حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> فكر ديني
التكفير .. ضوابط ومحاذير
الشيخ حسين الخشن




في ضوء ما تقدم من حديث عن مراتب الكفر وأقسامه المتعددة، مما قد يلتقي بعضها مع الإسلام، وما تقدم أيضاً من حديث عن الفارق الكبير بين أركان الإسلام التي يقود إنكارها كلاً أو بعضاً إلى الخروج عن الدين ولو كان الإنكار لشبهة أو غفلة، وبين الأركان التي لا يؤدي إنكارها في حد ذاتها إلى ذلك وهي القائمة الكبيرة من ضروريات الدين والمذهب في الشريعة أو العقيدة، فضلاً عن غير الضروريات، في ضوء ذلك كله يكون لزاماً على المسلم أن يحذر الوقوع في شَرَك التكفير لمجرد أن يجد كلمة " الكفر" أو " الشرك " قد أطلقت في النصوص على بعض الأشخاص أو الأعمال، فربما كان كفراً دون كفر – كما مرّ عن ابن عباس – أو كان كفراً عملياً لا عقدياً، كما ذكرنا سابقاً، ولا يحق له أن يبادر إلى التكفير لمجرد أن يرى كاتباً أو باحثاً قد أنكر فرعاً فقهياً أو عقدياً أو ضرورياً من ضروريات الدين، فإنّ ذلك بمجرده لا يستوجب الكفر ما لم يستلزم تكذيب النبي (ص) أو إنكار رسالته.

المسارعة في التكفير

ومما يبعث على الأسف ويثير القلق والأسى أنّ واقعنا الإسلامي يشهد موجات من التكفير والتكفير المضاد وتسرعاً في إخراج الناس عن الدين دون ضوابط أو قيود، وهكذا ابتليت الأمة بجماعة من أنصاف المتفقهين الذين يتعجلون في الإفتاء بارتداد من يخالفهم الرأي في بعض المسائل العقائدية أو حتى الفقهية والتاريخية، ونتيجةً لذلك فإنهم يستسهلون إهدار دمه واستحلال ماله وانتهاك حرمته، هذا مع أنّه لا يكاد يخفى على المطلع العارف بكتاب الله وسنة رسوله (ص) أنّ هناك تحذيراً بالغاً ونهياً شديداً عن المسارعة في تكفير المسلم وإخراجه عن الدين، قال تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً..} (سورة النساء، آية: 94).

وفي الحديث عن حذيفة قال: قال رسول الله (ص): "إنّ ما أتخوّف رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان رِدئاً للإسلام غيّره إلى ما شاء قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك، المرمي أم الرامي؟ قال: بل الرامي"[1].

وأخرج البخاري في صحيحه بإسناده إلى أبي ذر عنه (ص) قال: "لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلاً ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك"[2].

وأخرج عنه (ص) أيضاً، قال: "أيّما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما"[3].

إنّ هذه النصوص ونظائرها مما يبالغ في التحذير من تكفير المسلم للمسلم الآخر لا بدّ أن تؤسس لتربية إسلامية تتورع عن الإقدام على تكفير الآخر أو اتهامه بالشرك أو الضلال أو ما إلى ذلك.

مخاطر التكفير

ومما يزيد الأمر حساسية هو علمنا بأنّ للتكفير مخاطر عديدة ومحاذير جمة وانعكاسات سلبية على المكفَّر والمكفِّر معاً، الأمر الذي يستدعي التروي في الإقدام عليه والخوض فيه، فمضافاً إلى أنّ إخراج شخص من الدين ورميه بالكفر هو معصية كبيرة وذنب عظيم لا يرتكبه المسلم الذي يريد الاحتياط لدينه، فإن له مضاعفات خطيرة على الشخص المكفَّر وعائلته وذويه، لأنّه - أعني التكفير – يستتبع الحكم بارتداده وإهدار دمه وماله والتفريق بينه وبين زوجته، ومعاملته معاملة الكفار لجهة الميراث والزواج وغيرهما بما في ذلك ترك الصلاة عليه بعد موته ودفنه في مقابر المسلمين، وذلك سيؤدي إلى محاصرته وعزله نفسياً واجتماعياً ونبذه من قبل المسلمين وترك التعامل معه، وتزداد عزلته إذا قلنا بنجاسته وحرمة ذبائحه وترك مؤاكلته، كما عليه جماعة من فقهاء المسلمين.

ضوابط التكفير

وعلى ضوء ما سلف يكون من الملح جداً التأكيد على ضرورة مراعاة جملة من الضوابط قبل الوقوع في محذور التكفير والحكم على أحد بالخروج عن الدين، وإليك أهم هذه الضوابط:

1-التثبت من الكفر

إنّ تكفير المسلم أمر عظيم في حد نفسه وخطره كبير وضرره جسيم، كما قلنا، لذا يكون التثبت والتحقق الكامل من الكفر أمر ضروري ولازم قبل الإقدام عليه، وذلك باعتماد وسائل الإثبات القضائية المعروفة، مع مراعاة الدقة والعناية التامة في التحقيق والاستماع إلى الشهود حذراً من الوقوع فيما لا يمكن تلافيه وتداركه من القتل وإزهاق النفوس.

2- العلم بالمكفرات

والضابط الثاني الذي تلزم مراعاته هو ضرورة التأكد من معرفة الشخص بأنّ ما يقوله أو يفعله أو يتبناه من اعتقاد يشكل كفرأً بالله ورسوله، مع إصراره على موقفه رغم معرفته بلوازمه، فمن أنكر وجوب الحج مثلاً رغم علمه بوجوبه بنص القرآن والسنة ملتفتاً إلى أنّ إنكاره يستلزم تكذيب الرسول والرسالة حُكِمَ بخروجه عن الإسلام، أما لو كان جاهلاً بوجوبه لكونه حديث العهد بالإسلام أو غير ملتفت للملازمة فلا يُحكم بكفره، نعم فيما يرتبط بالأركان الثلاثة التي تُعرَف بأصول الدين،( التوحيد، النبوة، المعاد ، على تأمل في الأخير) فإنّ إنكارها ولو جهلاً لا يجتمع مع الإسلام وإن كان معذوراً في إنكاره، لعدم قيام الحجة عليه أو عدم سماع صوت الحق.

3-العمد والقصد

ولا يكفي العلم بالمكفرات في التكفير والإخراج عن الملة، بل لا بدّ أن ينضم إليه شرط آخر وهو العمد والقصد، فمن نطق بكلمة الكفر خطأً أو غفلة أو لاعتقاد عدم منافاتها مع الإسلام أو نحو ذلك من حالات عدم القصد، فلا يُحكم بكفره في جميع ذلك، قال تعالى: {... وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم...} (سورة الأحزاب،آية: 5). وفي الحديث عن رسول الله (ص): "إنّ الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان"[4].

ومن هنا كان اللازم التفريق بين المقالة والقائل، فربما كانت المقالة كفراً دون أن يكون قائلها كافراً لعدم التفاته إلى لوازمها.

4- الاختيار

ومن الشروط أيضاً: الاختيار في التزام الكفر قولاً أو فعلاً، فمن اضطر أو أُكره على قول كلمة الكفر فلا يكفر بذلك، قال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} (سورة النحل، آية: 106) وقد نزلت هذه الآية – كما هو معروف ومذكور في أسباب النزول – في عمار بن ياسر عندما عذّبه المشركون حتى اضطروه إلى قول ما أرادوا من كلمة الكفر، وجاء بعدها إلى النبي باكياً شاكياً فقال له (ص): كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً، فقال (ص): "إن عادوا فعد"[5] وفي حديث الرفع المشار إليه آنفاً: "رفع عن أمتي الخطأ ... وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه".

5-إنتفاء الشبهة

وثمة شرط آخر أساسي في هذا المجال وهو ارتفاع الشبهة، فلا يسوغ الحكم بكفر أحد لصدور كلام أو فعل منه يحتمل وجهاً صحيحاً يصرفه عن الكفر، الأمر الذي يفرض أن يكون الفعل أو القول نصاً صريحاً في الكفر أو ظاهراً فيه ظهوراً بيّناً لا لبس فيه ولا شبهة، لأنّ الحدود لا تدرأ بالشبهات كما سيأتي.

ومن هنا قيل: إنّ لازم الكفر ليس كفراً ولازم المذهب ليس مذهباً إلاّ إذا كان لزومه بيّناً مع الالتفات للملازمة.

وينبغي أن يعلم أنّ الشبهات الموجبة لارتفاع الحد والتوقف عن التكفير كثيرة ولها مناشئ عديدة وتختلف من زمان إلى لآخر ومن شخص لآخر ولا يمكن ضبطها بحدود معيَّنة.

قال العلامة ابن حجر الهيثمي: "الذي صرَّح به أئمتنا أن من تكلم بمحتملٍ للكفر لا يحكم عليه حتى يُستفسر"[6].

ونقل عن الملا علي القاري قوله: "الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف أن لا نكفِّر أهل البدع والأهواء إلاّ إذا أتوا بكفرٍ صريح لا استلزامي، لأنّ الأصح أنّ لازم المذهب ليس بمذهب، ومن ثم لا يزال المسلمون يعاملونهم معاملة المسلمين"[7].

وقال الملا علي القاري الحنفي (ق 11هـ) "ذكروا أنّ المسألة المتعلقة بالكفر إذا كان لها تسعة وتسعون احتمالاً للكفر واحتمال واحد في نفيه، فالأولى للمفتي والقاضي أن يعمل بالاحتمال النافي، لأنً الخطأ في إبقاء ألف كافر أهون من الخطأ في إفناء مسلم واحد"[8].

وثمة ضابط آخر وهو الجحود سنتحدث عنه في العنوان الآتي.

علماء الأمة يحذرون من التكفير

وانسجاماً مع النصوص المتقدمة وإدراكاً منهم لمخاطر التكفير وآثاره المدمرة فقد حذر كبار علماء الأمة من خطورة الخوض فيه والتسرع إليه وإليك بعض كلماتهم في هذا الصدد:

يقول الإمام تقي الدين السبكي وهو من أعلام القرن الثامن للهجرة في إجابة له على سؤال عن حكم تكفير المبتدعة وأهل الأهواء: "إعلم أيها السائل أنّ كل من خاف الله عزَّ وجلَّ استعظم القول بالتكفير لمن يقول: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، إذ التكفير هائل عظيم الخطر، لأنّ من كفَّر شخصاً بعينه فكأنّما أخبر أنّ مصيره في الآخرة جهنم خالداً فيها أبد الآبدين، وأنّه في الدنيا مباح الدم والمال، لا يمكَّن من نكاح مسلمة ولا يجري عليه أحكام المسلمين لا في حياته ولا بعد مماته، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطر في سفك محجمة من دم امرؤ مسلم، وفي الحديث: "لأن يخطئ الإمام في العفو أحب إليّ من أن يخطئ في العقوبة".

ويضيف: إنّ تلك المسائل التي يفتى فيها بتكفير هؤلاء القوم في غاية الدقة والغموض، لكثرة شبهها واختلاف قرائنها وتفاوت دواعيها، والاستقصاء في معرفة الخطأ من سائر صنوف وجوهه، والاطلاع على دقائق التأويل وشرائطه، ومعرفة الألفاظ المحتملة للتأويل وغير المحتملة يستدعي معرفة جميع طرق أهل اللسان من سائر قبائل العرب في حقائقها ومجازاتها واستعاراتها، ومعرفة دقائق التوحيد وغوامضه، إلى غير ذلك مما هو متعذر جداً على أكابر علماء عصرنا فضلاً عن غيرهم، وإذا كان الإنسان يعجز عن تحرير معتقده في عبارة، فكيف يحرر اعتقاد غيره من عبارته؟!

فما بقي الحكم بالتكفير إلاّ لمن صرَّح بالكفر واختاره ديناً وجحد الشهادتين وخرج عن دين الإسلام وهذا نادر وقوعه، فالأدب الوقوف عن تكفير أهل الأهواء والبدع[9].

ويقول العلامة الشوكاني: "إعلم أنّ الحكم على رجل مسلم بخروجه عن دين الإسلام ودخوله في دين الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه، إلاّ ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنّه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما.."[10].

وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيثمي: "ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه، لعظيم أثره وغلبة عدم قصده سيما من العوام، ولا زال أئمتنا – يقصد الشافعية – على ذلك قديماً وحديثاً.."[11].

وقد سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عن مسألة التكفير فأجابه: "بإنّ إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين"[12].

ويقول العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: "والإسلام والإيمان مترادفان ويطلقان على معنى أعم يعتمد على ثلاثة أركان: التوحيد والنبوة والمعاد، فلو أنكر الرجل واحداً منها فليس بمسلم ولا مؤمن، وإذا دان بتوحيد الله ونبوة سيد الأنبياء محمد (ص) واعتقد بيوم الجزاء فهو مسلم حقاً، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، دمه وماله وعرضه حرام، ويطلقان – يعني الإسلام والإيمان – على معنى أخص يعتمد على تلك الأركان الثلاثة وركن رابع رابع هو العمل بالدعائم التي بني عليها الإسلام، وهي خمس: الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد.." إلى أن يقول: "وإذا اقتصر على تلك الأركان الأربعة فهو مسلم ومؤمن بالمعنى الأعم تترتب عليه جميع أحكام الإسلام من حرمة دمه وماله وعرضه ووجوب حفظه وحرمة غيبته وغير ذلك.."[13].




[1] صحيح ابن حبان: ج1 ص181، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد: ج1 ص187، وعزاه إلى البزار وقال: إسناده حسن.
[2] صحيح البخاري: ج7 ص84.
[3] م. ن: ج7 ص97، وأخرجه مسلم في صحيحه: ج1 ص56- 57.
[4] أخرجه ابن ماجة عن أبي ذر برقم 2543 والحديث مروي في مصادر الشيعة أيضاً.
[5] السنن الكبرى: ج8 ص209، والكافي ج2 ص219.
[6] الفتاوى الكبرى: ج4 ص239.
[7] شرح سنن الترمذي للمباركفوري: ج6 ص362.
[8] شرح الفقيه الأكبر: ص62.
[9] نقله في الطبقات الكبرى: ج1 ص578.
[10] السبل الجرار: ج4 ص578.
[11] تحفة المحتاج في شرح المنهاج: ج9 ص88، وقد نقل هذه الأقوال الدكتور عمر عبد الله كامل في كتابه "المتطرفون خوارج العصر" الطبعة الأولى بيروت 2002م توزيع بيسان ص159- 161 وليراجع أيضاً الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: ج2 ص277، وفيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: ج4 ص167، وفتح الباري: ج12 ص268، ونيل الأوطار: ج7 ص353.
[12] نيل الأوطار: ج7 ص352.
[13] أصل الشيعة وأصولها ص126- 129، طبع دار القرآن الكريم، قم- إيران
.






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon