأعجز عن صيامه كله، فقال صلى الله عليه وسلم: أول يوم منه، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وأوسط يوم منه، وآخر يوم منه، فإنك تعطى ثواب من صامه كله، لكن لا تغفلوا عن أول ليلة في رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة الرغائب، وذلك أنه إذا مضى بك الليل لا يبقى ملك مقرب في جميع السماوات والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، فيطلع الله عز وجل عليهم إطلاعة فيقول: ملائكتي سلوني ما شئتم، فيقولون يا ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوام رجب، فيقول الله عز وجل: قد فعلت ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس في رجب، ثم يصلى فيما بين العشاء والعتمة، يعني ليلة الجمعة، إثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وإنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاث مرات، وقل هو الله أحد اثنتى عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى عليّ سبعين مرة، ثم يقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله، ثم يسجد فيقول في سجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة، ثم يرفع رأسه فيقول: رب اغفر لي وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت العزيز الأعظم سبعين مرة، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى حاجته، فإنها تقضى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله تعالى له جميع ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وعدد ورق الأشجار، وشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته، فإذا كان في أول ليلة في قبره جاءه بواب هذه الصلاة، فيجيبه بوجه طلق ولسان ذلق، فيقول له: حبيبي أبشر فقد نجوت من كل شدة، فيقول: من أنت فوالله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك، ولا سمعت كلاما أحلى من كلامك، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك، فيقول له: يا حبيبي أنا ثواب الصلاة التي صليتها في ليلة كذا في شهر كذا، جئت الليلة لأقضي حقك، وأونس وحدتك، وأرفع عنك وحشتك، فإذا نفخ في الصور أظللت في عرصة القيامة على رأسك، وأبشر فلن تعدم الخير من مولاك أبداً" ولفظ الحديث لمحمد بن ناصر.
الصلاة في مصادر الشيعة
يبدو أن المصدر الشيعي الأول الذي ورد فيه الحديث عن صلاة الرغائب هو كتاب "إقبال الأعمال" للسيد ابن طاووس، وذلك في أعمال شهر رجب تحت عنوان "في ما نذكره من عمل أول جمعة من شهر رجب"، قال: "واعلم أن مقتضى الاحتياط للعبادة وطلب الظفر بالسعادة اقتضى أن نذكر عمل هذه الليلة .."
والمصدر الآخر الذي جاء ذكر هذه الصلاة فيه هو إجازة العلامة الحلي لبني زهرة الحلبيين، وأما قبل العلامة وابن طاووس فلم نجد لهذه الصلاة عيناً ول أثر في مصادر الشيعة الحديثية أو الفقهية أو غيرها.
ويلاحظ أنّ الرواية بشأن هذه الصلاة جاءت في كتاب الإقبال مرسلة وفي إجازة العلامة لبني زهرة مسندة، وسنذكر السند وندرسه، ثم إنها تسّربت من السيد ابن طاووس والعلامة الحلي إلى الكتب الحديثيّة المتأخرة وكذلك كتب الأدعية ونحوها وفيما يلي نذكر الرواية كما جاءت في ذينك المصدرين، عنيت بهما كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس وإجازة العلامة لبني زهرة.
1- ونبدأ بما رواه العلامة - ره - في إجازته الكبيرة لبني زهرة الحلبيين، فقد روى رحمه الله عن الحسن بن الدربي، عن الحاج صالح مسعود بن محمد وأبي الفضل الرازي المجاور بمشهد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قرأها عليه في محرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة عن الشيخ علي بن عبد الجليل الرازي عن شرف الدين الحسن بن علي، عن سديد الدين علي بن الحسن عن عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري، عن الحسين بن علي، عن الحاج مسموسم عن أبي الفتح نورخان عبد الواحد الأصفهاني، عن عبد الواحد بن راشد الشيرازي، عن أبي الحسن الهمداني عن علي بن محمد بن سعيد البصري، عن أبيه، عن خلف بن عبد الله الصنعاني، عن حميد الطوسي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ... ما معنى قولك: رجب شهر الله؟ قال: إنه مخصوص بالمغفرة، فيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله على أوليائه وفيه أنقدهم من نزاعه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من صامه كله استوجب على الله ثلاثة أشياء: مغفرة لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمة فيما يبقى من عمره، وأمانا من العطش يوم الفزع الأكبر. فقام شيخ ضعيف فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إني عاجز عن صيامه كله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: صم أول يوم منه، فانّ الحسنة بعشر أمثالها وأوسط يوم منه وآخر يوم منه ، فإنك تعطى ثواب صيامه كله، ولكن لا تغفلوا عن ليلة أول خميس منه، فإنّها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب، وذلك أنه إذا مضى ثلث الليل لم يبق ملك في السماوات والأرض إلّا ويجتمعون في الكعبة وحواليها ويطلع الله عليهم اطلاعة فيقول لهم: يا ملائكتي سلوني ما شئتم فيقولون: ربنا حاجاتنا إليك أن تغفر لصوام رجب، فيقول الله عز وجل قد فعلت ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس من رجب ثم يصلي ما بين العشائين والعتمة اثنا عشر ركعة يفصل بين كل ركعتين بتسليم يقرء في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة واحدة وإنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاث مرات و قل هو الله أحد اثنا عشر مرة، فإذا فرغ من صلاته صلى علي سبعين مرة، ويقول "اللهم صل على محمد وعلى آله " ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت العلي الأعظم، ثم يسجد سجدة أخرى فيقول فيها ما قال في الأولى ثم يسئل الله حاجته في سجوده ، فإنها تقضى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: والذي نفسي بيده لا يصلي عبد أو أمة هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه، ولو كان ذنوبه مثل زبد البحر وعدد الرمل ووزان الجبال وعدد ورق الأشجار ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار، فإذا كان أول ليلة في قبره بعث الله إليه ثواب هذه الصلاة في أحسن صورة فيجيئه بوجه طلق ولسان ذلق فيقول: يا حبيبي أبشر فقد نجوت من كل سوء فيقول: من أنت فوالله ما رأيت وجها أحسن من وجهك، ولا سمعت كلاما أحسن من كلامك، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك، فيقول: يا حبيبي أنا ثواب تلك الصلاة التي صليتها في ليلة كذا من شهر كذا في سنة كذا، جئتك هذه الليلة لأقضي حقك وأونس وحدتك، وأرفع وحشتك، فإذا نفخ في الصور ظللت في عرصة القيمة (القيامة) على رأسك، فأبشر فلن تعدم الخير أبدا".
2 - إقبال الأعمال: وجدنا في كتب العبادات مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله ونقلته أنا من بعض كتب أصحابنا رحمهم الله فقال في جملة الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله في ذكر فضل شهر رجب ما هذا لفظه: لكن لا تغفلوا عن أول ليلة جمعة منه فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب وساق الحديث إلى آخره إلا أنه قال: فإذا فرغ من صلاته صلى علي سبعين مرة يقول: "اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله"، ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. ثم يرفع رأسه ويقول: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت العلي الأعظم، ثم يسجد سجدة أخرى فيقول فيها مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله حاجته.
رواية أم إثنتان
ويواجهنا في المقام سؤالان أساسيان:
الأول: هل إنّ للرواية مصدرين، أحدهما شيعي والآخر سني، أم إنّها تعود إلى مصدر واحد؟
الثاني: هل إنّ للرواية في المصادر الشيعية طريقين: أحدهما طريق السيد ابن طاووس، والآخر طريق العلامة في إجازته لبني زهرة، أم أنّ الطريقين ينتهيان إلى سند واحد ورواة معنيين؟
أما فيما يرتبط بالسؤال الأول، فإنّ المتابعة تفيد بأن هذه الصلاة لها مصدر واحد وهو في الأساس كتب السنة، ومنها تسربت إلى بعض كتب الشيعة بحكم الغفلة أوالتسامح في أدلة السنن، ومما يؤكد ما نقوله ويشهد له بشكل واضح وجلي وحاسم أنّ سند الرواية التي رواها العلامة ينتهي إلى الرواة أنفسهم الذين رووا الرواية المذكورة عند السنة، وهم عدة رجال ابتداءً من عبد العزيز بن راشد بندار الشيرازي ومن يأتي قبله في سلسلة السند وصولاً إلى أنس بن مالك، ففي هذه السلسلة من سند الرواية تلتقي الروايات الواردة في مصادر السنة مع الرواية الواردة في مصادر الشيعة.
وليس للرواية أي سند آخر لدى الشيعة ينتهي إلى الأئمة (ع)، ومنه إلى رسول الله (ص) كما هي العادة في رواياتهم المنتهية إلى النبي(ص).
وحديثنا عن أنّ الأصل في الرواية هم أهل السنة أو بعضهم، إنما نهدف منه إلى حصر مصدر الرواية، ليتسنى لنا بعد ذلك دراسة هذا المصدر وتقييمه، ولا نهدف من خلاله إلى الطعن بالرواية بهذا الاعتبار، لأنّ روايات أهل السنة قد لا يكون ثمة مانع من الأخذ بها، كما لو حصل الوثوق بصدورها عن النبي (ص)، كما أنّ المعلوم أنّ كون الراوي غير شيعي لا يشكل سبباً في رفض روايته، ولذا انتشر في كتب الفقه الشيعية الاستدلال ببعض الأخبار المروية من طرق أهل السنة، وقد بحثنا ذلك في مجال آخر، وقد عُرف عن الشيعة أخذهم بروايات الكثير من الثقاة من العامة أو الفطحية أو الواقفية أو الزيدية.
أما فيما يرتبط بالسؤال الثاني، فالذي يظهر لنا ونرجّحه أنّ الرواية عند الشيعة ليس لها إلاّ سند واحد وهو الذي ذكره العلامة في إجازته لبني زهرة وهو الذي يلتقي بالسند المذكور عند السنة كما بيّنا، وذلك لأن ابنّ طاووس أوردها مرسلة في الإقبال ولم يذكر لها سنداً، والشواهد ترجّح أن لا يكون له سند آخر غير الذي نقله العلامة، والوجه في ذلك:
أولاً: ونوضح هذا الوجه من خلال النقاط التالية:
أ- إنّ العلامة رواها عن الحسن بن علي الدربي، وهو شيخ السيد ابن طاووس،وقد قال عنه في الدروع الواقية: "وأخبرني الشيخ الزاهد حسن بن الدربي فيما أجازه لي من كل ما رواه أو سمعه أو أنشأه أو قرأه. والدربي من أجلاء علمائنا، فقد وصفه الشيخ الشهيد في الأربعين حديثاً بقوله: "الإمام تاج الدين الحسن الدربي. وقال عنه الميرزا عبد الله الأفندي: "من أجلّة العلماء وقدوة الفقهاء ومن مشايخ المحقق والسيد رضي الدين". وقد روى في فرحة الغري كثيراً عن عمه السيّد رضى الدين بن طاووس عن الحسن الدربي".
ب- إنّ العلامة لا يروي عن الدربي مباشرة، وإنّما يروي عنه بواسطة السيد ابن طاووس. ما يرجح أنّ العلامة قد روى هذه الرواية عن السيد ابن طاووس عن الدربي.
ج- وإذا كانت الرواية مروية عن ابن طاووس عن الدربي، فهذا يؤشر بشكل واضح على أنّ ما أرسله السيد ابن طاووس ليس رواية أخرى بسند آخر مغاير لما رواه عنه العلامة، بل الظاهر أنّه أخذ الرواية عن أستاذه وشيخه الحسن بن علي الدربي وهو بدوره رواها بالسند الذي يلتقي مع سند الرواية المروية في مصادر السنة كما قلنا، ومعلوم أن الدربي هذا هو ممن روى أحاديث السنة وكتبهم وصحاحهم، ومنها صحيح البخاري، وقد رواه عنه السيد ابن طاووس.
ثانياً: إنّ عبارة السيّد ابن طاووس في الإقبال تصلح مُؤشراً إلى أنّ مصدر الرواية هم العامة، لأنّه يقول بشأن هذه الصلاة: "وجدنا في كتب العبادة مروياً عن النبي (ص) ونقلته أنا من بعض كتب أصحابنا رحمهم الله .."، فإنّ تأكيده في هذه العبارة على أنّه نقله من بعض كتب أصحابنا والتي ذكرها عقيب قوله: "وجدنا في كتب العبادة" يوحي بأنّ كتب العبادة المشار إليها ليست لأصحابنا، مما يشهد لكون الرواية التي رواها العلامة هي نفس الرواية العامية.
ثالثاً: إنّ السيد أرسل الرواية إلى النبي (ص) ولم يشر إلى وجودها في مصادرنا، ولا شك أنّ وحدة المتن والمضمون بين روايته والرواية العامية، مع كون المروي عنه واحد، وهو النبي (ص) هو شاهد على وحدة الرواية ووحدة المصدر، وليس هو إلّا كتب بعض العامة، وذلك بسبب خلو كتب العبادة الشيعية من أي ذكر لهذه الصلاة.
رابعاً: إنّ المتأمل في الصلوات التي ذكرها السيد في أعمال رجب وشعبان يدرك أنّ هذه الصلوات أيضاً لا أصل لها في كتب الشيعة، وإنّما هي مأخوذة من مصادر العامة، كما نبه على ذلك المحقق التستري ( صاحب قاموس الرجال) والذي جزم بما ذكرناه، من أنّ أصل الرواية الواردة في شأن صلاة الرغائب هم بعض العامة، فقد قال رحمه الله: "وكذلك صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب رواه في الإقبال مرسلاً عن النبي (ص) وقد ذكر العلامة في إجازته لبني زهرة سنداً عامياً لها، وكذلك ما رواه الإقبال في كل ليلة من شعبان وفي بعض أيامه مرفوعاً عن النبي (ص) لا عبرة بها لكون الأصل في روايتها العامة".
سند الرواية في ميزان علم الرجال:
وبعد أن تبيّن أنّ للرواية سنداً واحداً، وهو الذي ذكره العلامة، وهو الذي يلتقي في معظمه برجالات ترجم لها أهل الجرح والتعديل من أهل السنة، فعلينا أن ندرس هذا السند دراسة رجالية وافية لنتعرّف على رجالاته ومدى وثاقتهم.
وبداية لا بد لنا أن نذكر هذا السند طبقاً لما جاء في إجازة العلامة لبني زهرة، يقول رحمه الله :"ومن ذلك ذكر صلاة الرغائب، روى صفتها الحسن بن الدربي، عن الحاج صالح مسعود بن محمد بن أبي الفضل الرازي المجاور بمشهد مولانا أمير المؤمنين(ع) كان قرأها عليه في محرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، قال: أخبرني الشيخ زين الدين ضياء الإسلام أبو الحسن علي بن عبد الجليل العياضي (البياضي) الرازي ببلد الري في أول شهر رجب من سنة أربع وأربعين وخمسمائة، قال: أخبرني شرف الدين المنتجب بن الحسن بن علي الحسني قال: أخبرني سديد الدين أبو الحسن علي بن الحسن الجاسبي، قال: أخبرنا المفيد عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري الخزاعي بالري، قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن علي، عن الحاج سموسم (مسموسم) قال: حدثنا أبو الفتح بن رجاء بن عبد الواحد الأصفهاني، قال: حدثنا أبو القاسم عبد العزيز بن راشد بندار الشيرازي، قال: حدثنا أبو الحسن الهمداني: قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد البصري، قال: حدثني أبي، قال : حدثني خلف بن عبد الله الصنعاني، قال: حدثني حميد الطوسي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله(ص)...
ويمكن تصنيف هذا السند إلى ثلاثة أصناف من الرواة:
رواة الشيعة وعلماؤهم، وهم فيما عدا العلامة وابن طاووس ستة أشخاص يبتدؤون بالحسن الدربي وصولاً إلى عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري، وعدد هؤلاء ستة رجال.
رواة مجهولون، وهما شخصان، أحدهما: "مسموسم" أو "سمسوسم"، والثاني هو "أبو الفتح بن رجاء (أبو نورخان) بن عبد الواحد الأصفهاني"، وهذان الرجلان المجهولان اللذان لم يذكرها أحد من علماء الرجال هما اللذان تمّ بواسطتهها انتقال الرواية إلى الفضاء الشيعي، وبعبارة أخرى: إنّه من خلالهما تمّ وصل السند "الشيعي" بالسند "السني".
رواة وشخصيات معروفة في أسانيد السنة ومترجمة في مصادرهم، ويبدأ هؤلاء بـ عبد العزيز بن راشد بندار الشيرازي وصولاً إلى أنس بن مالك، وعدد هؤلاء سبعة أشخاص.
نقد السند
وهذا استعراض سريع لحال هؤلاء الرواة جميعاً:
الحسن بن الدربي، هو الحسن بن علي الدربي عالم جليل القدر من مشايخ المحقق والسيد ابن طاووس.
الحاج الصالح مسعود بن محمد بن الفضل الرازي، قال الحر العاملي : "فقيه صالح، قاله منتجب الدين".
ضياء الإسلام أبو الحسن علي بن عبد الجليل العياضي (البياضي )الرازي ذكر الحر العاملي في وصفه وشرح حاله:" المتكلم نزيل دار النقابة بالري، ورعٌ مناظر، له تصانيف في الأصول، منها: الاعتصام في علم الكلام، ومسائل المعدوم والأحوال، شاهدته وقرأت بعضها ، قاله منتجب الدين".
شرف الدين المنتجب بن الحسن بن علي الحسني السروي، قال الحرالعاملي:" فقيه فاضل: قرأ على الشيخ المحقق رشيد الدين الجليل الرازي.
سديد الدين أبو الحسن علي بن الحسن الجاسبي ، طبّقه محقق البحار على الشيخ أبو القاسم علي بن الحسين الجاستي (وفي نسخة الجاسبي) والذي ترجمه الحر العاملي ووصفه بالفقيه الديّن، ونقل عن الشيخ منتجب الدين أنّه "صالح فاضل حافظ ثقة رأى الشيخ أبا علي الطوسي والجد (أي جد منتجب الدين) شمس الدين حسكا بن بابويه".
الشيخ المفيد عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري الخزاعي، ذكر الحر العاملي بشأنه: "شيخ الأصحاب بالري حافظ واعظ ثقة، سافر في البلاد شرقاً وغرباً وسمع الأحاديث عن المؤالف والمخالف وله تصانيف ... وقد قرأ على السيدين علم الهدى المرتضى وأخيه الرضي والشيخ أبي جعفر الطوسي والمشايخ سالار وابن البراج والكراجكي رحمهم الله قاله منتجب الدين".
الحاج "سموسم"، هكذا ورد اسمه في موضع من بحار الأنوار أو "مسموسم" كما ورد في محل آخر عند ذكر رواية صلاة الرغائب نفسها، وهو اسم مجهول لم نعثر له على ترجمة في كتب الرجال والتراجم عند الفريقين.
أبو الفتح بن رجاء بن عبد الواحد الأصفهاني، وهو رجل مجهول بحسب الظاهر، ولم يتسنَّ لنا التعرف عليه برغم التتبع.
أبو القاسم عبد العزيز بن راشد بندار الشيرازي، هذا الاسم موجود في أسانيد السنة، حدّث بمكة.
أبو الحسن الهمداني، هو علي بن جهضم ( جهيم ) ( ت 414هـ )، وعند ابن جهضم هذا وإلى نهاية السند سوف يلتقى سند الرواية الشيعية التي رواها العلامة في إجازته لبني زهرة مع الرواية السنية التي رواها ابن الجوزي في الموضوعات، وأما عن حال ابن جهضم مؤلف كتاب "بهجة الأسرار" هذا فيقول في تاريخ مدينة دمشق: "علي بن عبد الله بن الحسن بن جهضم بن سعيد أبو الحسن الهمداني الجبلي نسبة إلى الجبل، لأنّ همدان من الجبل، وهو صوفي نزيل مكة، رواياته كلها من سنخ الغرائب، وينقل أنه روى عن بعض الأشخاص أحاديث منكرة، وقد حدّث بكتابه بهجة الأسرار في القدس"، ويقول الذهبي عنه: "الشيخ الإمام الكبير شيخ الصوفية بالحرم أبو الحسن علي بن عبد الله مصنف بهجة الأسرار .. وليس بثقة، بل متهم، يأتي بمصائب، قال ابن خيرون: قيل إنه يكذب"، وفي ميزان الاعتدال: "متهم بوضع الحديث.. قال ابن خيرون: تُكلِّم فيه، قال: وقيل إنه يكذب، وقال غيره: اتهموه بوضع صلاة الرغائب"، وقال ابن حجر: متهم بالكذب.
أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد البصري مجهول، قال في لسان الميزان بـ أنّه: "شيخ لعلي بن جهضم، روى عن ابن جهضم عنه عن أبيه عن خلف بن عبد الله الصنعاني عن حميد عن أنس رضي الله عنه ذكر "صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من رجب"، أخرجه أبو موسى المديني في "وظائف الليالي والأيام" وابن الجوزي في الموضوعات، قال أبو موسى: "غريب لا أعلم أنّي كتبته إلاّ من رواية ابن جهضم، ورجاله غير معروفين إلى حميد، وقال ابن الجوزي: "اتهموا به ابن جهضم، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الأنماطي الحافظ يقول: رجاله مجهولون وقد فتشت عنهم الكتب فما عرفتهم".
عن أبيه، وهو محمد بن سعيد البصري، مجهول كابنه.
خلف بن عبد (عبيد) الله الصنعاني، ذكره في لسان الميزان. فقال: "خلف بن عبيد الله الصنعاني عن حميد عن أنس رضي الله عنه بصلاة الرغائب في رجب، رواه علي بن جهضم عن علي بن محمد بن سعيد البصري عن أبيه، قال أبو موسى المديني: لا أعلم أنّي كتبته إلاّ من رواية ابن جهضم، قال: ورجال إسناده غير معروفين، وقال أبو البركات الأنماطي رجاله مجهولون وقد فتشت عنهم جميع الكتب فما وجدتهم.
حميد الطويل (وفي البحار المطبوع جاء بدل الطويل: "الطوسي"، وهو تحريف أو تصحيف، والصحيح هو الطويل) وهو حميد بن تيرويه أبو عبيدة من الذين رووا عن أنس بن مالك، وقد وثقه علماء الرجال من أهل السنة، ومنهم: ابن معين والعجلي وأبو حاتم (ت: 142هـ).
أنس بن مالك، وهو صحابي معروف، وشهرته تغني عن الإسهاب في الحديث عنه.
وهناك رواة آخرون تفرد بهم سند الرواية السنية وهم الذين وقعوا قبل ابن جهضم، وهم أشخاص مجهولون كما شهد بذلك بعض العلماء، ففي الموضوعات: "وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عنهم جميع الكتب فما وجدتهم".
موقف فقهاء الفريقين من هذه الصلاة
بعد أن تعرفنا على إسناد الرواية وحال رواتها لجهة الوثاقة والضعف، فلا بد أن نطلّ على الموقف الفقهي منها ، فكيف تلقى الفقهاء صلاة الرغائب؟
موقف الفقهاء من أهل السنة
المشهور لدى فقهاء أهل السنة أنّ صلاة الرغائب موضوعة، ولا أصل لها، قال محمد بن أحمد الشربيني الشافعي (ت: 977هـ): " قال في المجموع: ومن البدع المذمومة: صلاة الرغائب اثنتا عشر ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب".
وفي كشف الخفاء للعجلوني: "ومن الأحاديث الموضوعة ما جاء في فضيلة أول ليلة من رجب الصلاة الموضوعة فيها التي تسمى صلاة الرغائب لم تثبت في السنة ولا عند أئمة الحديث وإن ذكرها صاحب الإحياء وصاحب مؤنس القلوب .."، وأدرجها الشربيني الشافعي (ت:977هـ) في عداد " البدع المذمومة..".
وفي إعانة الطالبين للبكري الدمياطي الشافعي (ت:1310هـ): "ومن البدع المذمومة التي يأثم فاعلها ويجب على ولاة الأمر منع فاعلها صلاة الرغائب اثنا عشر ركعة".
وممن صرّح بكونها بدعة البهوي.
ويتحدث العلامة المباركفوري (ت:1353هـ) عن صلاة مبتدعة - في رأيه - وهي صلاة ليلة النصف من شعبان المعروفة بالصلاة الألفية وهي مائة ركعة بالإخلاص عشراً عشراً ويذكر أنهم اهتموا بها أكثر من الجُمع والأعياد مع أنها موضوعة ولم يأت بها خبر إلاّ ضعيف أو موضوع، ثم يقول: "وأول حدوث لهذه الصلاة ببيت المقدس سنة 448هـ وقد جعلها جهلة أئمة المساجد مع صلاة الرغائب ونحوهما شبكة لجمع القوم وطلباً للرياسة".
وقال الفتني (ت:986هـ) تذكرة الموضوعات ص 43- 44: "وصلاة الرغائب موضوع بالاتفاق، في اللآلي: "فضل ليلة الرغائب واجتماع الملائكة مع طوله وصوم أو دعاء وصلاة اثنتي عشرة ركعة بعد المغرب مع الكيفية المشهورة" موضوع رجاله مجهولون قال شيخنا وفتشت جميع الكتب فلم أجدهم، وفي شرح مسلم للنووي احتج العلماء على كراهة صلاة الرغائب بحديث "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام"، فإنها بدعة منكرة من بدع الضلالة والجهالة وفيها منكرات ظاهرة قاتل الله واضعها ومخترعها، وقد صنف الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبدعيها ودلائل قبحها أكثر من أن تحصى، وفي جامع الأصول قال بعد ما ذكر صلاة الرغائب مع الكيفية المعروفة واستجابة الدعاء بعدها هذا الحديث مما وجدته في كتاب رزين ولم أجده في واحد من الكتب الستة والحديث مطعون فيه، وفي تذكرة الآثام أن بعض المالكية مرّ بقوم يصلون الرغائب وقوم عاكفين على محرَّم فحسَّن حالهم على المصلين، لأنهم يعلمون أنهم يقعون في معصية، فلعلهم يتوبون وهؤلاء يزعمون أنهم في عبادة، وفي رسالة السماع للمقدسي: اعلم أن للشيخ ابن الصلاح اختيارات أُنكرت عليه، منها اختياره صلاة الرغائب بعد المائة الرابعة والثمانين سنة ولا مزية لهذه الليلة عن غيرها واتخاذها موسماً وزيادة الوقود فيها بدعة مما يترتب عليه من اللعب في المساجد وغيرها حرام والانفاق فيها والأكل من الحلوى [أو: الحلواء] وغيرها فيها، وأحاديث فضلها وفضل صلاتها كلّها موضوعة بالاتفاق، وقد جرت مناظرات طويلة في أزمنة طويلة بين الأئمة وأبطلت فله الحمد، وفي حديث حسن: "من أحيى سنة وأمات بدعة كان له أجر مائة شهيد".
وممن صرح بكونها موضوعة العلامة الشوكاني قال :" وقد اتفق الحفاظ على أنها موضوعة ، وألفوا فيها مؤلفات وغلّطوا الخطيب في كلامه فيها...".
ولشدة استحكام هذه الصلاة في النفوس كان بعض الناس من أهل الروم يحتالون بنذرها لتخرج من النفل والكراهة مع أن ذلك باطل"، لأن متعلق النذر لا بد أن يكون راجحاً في نفسه قبل تعلق النذر به،
في المقابل وإزاء هذا الاتجاه العام الذاهب إلى تحريم صلاة الرغائب والحكم ببدعيتها لدى فقهاء أهل السنة، فإنّ بعض علمائهم ولا سيّما من ذوي الاتجاهات الصوفية ذهبوا إلى القول بمشروعيتها، وعلى رأس هؤلاء يأتي الغزالي في إحياء علو م الدين وكذلك أبو طالب المكي صاحب قدس القلوب، وهكذا فقد اختار هذا الرأي الشيخ ابن الصلاح (ت: 577هـ)، ولكن هذا الرأي ظلّ ضعيفاً ومستهجناً، لضعف مستنده.
المؤلفات السنيّة حولها
وقد ألّف علماء السنة العديد من الكتب والرسائل بشأن صلاة الرغائب، وهي كتب أو رسائل تبنى أصحابها القول بالحرمة، وإليك بعضها:
تحفة الحبايب بالنهي عن صلاة الرغائب، تأليف: محمد بن محمد الخيضري الشافعي مفتي الشام.
ردع الراغب عن صلاة الرغائب، تأليف: علي بن غانم المقدسي (ت:1004هـ)، وقيل أنّه: "أحاط فيه بغالب كلام المتقدمين والمتأخرين من علماء المذاهب الأربعة".
محاورة أبطال الغرائب في إبطال صلاة الرغائب، تأليف: الشيخ سريجا بن محمد الملطي (ت: 788هـ)، وهدية العارفين.
الترغيب عن صلاة الرغائب لمؤلفه: عبد العزيز بن عبد السلام خطيب جامع دمشق (كان حياً من سنة 637) حكم فيه بكونها بدعة.
من الذي وضع الحديث ومتى؟
ذكر الكثير من الأعلام أنّ الذي وضع حديث صلاة الرغائب هو أبن جهضم (جهيم) الصوفي، قال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع على رسول الله ،وقد اتهموا به ابن جهيم، ونسبوه إلى الكذب".
وقال ابن كثير في ترجمه: علي بن عبد الله بن جهضم: "أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي صاحب بهجة الأسرار كان شيخ الصوفية بمكة، وبها توفي، قال ابن الجوزي: وقد ذكر أنه كان كذاباً ويقال: إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب".
موقف فقهاء الشيعة الإماميّة
لا يخفى أنّ فقهاء الشيعة لم يأتوا على ذكر صلاة الرغائب إطلاقاً في كتب الفقه في عداد الصلوات المستحبة بمن في ذلك الفقهاء الذين يعملون بقاعدة التسامح استناداً إلى أخبار "من بلغ"، ولو أنّ رواياتها وصلت إليهم - ولو بطرق ضعيفة- لنصّوا على استحبابها، كما نصّوا على استحباب الكثير من الصلوات في كتبهم الفقهية، وإنّ مراجعةً سريعة لمؤلفات الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي وابن إدريس وابن البراج وأبو الصلاح وابن زهرة والمحقق الحلي والشهيدين وغيرهم من الأعلام والفقهاء ستفضي إلى نتيجة واضحة وهي أنّ هذه الصلاة لا عين لها ولا أثر في مصنفاتهم ورسائلهم الفقهية على تعددها وتنوعها ويكاد المرء يقطع بأنّ الشيعة لم يعرفوا عن هذه الصلاة شيئاً في تلك الأزمنة، ولا صلوها إلى أن أدخلها بعض المتأخرين في كتب الأدعية..
أجل وردت الإشارة إلى صلاة الرغائب عرضاً في بعض كلمات بعض الفقهاء المتأخرين، كالمحقق الأردبيلي، والمحقق السبزواري، والمحقق النراقي، ومن المتأخرين الذين أوردوها في رسائلهم العملية: الشيخ محمد أمين زين الدين.
وهكذا ألّف بعض العلماء وهو الشيخ محمد علي بن أبي طالب بن عبد الله الزاهدي الكيلاني الأصفهاني المولد المتوفي سنة 1811هـ " كتاب المواهب في ليلة الرغائب".
ولكن فيما عدا ذلك فإنّا لا نجد أية إشارة لها، بل نجد صمتاً إزاءها أو إهمالاً مطلقاً لها في مختلف المصادر الفقهية، كما ذكرنا، بل لم نجد لها ذكراً في الكتب المتخصص بالأدعية وأعمال الأيام ونحوها، فلم يتعرض لها الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" ولا الشيخ الطوسي في "مصباح المتهجد"، ولا القطب الراوندي(ت: 573هـ) في "الدعوات"، أجل ذكرها العلامة في مصباح الصلاح وذكرتها بعض كتب الأدعية المتأخرة زمناً على العلمين (ابن طاووس والعلامة الحلي) كالكفعمي(ت: 905 هـ) في مصباحه، والمامقاني في المرآة، والشيخ القمي في المفاتيح، والسيد الأمين في "مفتاح الجنات".
ج- علماء الزيدية
قال أحمد بن المرتضى (840هـ) في شرح الأزهار بعد أن ذكر صلاة الرغائب بكيفيتها المذكور: "قلت: قد صرّح النقاد بأنّ الحديث المروي في صلاة الرغائب موضوع وأنها حدثت في آخر القرن الخامس في بيت المقدس".
تقييم وتحقيق واستنتاج
في المحصلة يمكن القول: إنّ هذه الصلاة لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، ويمكن توضيح ذلك من خلال النقاط التالية:
أولاً: كيف يهمل المحدثون أمر هذه الصلاة؟
والشاهد الأول على ما ذكرناه من أن هذه الصلاة لا أصل لها هو خلو روايات الأئمة من أهل البيت (ع) والمصادر الحديثية للشيعة الإمامية من ذكر هذه الصلاة، ولم يعهد أنّ أحداً من الأئمة(ع) أو أصحابهم قد فعلها أو حثّ عليها وإلاّ لنقل ذلك إلينا، وهكذا نلاحظ أنّ مصادر السنة المعتبرة قد خلت من ذكر هذه الصلاة، إلى أن ظهرت في القرنين الرابع والخامس للهجرة. إنّ صلاةً بهذه الأهمية لناحية فضلها العظيم وثوابها الجزيل كيف يغفل عنها أصحاب الأصول الستة الأولية لدى السنة والكتب الأربعة الشيعية وغيرهم من المحدثين؟!
ثانياً: والفقهاء كيف يهملونها أيضاً؟
والشاهد الثاني هو أنّ المصادر الفقهية للفريقين (السنة والشيعة) لم تأت على ذكر هذه الصلاة، مع عظيم الثواب المذكور عليها والذي لا تكاد تصل إليه صلاة أخرى، فلو أنّها قد صحت عندهم أو وردت في بعض الروايات - ولو الضعيفة- لما أهملوا ذكرها في كتبهم ولا سيما الموسوعات الفقهية الكبيرة، بل لنصوا على استحبابها ولو على قاعدة التسامح في أدلة السنن، هذا مع أنهم تعرضوا لأعمال وصلوات لا تبلغ في الأهمية والثواب مستوى الثواب والأهمية المجعولين لمن صلى هذه الصلاة.
والفقهاء الشيعة السابقون على العلامة الحلي لم يتطرقوا إلى هذه الصلاة لا من قريب ولا من بعيد - كما أسلفنا - حتى في كتب الأدعية وأعمال الأيام ونحوها، بل إنّ العلامة الحلي نفسه لم يذكرها في شيء من كتبه الفقهية سواء المختصرة أو المتوسطة أو المطولة منها، وإنما ذكرها في إجازته لبني زهرة، وهذا لا يدل على تعويله عليها، لأنّه في صدد إعطاء إجازة لما وصلت إليه روايته من الأحاديث بصرف النظر عن صحتها أو وثوقه بها.أجل قد ذكرها العلامة في مصباح الصلاح، كما أسلفنا.
ثالثاً: الرواية مذكورة في كتب العبادة لا الفقه
إنّ السيد ابن طاووس كما تقدم، قد صرّح بأنّه نقل هذه الصلاة من كتب العبادات، وثمة رأي طرحه الشيخ الجليل ابن ادريس الحلي يشير فيه إلى أنّ ما يذكره الفقهاء في كتب العبادات ليس له تلك الأهمية التي يكتسبها المطلب الذي يذكرونه في كتب الفقه، قال رحمه الله في الحديث عن الاستخارة المعروفة بذات الرقاع: "والمحصلّون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه إلاّ ما اخترناه (اختار شرعية الاستخارة بالمعنى اللغوي وهو طلب الخير من الله) دون كتب الفقه".
إلاّ أنّ العلامة الحلي رحمه الله ضعّف هذا الكلام قائلاً في ردّه على ابن ادريس: "وأي فارق بين ذكره في كتب الفقه وكتب العبادات؟! فإنّ كتب العبادات هي المختصة به".
وهكذا فإنّ السيد ابن طاووس علّق على كلام ابن إدريس بأنّ: "الفقه إنّما كان حكم في الشرائع والديانات، لأنّها من جملة العبادات.. فالفقه من جملة العبادات"، ثم أضاف السيد ابن طاووس بعد أن حاول أن يجد لابن إدريس عذراً في كلامه الآنف: "وعلى كل حال سواء كان ذكرها في كتب العبادات أو كتب العمل والطاعات فإنّ المصنف إذا كانت كتبه على سبيل الرواية احتمل أن يقال إنّه ما قصد بذلك الفتوى ولا الدراية، وأمّا إذا كان تصنيفه في العبادات والعمل وللطاعات فقد ضمن على نفسه أن الذي يذكره في ذلك من جملة الأحكام الشرعيّة، وإلاّ كان قد دعا الناس إلى العمل بالبدع ومخالفة المراسم الإلهيّة والشرائع النبويّة، فصار على هذا كتب العبادات وكتب العمل والطاعات أظهر في الاحتجاج بما تتضمنه من كتب الفقه أو كتب الروايات".
أقول: ربما كان مقصود الشيخ ابن ادريس أنّ كتب العبادات وهي كتب الأدعية والزيارات مبنية على التسامح في أدلة السنن ولا تتعرض لعملية نقد وتمحيص كالتي تتعرض لها المباحث الفقهية.
رابعاً: وقفة مع مضمون الرواية
ومن الضروري أن نسجل وقفة مع مضمون الرواية، فإنّ هذا المضمون المبالغ في جعل الثواب الكبير على هذه الصلاة هو مدعاة للتأمل، لا من جهة أنّ هذا الثواب إذا كان بالفعل مجعولاً على هذه الصلاة لانتشرت ولم يكن ليخفى أمرها بحيث لم تعرف إلاّ في القرن الخامس للهجرة، لا من هذه الجهة فحسب، بل من جهة التحفظ إزاء مثل هذه الروايات التي تجعل هذا الثواب الجزيل على أعمال عبادية محدودة، ولسنا نشك إطلاقاً في سعة كرم الله وعظيم ثوابه ولا يحق لنا أن نحدّ من كرمه وجزيل عطائه فهو واسع الرحمة ويعطي الكثير بالقليل، إلاّ أنّ شكنا ينطلق من أنّ مثل هذه الألسنة التي تمنح هذا الثواب الجزيل على العمل اليسير ربما تكون سبباً لتزهيد الناس في فعل الطاعات واجتناب المعاصي، وقد تعرضنا لهذا الأمر في كتاب "هل الجنة للمسلمين وحدهم؟" فراجع.
اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الاستغلال الخاطئ والسيء للثواب المجعول في الروايات لا يعني أنها موضوعة، ولا سيما أنّ غفران الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر أو نحوه إنما هو وارد على سبيل المقتضي المتوقف تأثيره على عدم المانع وهو فعل المعاصي، أي إنّ غفران الذنوب إنما هو "بشرطها وشروطها".
خامساً: تبرير مشروعية الصلاة على ضوء قاعدة التسامح
وفي المحصلة، فإنّه لا يمكن – في ضوء ما تقدم - إثبات استحباب هذه الصلاة، لعدم نهوض دليل يعتد به لإثبات الاستحباب .
ولكن مع ذلك فقد يتم تبرير الإتيان بها شرعاً بالاستناد إلى قاعدة التسامح في أدلة السنن، ولو لم تنهض القاعدة المذكورة لإثبات الاستحباب فلا أقل من أنّها تكفي لتحقيق عنوان "بلوغ الثوابط، الأمر الذي يسمح بالإتيان بالعمل رجاء المطلوبية.
ولكن يمكن التعليق على ذلك بأنّ قاعدة التسامح غير تامة في نفسها، كما هو واضح لدى الأعلام المتأخرين، فلا يمكن إثبات الاستحباب الشرعي بالاستناد إليها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الإتيان بالصلاة بعنوان الرجاء قد يستشكل فيه باعتبار أنّ موضوع القاعدة هو بلوغ الثواب عن النبي (ص)، ومع كون الرواية موضوعة، فلا مجال شرعاً للإتيان بها ولو بعنوان الرجاء.
وربما يلاحظ على ذلك: إنّ الجزم بكون الرواية موضوعة دعوى مبالغ بها، إذ احتمال الصدور عن النبي (ص) قائم ولا راد له، وذلك كاف لتصحيح الإتيان بالعمل بقصد الرجاء، ولا يمنع من ذلك ( الإتيان بالعمل بقصد الرجاء)إلاّ إذا حصل العلم وجداناً أو تعبداً بكذب الخبر .
إلاّ أنّ لنا أن نتنظر في ذلك بتسجيل عدة ملاحظات:
أولاً: إنّ احتمال صدق الراوي ولا سيما إذا كان الاحتمال موهوماً لا يكفي في تحقيق عنوان البلوغ الذي تحدثت عنه الروايات، بل يشترط عدم ظن كذب الخبر كما ذهب بعض العلماء هذا إن لم نشترط ظن صدقه، والوجه في ذلك: إنّ قوله (ص): "من بلغه" منصرف عن صورة ظن كذب الراوي، والقرينة على ذلك: إنّ التشدد التشريعي الملحوظ إزاء قبول الخبر وصفات المخبر من الوثاقة والصدق.. يخلق جواً متشرعيّاً رافضاً للعمل بأخبار الكذابين وغير الثقاة، ومتحسساً إزاء هذا الأمر، وفي ضوئه فلو كانت الروايات "من بلغ" مطلاقة وشاملة لصورة احتمال صدق الخبر ولو كان الاحتمال موهوناً لشكل ذلك استثناءً صادماً للجو التشريعي المذكور، الأمر الذي يثير حفيظة المتشرعة ويدفعهم للإكثار من الأسئلة حول هذا الاستثناء وحدوده، مع أننا لم نجد شيئاً من ذلك في الروايات، الأمر الذي يؤشر إلى عدم شمول روايات "من بلغ" لصورة احتمال صدق الخبر.
ثانياً: إنّه ومع كون العمل المأتي به بعنوان الرجاء عملاً عبادياً - كما في صلاة الرغائب – لا يراد مجرد الإتيان به بصورة عفوية، بل يراد تكريسه كـ"سنة" عملية يتم المواظبة عليها بكيفيتها الخاصة غير الثابتة ويُحثّ الناس على أدائها في المساجد ويتمّ الإعلان عنها والدعوة إليها من خلال وسائل الإعلام، فإنّ احتمال الحرمة والحال هذه سيدخل في البين، لاحتمال أن يكون ذلك مصداقاّ لعنوان الابتداع في دين الله تعالى، ومع ورود هذا الاحتمال فلا يصح العمل، لأن احتمال المطلوبية يقابله احتمال المبغوضية، وهذا ما يجعل المورد خارجاً عن مفاد "روايات من بلغ"، وبعبارة أخرى: إنّ ما دلّ على حرمة الابتداع والتشريع في دين الله شاملة – ولو على نحو الظن والاحتمال- لصورة التكريس العملي الواسع "للصلاة" أو "العبادة" التي لم تثبت شرعيتها بدليل يعتد به، الأمر الذي يجعل احتمال المطلوبية مزاحماً باحتمال المبغوضية.
ثالثاً: إنّ حسن الانقياد الذي يجعل إعطاء الثواب مفهوماً ومبرراً باعتبار أنّ ذلك يمثل دليلاً على سعة فضل الله وهو باب من أبواب رحمته، يقابله تخوف واقعي له ما يبرره من أنّ يشكل هذا التساهل مسرباً "شرعياً" لدخول تراث الكذابين والوضّاعين إلى الفضاء الشرعي، على اعتبار أنّ الكذّاب قد يصدق أحياناً ولا يقطع بكذب رواياته بأجمها، وبهذا نكون قد فتحنا باب الوضع على مصراعيه وأضفنا عليه غطاءً شرعياً، وهو عنوان "الرجاء"، ولا سيما إذا توسعنا في تطبيق القاعدة كما يرى البعض لتشمل روايات الكراهة، وتشمل أيضاً الروايات الظاهرة في الوجوب، على اعتبار أنّ الخبر الضعيف إذا كان قاصراً عن إثبات الحكم الإلزامي فهو لا يقصر – ببركة قاعدة التسامح- عن إثبات الاستحباب أو على الأقل عن تحقيق عنوان البلوغ فيؤتى بالعمل رجاءً، وهكذا لو توسعنا في القاعدة لتشمل فتوى الفقيه إمامياً كان أو غير إمامي باعتبار أنّ فتواه تحقق عنوان البلوغ أيضاً !
والحقيقة إنّه وأمام هذا التوسع في القاعدة، فإن ما ذكرناه لا يبقى في نطاق التخوف المحض، بل إنّ هذا التسامح والتوسع قد أدخل بالفعل الكثير من تراث الوضاعين إلى الفضاء الشرعي، وهذه التراث يحمل الكثير من المفاهيم القلقة والملتبسة والأفكار المنافية والمصادمة للتعاليم الإسلامية الصحيحة، كما في الروايات التي تذم بعض الأقوام وتدعو إلى مقاطعتهم اجتماعياً واقتصادياً، فإنّ التعامل مع هذه الروايات بمنطق التسامح في أدلة السنن يجر علينا الويلات، والتي من أوضحها أنّ ذلك يقدم تصوراً عن عنصرية الإسلام!
وهكذا فإنّ ما لا يلتفت إليه أحياناً أن الالتزام بقاعدة التسامح وإضفاء الشرعية على العمل العبادي استناداً إليها، سوف يؤدي إلى حالة من الارتخاء لدى الكثير من المؤمنين فتضعف همتهم عن القيام بالمسؤوليات الدينية الأساسية والمهام الجهادية، على اعتبار أنّهم ركنوا إلى رواية هنا أو هناك قد جعلت لهم ثواباً عظيماً على عمل صغير وأعطتهم ضماناً على عدم دخول النار بسبب هذا العمل، كما هو الحال في رواية صلاة الرغائب المتقدمة، إنّ هذا الثواب العظيم سيدفع الكثيرين إلى جعلهم الزهد بالأعمال الكبيرة والمسؤوليات الاجتماعية المهمة، مكتفين بالانتصارات السهلة التي تضمنها لهم قاعدة التسامح في أدلة السنن.
رؤية جديدة في تفسير قاعد التسامح
وأخال أنّ هذه المحاذير ما كانت لتغيب عن ذهن المعصوم عندما تحدث عن هذه القاعدة، ولذا نرجح أن لا يكون مراده بها هو ما فهمه القوم، وإنما مقصوده أمر آخر يساعد عليه ظهور بعض تلك الروايات، وخلاصة هذا المعنى الذي نطرحه للتداول العلمي وليس للتبني هو: إنّ الثواب الذي يُعطاه المكلف ليس هو على العمل الذي لم يقله النبي (ص) من الأساس، بل على العمل الذي قاله (ص) ولكن لم ينقله الراوي طبقاً لما قاله (ص) لجهة درجة الثواب، فالاشتباه الذي وقع فيه ناقل الخبر ليس هو الاشتباه في أصل صدور الثواب عنه (ص)، وإنّما في مرتبة الثواب، لجهة الكيفية والكميّة، فلو أنّ الصادر عنه (ص): أنّ من فعل كذا كان له حسنة، لكن الناقل للخبر اشتبه ونقل أنّ له حسنتين، وعمل المكلف بمضمون الخبر طمعاً بالحسنتين فإنّ الله سيكون عند حسن ظن عبده به ويعطيه الحسنتين، وهذا المعنى يستفاد من صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال: "من سمع شيئاً من الثواب على شيءٍ نصنعه كان له (أجره) وإن لم يكن على ما بلغه (كما بلغه)"، وأمّا الصحيحة الأخرى لهشام عن أبي عبد الله (ع) قال: "من بلغه عن النبي (ص) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (ص) لم يقله"،فلا يحرز أنّها رواية أخرى مغايرة للصحيحة الأولى، لوحدة الراوي والمروي عنه، فلعلها نقل بالمضمون لما جاء في الرواية الأولى، على أنّ بالإمكان حمل مضمونها على ما جاء في الصحيحة الأولى، ليكون المقصود بقوله (ع): "وإن كان رسول الله (ص) لم يقله" أنّه (ص) لم يقله على ذاك النحو المبالغ في الثواب مثلاً.. . والأمر يحتاج إلى متابعة وملاحقة، والله من وراء القصد.
( محاضرة أُلقيت في المعهد الشرعي الإسلامي)
1 رجب 1434هـ