حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> فكر ديني
الكرامات والخرافات
الشيخ حسين الخشن



 


تنطلق بين الفينة والأخرى دعاوى ( كل ما لم يعضده البرهان فهو دعوى) مختلفة عن حدوث كرامة في هذا المقام، أو ظهور "عجيبة" في ذاك المكان، ويتداول الناس ذلك ويصدق ذلك الكثيرون منهم ويندفعون إلى مكان ظهور الكرامة أو "العجيبة" بهدف أخذ البركة، أوطلباً لقضاء الحوائج، والدعاوى المشار إليها لا تختصّ بجماعة دينية دون أخرى، ولا بمنطقة دون أخرى، فهذا ما يحصل عند المسيحيين على اختلاف مذاهبهم، حيث يحدثونك عن رشح تمثال للسيدة العذراء زيتاً معيناً وربما دماً أحمر قانياً، أو نحو ذلك من الأمور، ويحصل عند المسلمين أيضاً على اختلاف مذاهبهم، ومن ذلك ما ادعي حصوله مؤخراً من ظهور دم أحمر في جدران بعض "المقامات" المبنيّة حديثاً في مدينة "بعلبك" في لبنان، وقد أثار الأمر ضوضاء كثيرة بين من كذّب الأمر وادعى أنّه "مفبرك" وقد سمعنا ذلك من غير واحد العلماء وإن اضطر بعضهم ليسحب كلامه لعدة اعتبارات، وبين من صدقّ الأمر وروّج له بشكل كبير، ما دفع بالآلاف من الناس لتتهافت إلى زيارة المقام المذكور، والسؤال: إنّه وأمام ظاهرة من هذا القبيل كيف نحدد موقفنا؟ وما هو تكليفنا؟ وما هي دلالات هذا الأمر؟

والإجابة على هذه الأسئلة وسواها نتناولها في المحاور التالية:



1 - الإيمان بمبدأ الكرامة

مؤكدٌ أنّ المسلم الذي آمن بما جاء في كتاب الله تعالى لا يتسنى له إنكار مبدأ الكرامة، فقد نصّ القرآن الكريم على العديد من المعاجز والكرامات التي جرت على أيدي الأنبياء أو بعض الأولياء.

إلاّ أنّ الأمر الذي علينا أن لا نغفله هو أنّ الكرامة بما تعنيه من خرق لقوانين الطبيعة هي استثناء في حركة السنن الطبيعيّة الحاكمة، وهكذا استثناء لا يحصل اعتباطاً أو جزافاً، بل لا بدّ من حكمةٍ موجبة لذلك، لأنّ الكرامة ليست أحسن حالاً من المعجزة، وكما أنّ المعجزة لا تتحقق إلاّ في حالات استثنائية تقتضيها، فكذلك الحال في الكرامة، ولقد حدثنا القرآن الكريم عن أنّ الله تعالى لم يكن ليستجيب دوماً لاقتراحات الكافرين وطلبهم للمعجزة من النبي (ص)، فعندما رفض بعض المشركين التسليم للنبي(ص) والإيمان به إلاّ إذا جاءهم بمعجزة، من قبيل أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً أو يسقط السماء عليهم كسفاً أو يكون له بيت من زخرف أو يرقى في السماء، جاء الجواب الإلهي: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً}، أي أنّ ما تطلبونه خارج عن قدرتي، لأني "بشر"، والبشر عاجز عن مثل ذلك إلا بتسديد إلهي، كما أنّ ذلك خارج عن مهمتي، لأنّي "رسول"، ومهمتي الرسالية لا تحتم أن يكون لي مثل هذه القدرة والسلطة التكوينية، يقول السيد محسن الأمين العاملي رحمه الله تعليقاً على كرامة مزعومة حدّثه بها بعض الناس: " إنّ فضائل أئمة اهل البيت(ع) وكراماتهم لا يشك فيها أحد ولكنّ كثيراً من الكرامات التي تنقل على ألسنة الناس هي مكذوبة، لأنّ الكرامة لا تأتي عفواً أو متى شاءها الإنسان، وعلى يد كل أحد، ومع كل مناسبة، وإنما تكون عند موجب قوي يقتضيها.."[1].

2 - موقع الكرامة في إثبات العقيدة

ولكن ما هو موقع الكرامة في إثبات المعتقدات؟

لا شك أنّ للكرامة إذا ما تسنى لنا إثباتها – ولا سيما في زماننا هذا الذي تجتاحه الأفكار والفلسفات المادية – دورأً إيجابياً طيباً لصالح الدين والمتدينين، فإنّها تشكّل دليلاً ومستنداً على وجود عالم من الغيب خارج نطاق المحسوسات، كما أنّها تساهم في تعزيز القناعات الدينية، لأنّها تمثل برهاناً حسياً ينزل الفكرة من تجريدها العقلي إلى عمقها الوجداني، وهذا ما يستفاد من طلب إبراهيم (ع) من الله تعالى أن يريه كيفية إحياء الموتى، قال تعالى:{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمأن قلبي} ( البقرة 266) .

بيد أن الأمر الجدير بالمعرفة والمدارسة هو أنّ الكرامة قد لا تمثّل البرهان الفاصل، فضلا عن أن يكون الوحيد في إثبات صحة المعتقدات والمذاهب، إلاّ إذا ثبت لنا أنّ الله تعالى لا يمّكن أحداً منها إلا إذا كان صاحب دعوة محقة، كما لدينا مثل هذا الجزم والاعتقاد في خوارق العادة التي تظهر في زمان النبوّات، حيث إنّ العقل حاكم بقبح إظهار المعجزة على يد الكاذب وإلا لزم إغراء الناس بالجهل وتضليلهم، ولا تتم الحجة بذلك عليهم، مع أنّ الله تعالى قد توعد بإتمامها، قال تعالى:{ ولله على الناس الحجة البالغة} وبعبارة أخرى: إن إظهار المعجزة على يد مدعي النبوة يؤدي أو أعداء النبي هو خلاف الحكمة الإلهية، هذا في عصر النبوات.

وأما بعد انتهاء زمن النبوات- كما هو حال زماننا هذا- فهل إن ظهور خارق العادة على يد أحد من الناس هو دليل قاطع على صدقية دعوته؟

والجواب: إنّ الأمر ليس بهذا الواضوح، ولا دليل من العقل أو النقل يحتّم ذلك، وهذا ما نبّه عليه بعض الأعلام من أنّه ليس كل خارق لقوانين الطبيعة هو كرامة، إذ ربما كان ذلك على تعبير القرآن الكريم استدراجاً ، يقول السيد التنكابني تعليقاً على بعض الخوارق التي تصدر من الصوفية أو تظهر على أيديهم:" إنّ خوارق العادات تصدر من المحق والمبطل فلا يجب إنكار ذلك من جماعة الصوفية خذلهم الله ! ولا يجوز أن يجعل ذلك دليلاً على حقانية مذهبهم، بل قد ينال بعض الأشقياء هذه المرتبة من باب الاستدراج .. فالفريقان من أهل الكفر والطغيان وأهل الإيمان واليقين يمكن أن يباغا هذه المرتبة على حسب الاستعداد والمصالح الكاملة، كما نلحظ ذلك في بعض أهالي الهند وما يقومون به من الرياضات المختلفة في بيوت الأوثان .."[2].

وخلاصة القول: إنّه لا يمكننا البتّ بأنّ خارق العادة هو كرامة إلهية، وأعود وأكرر إنّ هذا الأمر بحاجة إلى دراسة كلامية متأنية .

وفي ضوء ذلك لا يجوز أن نرهن إيماننا بالنبي(ص) أو الأئمة من أهل البيت(ع) بظهور كرامة أو عدم ظهورها، بل إنّ علاقتنا بالنبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) هي أسمى وأرفع وأجلّ من أن نرهنها لثبوت كرامة هنا أو هناك، فما عند النبي(ص) والأئمة (ع) من خزائن علم ومعرفة تغني العقل والروح وتمدنا بالنور الصافي الذي لا تشوبه شائبة هي خير دليل على سموهم وعظيم شأنهم وارتباطهم بالمبدأ الأعلى، وهي خير مقنع لنا بضرورة اتباعهم والارتواء من معينهم واستلهامهم في كل ما نحتاجه في حياتنا.



3 - "كل ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان"

وبما أن الكرامة – كما أسلفنا - تمثل استثناءً في حركة السنن، فيتحتم علينا أن نتثبت من حصول الاستثناء وحصول موجبه، قبل أن نتسرع أو نتورط بالإيمان بالشيء وترويجه، دون أن يبرر لنا ذلك التسرع إلى نفي الأمر والاستخفاف به، فلا المسارعة إلى إعلان الإنكار ورمي الظاهرة المفترضة بالخرافة أمر صحيح، ولا المسارعة إلى الإيمان بالشيء وتقديمه على أنّه كرامة وبناء الاستنتاجات على ذلك هي أمر صحيح، فالأمر المنطقي هو أن نضع الظاهرة المفترضة في دائرة الإمكان، طبقاً لما نقل عن ابن سينا: "كل ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان".

وفي الوقت الذي نخطّأ فيه المسارعة إلى الإنكار والمسارعة إلى الاعتقاد بالشيء دون دليل، فإننا نرفض أيضاً تخوين هؤلاء أو هؤلاء، فمن ناحية أخلاقية وفي ضوء المعايير الشرعية لا يحق لي اتهام من أنكر هذه الكرامة بأنّه ناقص الإيمان وضعيف الاعتقاد أو رميه بـ "الوهابية المقنعة"، وهو الأمر الذي يقع فيه بعض من يقدمون أنفسهم على أساس أنهم "أساتذة الأخلاق والعرفان والحكمة"، وفي الوقت عينه لا يحق لمن لا يؤمن بهذه الكرامة أو تلك أن يتهم من آمن بها بأنّهم خرافيون أو لا عقلانيون.

مع الإشارة إلى أنّه ربما كان ضرر المسارعة إلى التصديق مع ترويج الأمر على أنّه كرامة أكبر من ضرر المسارعة في الإنكار، لأنّ التصديق والترويج سينعكس سلباً على صورة الجماعة والمذهب الذي تنتمي إليه.

4- "قل هاتوا برهانكم"

ثم إنّه وبعد وضع المسألة في دائرة الإمكان تأتي مرحلة لاحقة، وهي مرحلة إقامة الدليل، والمطالب بالدليل في المقام ليس النافي للكرامة، بل المثبت لها، أي الذي يزعم وجود ظاهرة غير طبيعيّة ومخالفة لحركة السنن، والمنهجيّة العلميّة تفرض علينا وضع كل الاحتمالات المتصورة أمامنا دون أن نستبعد أي احتمال منها، لنتساءل: هل لهذه الظاهرة تفسير علمي واضح أم لا؟ هل أنها مفبركة ومخترعة لبعض الأغراض المادية أو السياسية والتعبوية والمذهبية؟ هل ثمة أمر طبيعي قد حصل وخاله الناس اشتباهاً على أنه كرامة ؟ أم لا هذا ولا ذاك وينحصر تفسيرها بشيء واحد، وهو أنّها ظاهرة غريبة، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام احتمال الكرامة؟

وهكذا يتبين أنّ احتمال الكرامة لا يمكن إثباته إلاّ بعد استبعاد احتمال التفسير الطبيعي والعلمي للظاهرة، واستبعاد احتمال "الفبركة" والاختراع أيضاً، واستبعاد احتمال الاشتباه، وبعد نفي هذا وذاك واستبعاد هذه الاحتمالات قد لا نجد مفراً من تفسير الظاهرة بتفسير غيبي يتمثّل بخرق قوانين الطبيعة.

ولا يخفى أنّ إثبات احتمال الكرامة ( من بين الاحتمالات المتقدمة) ليس بهذه البساطة، بل ربما كان أضعف الاحتمالات في المسألة، لا لأنّه احتمال واحد وإزاءه أو في مقابله عدة احتمالات ولا يمكن اثباته إلاّ بنفيها فحسب، بل لأنّه (أي احتمال الكرامة) بطبيعته احتمال مخالف لحركة القوانين الطبيعية التي جرت عليها سنة الله في الكون، لأنّ الله أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها، كما نصت عليه بعض الروايات الواردة عن بعض أئمة أهل البيت(ع).

وغني عن البيان، أنّ الدعوة إلى التثبت قبل إصدار الأحكام وقبل المسارعة إلى التصديق بالأمر ثمّ الترويج له، لا تنمّ عن ضعف في الإيمان كما قد يتخيله بعض الناس، بل إنّ الأمر على العكس من ذلك تماماً، فالدعوة إلى التثبت هي دليل إيمان ومن مقتضيات التدين، لأن المنهج القرآني قد نهى عن اقتفاء الظنون والعمل بها، لأنها ليست مصدراً سوياً لبناء المعرفة ولا لتاصيل العاطفة ولا لحركة السلوك، قال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً}، كما أنّ القرآن الكريم قد أكّد بشكل جلي أنّ ميزان الصدق والكذب هو في توفر البرهان وعدمه، قال تعالى: { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ( البقرة 111)، فالصادق في دعواه هو الذي يقيم عليها دليلاً وبرهاناً، بينما علامة الكذب والكذّاب هي في ضعف حجته وبرهانه.


مثال على تثبت العلماء

من ذكريات أيام الدراسة في حوزة قم أنّ بعض المشايخ جاء ذات يوم وهو يتأبط كتاباً له وهو معتز بتوفيق الله له لتأليفه، والكتاب يتحدث عن "الشجرة المعجزة" التي ترشح دماً في عاشوراء، وطلب من بعض أساتذتنا أن يكتب له تقديماّ يؤيّد فيها ما جاء في الكتاب، ولأنّ هذا الأستاذ كان عالماً دقيقاً ولا يؤخذ بالعواطف والشائعات، وفي الوقت عينه لا يريد أن يظهر بمظهر من ينكر كرامات أهل البيت (ع) قال لذاك الشيخ: أنا على استعداد لكتابة مقدمة تؤيد مضمون هذا الكتاب.. لكن بشرطين:

الأول: أن تجلس تحت هذه الشجرة لمدة سنة كاملة، ليتسنى لك ولنا التثبت والتأكد من أن هذه الشجرة لا تنزف طيلة أيام السنة ولا تخرج منها هذه المادة إلا في يوم عاشوراء .

الثاني: أن تلاحظ بنفسك أو تأتينا بدراسة موثوقة عن أشجار أخرى من نفس هذه الفصيلة تبيّن ما إذا كان لهذا النوع من الأشجار خاصيّة طبيعية في بعض فصول السنة تؤدي إلى خروج هذه المادة الحمراء.

وأخال أنّ صاحبنا لمّا سمع بهذين الشرطين الدقيقين والعلميين عرف الجواب وآيس من أن يحصل على شهادة مجانية لترويج كتابه.

مثال آخر: عدم التصديق لا يعني التكذيب

وكما أنّ عدم التصديق بكرامة هنا أو هناك لا يعني ضعفاً في الإيمان، فإنّه لا يعني أيضا تكذيب مدعي الكرامة، فمدعي الكرامة قد يكون ثقة جليلاً ولا يتهم بالكذب والتزوير، ومع ذلك قد لا يمكننا تصديقه والأخذ بما يقوله، لأننا قد نعلم باشتباهه فيما ادعاه، والوثاقة والجلالة لا تعنيان العصمة عن الخطأ والاشتباه، وهذا ما تنبئك به القصة التالية التي أعرفها عن قرب:

كان لدى أحد المؤمنين حفيد مصاب بمرض نفسي يعرف بـ "التوحّد"، وهو مرض لا علاج له، وبدافع إيماني وثقة عظيمة بالله قرر الرجل أخذ حفيده لزيارة مقام السيدة زينب عليها السلام في سوريا، ليطلب من الله تعالى ببركتها وكرامتها أن يمنّ على حفيده بالشفاء، وهكذا كان فذهب الرجل مصطحباً حفيده ومعه أيضاً أم الطفل وجدته، وأٌدخل الطفل إلى المقام من جهة النساء، وأخذت أمه وجدته تدعوان الله تعالى بشفاءه، وتقولان له، أي للطفل: قل: يا الله شافني بحق السيدة زينب، أو قل: "يا ستي زينب"، أو غيرها من الكلمات، والصبي واجم لا ينطق بكلمة ولا يرد على طلبهما، وهنا اجتمع عدد من النسوة حول الطفل وأخذن يقلن له بإلحاح: "قل يا ستي زينب"، وعلى كثرة الإصرار ردد الطفل معهن تلك الكلمة، قائلاً: " يا ستي زينب"، وما أن سمعته النسوة ينطق بها حتى انتزعنه من يدي أمه وحملنه على الأكف وأخذن يطفن به في أرجاء المقام وهن يهتفن ويصرخن بصوت عال: "حدثت معجزة .. نطق الصبي الأخرس"! وقد ضاع وسط هذه الضوضاء صوت الأم وهي تصرخ بهاتيك النسوة: دعوا ابني فإنه يتكلم من الأساس وليس بأخرس!!

إنّ هؤلاء النسوة عندما يتحدثن في بلدانهن عمّا رأته أعينهن من "كرامة" فلسنا بكاذبات، ولكنهن بالتأكيد واهمات.

5- الرجوع إلى أهل الخبرة

ثمّ إنّ الذي يدرس الظاهرة ويفند الاحتمالات المشار إليها ليس عامة الناس، وليس بالضرورة أن يكونوا علماء دين، بل هم أهل الاختصاص الموثوقون، فعندما نكون أمام "كرامة" تتحدث عن شفاء إنسان من مرض عضال – مثلاً - ، فمن الطبيعي أن الذي يؤكد شفاءه هم الأطباء، ولذا من المفترض أن نسألهم عن مدى حصول الشفاء فعلاً وما هو تفسيرهم ذلك؟ إذ ربما قدموا لنا تفسيراُ علمياً معقولاُ لشفائه، وعندما نكون أمام ظاهرة خروج سائل يشبه الدم من شجرة معينة (كما في الشجرة التي يزعم البعض أنها ترشح دماً في يوم عاشوراء) أو من جدار أحد المقامات (كما في رشح الدم المزعوم في مقام "السيدة خولة" في بعلبك)، فعلينا الرجوع إلى علماء مختصين بالتركيبات الكيميائية، فلعل ثمة مزيجاً أو تركيباً كيميائياً معيناً أدى إلى حصول هذه "الظاهرة" إما بصورة طبيعية أو بصورة مفبركة، وعلينا أيضاً الرجوع إلى المختصين بالشأن الفني التصويري، فلعل ما نراه بصورة دم هو نتيجة بعض المؤثرات الضوئية التي توهم الباصرة بأنّه دم، أليس ذلك ممكناً ونحن في عصر العجائب.

والسؤال أين اللجان التي تشكلت على هذا الصعيد أمام الظاهرة المدعاة، وأمام هذا السيل من الكرامات التي نسمع عنها باستمرار.

إنّ ما نراه لدى المسيحيين على هذا الصعيد ( وبصرف النظر عن مدى تصديقنا بما يحكى من "كرامات") هو أنهم عندما يتداول الناس الحديث عن ظاهرة من هذا القبيل تمّت على يدي راهب أو في "مقامه" كأن يحكى عن عمليات شفاء المرضى أو غيرها من "الكرامات" المدعاة يعملون على تشكيل لجان متخصصة ومحايدة وموثوقة وتعمل على دراسة الظاهرة دراسة متأنية قد تمتد لسنين طويلة قبل إصدار الحكم بتأكيد "الكرامة" و"تطويب" صاحبها قديساً أو نحو ذلك.

6- الكرامة وإثبات صدقية المقام

ما مدى دلالة الكرامة على صدقيّة المقام الذي لا دليل على صدقيته؟

والجواب على ذلك قد فصلناه في كتاب" المقامات الدينية- المشروعية، الأهداف، الضوابط"، وخلاصة القول في ذلك: أنّ الكرامة تارة تحصل في مقام ثابت الصدقيّة، كما لو حصلت في جوار قبر النبي الأكرم (ص)، أو في بيت الله الحرام وفي جوار الكعبة المشرفة، أو في مقام أبي عبد الله الحسين (ع) .. وهنا يكون التصديق بالكرامة بعد التثبت من حصولها من مؤشرات الإيمان، وأمّا لو حصلت الظاهرة الغريبة في المقامات التي لم تثبت صدقيتها، إمّا لعدم ثبوت وجود الشخصية التي بني المقام باسمها، أو لعدم ثبوت اعتبار هذه الشخصية من الناحية الدينيّة، أو لعدم ثبوت دفنها في هذا المكان، فهنا لا يمكننا الجزم بأنّ حصول الظاهرة يعدّ شاهدا على صدقية المقام، وفي الحد الأدنى فإنّ ذلك لا يمثل دليلاً قطعياً على الصدقيّة في المجالات المشار إليها.




[1] رحلات السيد محسن الأمين: ص145.
[2] قصص العلماء: ص44.






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon