حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية: التنوع البشري في خط التعارف والتكامل
الشيخ حسين الخشن



{يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا ًوقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن ّالله عليم خبير} (الحجرات: 13).
 
قصة الآية

 

 ذكر في أسباب النزول أكثر من قصة أو سبب لنزول هذه الآية المباركة، وكلها تصبّ في اتجاه واحد، ونكتفي بذكر اثنين منها:

 

1) لما كان فتح مكة أمر رسول الله (ص) بلالاً حتى أذّن من على ظهر الكعبة، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العاص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم يرَ هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً! فأخبر الله نبيه بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله الآية 1.

 

2) "مرّ رسول الله ذات يوم ببعض أسواق المدينة وإذا غلام أسود قائم يُنادى عليه يباع فيمن يزيد، وكان الغلام يقول: من اشتراني فعلى شرط، قيل: ما هو؟ قال: لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله (ص)، فاشتراه رجل على هذا الشرط، وكان يراه رسول الله (ص) عند كل صلاة مكتوبة، ففقده ذات يوم، فقال لصاحبه: أين الغلام؟ فقال: محموم يا رسول الله، فقال لأصحابه: قوموا بنا نعوده، فقاموا معه فعادوه، فلما كان بعد أيام قال لصاحبه: ما حال الغلام؟ فقال: يا رسول الله : الغلام قورب به ( شارف على الموت)، فقام (ص) ودخل عليه وهو في نزعاته، فقبض على تلك الحال، فتولى رسول الله (ص) غسله وتكفينه ودفنه".

 

 بيد أن هذا الاهتمام من رسول الله (ص) بهذا الغلام أثار حفيظة بعض المهاجرين وبعض الأنصار، تقول الرواية:" فدخل على أصحابه (ص) من ذلك أمر عظيم (وتلك من رواسب الجاهلية) فقال المهاجرون: هاجرنا ديارنا وأموالنا فلم يرَ أحد منا في حياته ومرضه وموته ما لقي هذا الغلام، وقالت الأنصار: آويناه(يقصدون النبي (ص)) ونصرناه وواسيناه بأموالنا، فآثر علينا عبداً حبشياً، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى...} 2

 

دلالات الآية ودروسها

 

إنّ الآية الشريفة قد أقرت جملة من المبادئ الهامة:

 

المبدأ الأول: التنوع في خط التكامل

 

 وهذا المبدأ أشار إليه المقطع الأول من الآية الشريفة وهو قوله:{ وجعلناكم شعوبا ًوقبائل لتعارفوا}، والجعل هنا جعل تكويني وليس تشريعياً، أي أننا أمام سنة إلهية تكوينية، والتنوع المذكور يمثّل نعمة كبرى وآية من آيات الله العظيمة، إذ به تستمر الحياة في تطورها وجمالها، قال تعالى مشيراً إلى هذا المعنى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين} (الروم: 22)، فاختلاف الألسنة والألوان هو آية لا يفقهها إلا العالمون، ومن الشواهد على أن التعدد المذكور هو سنة إلهية عامة أنّ الله تعالى يخاطب الجميع: {يا أيها الناس} بصرف النظر عن أديانهم وألوانهم.

 

 إنّ الآية تريد أن تقول لنا: إنّ الله تعالى لم يخلقكم شعباً واحداً، بل شعوبا متعددة، ولا عشيرة واحدة، بل عشائر مختلفة.

 

وقد يقال: لماذا هذا التعدد؟ وكيف يكون آية ونعمة وضرورة لتقدّم البشرية وتطورها، والحال أنّه مدعاة للاختلاف ومنشأ للنزاع والتصادم؟

 

والجواب على ذلك:  

 

أولاً: إنّه لولا تعدد الناس في ألوانهم وأشكالهم للزم اختلال النظام العام، إذ لنتصور أن الناس كلهم على شاكلة وهيئة واحدة ولون واحد وتفكير، فكيف سيتميز الناس؟ ونتعرف على المجرم ونميزه عن البريء؟ وكيف ستعرف المرأة زوجها، أو يعرف الرجل زوجته ؟! 

 

ثانياً: إنّ هذا التنوع والتعدد - شعوباً وأمماً وقبائل مختلفة - سيخلق الحوافز عند كل شعب من الشعوب أو جماعة من الجماعات لتنافس الآخرين وتقدم الأفضل، أترى أنّه لولا التنافس بين المؤسسات التجارية أو الشركات الاقتصادية والانتاجية والزراعية أكنّا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تطور وتقدم؟ بالتأكيد كلا، لأنّه بدون هذا التدافع  والتنافس سيفقد الإنسان الحافز نحو التجديد والإبداع وتقديم الأفضل، وهذا هو ما يعبر عنه القرآن الكريم بقانون التدافع، قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} (الحج: 40)، فالتدافع إذاً هو الذي يحفظ المعابد والمساجد وهو الذي يطوّر الحياة بكافة مجالاتها، وينبغي أن لا يخيفنا  تنافس الحضارات والشعوب، فذاك أمر طبيعي، بل هو سنة الله في خلقه.

 

   ثالثاً: إنّ الحياة سوف تفقد رونقها وجمالها وسحرها لو كان الناس جميعهم على نسق واحد من الشكل أو الملكات العقلية والإدارية والوظيفية، وربما أدى ذلك إلى شلل الحياة وجمودها،  لهذا لا تقل لماذا لم يخلقنا الله على فكر واحد ومزاج واحد وإمكانات واحدة؟ لأنّ هذا يعني الرتابة والجمود، تماماً كجمود مملكة النحل، فإنها وعلى الرغم من عظيم صنعها واتقانها وتنظيمها تتصف برتابة وجمود دائم، وهذا ما لا يريده الله للإنسان، إنّه يريد له أن يكون متحركاً في عقله وتفكيره وفي حياته ليتطور نحو الأفضل، قال تعالى:{نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون} (الزخرف: 32)، هذه هي سنة الله وقانونه، وهو قانون في غاية الحكمة والروعة، فليس بالإمكان أفضل مما كان.

 

 وأمّا أنّ التنوع قد يكون مدعاة للاختلاف والصراع، فهذا صحيح، ولكنه ضريبة لا بدّ منها، إنها ضريبة اختيار الإنسان وحريته، ولكنّ الله سبحانه أراد لنا نحن أن نعمل على ضبط الاختلاف وتنظيمه حتى لا يتحولّ إلى نقمة على البشرية، لذا دعا سبحانه إلى أن يكون التعدد مدخلاً للتعارف، فقال بعد إقراره للتعدد والتنوع { لتعارفوا}، لتنعم البشرية بثمرات التنوع والتنافس، وعليه فالتنوع لا بدّ أن يدفع نحو التعارف لا التعارك، ونحو التكامل لا التسافل، ونحو التنافس والتآزر لا التناحر.

 

المبدأ الثاني: معيار التفاضل

 

في خضم هذا التدافع البشري المحموم سيسقط الكثير من الضحايا، وسوف ينجح أناس، ويسقط آخرون، سيعيش أناس عيشاً هنيئاً رغداً ويملكون المال والعشيرة، بينما آخرون سيظلون يعانون مرارات الجوع وشظف العيش، والسؤال: ما هو معيار النجاح والأفضلية عند الله تعالى؟ فهل الأفضل هو الأكثر مالاً وولداً ؟ وهل الأحسن هو الأكثر جمالاً ؟ وهل الأعز هو صاحب العشيرة والجاه؟ 

 

 تجيبنا الآية بتقديم معيار جديد في تحديد الأفضل، وهو معيار يختلف عن معاييرنا، ولا سيما معايير الجاهلية، إنّ معيار النجاح عند الله هو في طهارة القلب واللسان والعمل، فالأكرم عند الله هو المتقي، والمتقي هو الذي يعمل لله ولخدمة عيال الله، فأنتم - هكذا يريد أن يقول لنا الله - في تنوعكم وتعدد عشائركم واختلاف أعراقكم وألسنتكم وألوانكم عند الله سواء ولا قرابة بين الله وبين أحد منكم، إنّما القرابة هي قرابة التقوى والعمل، وهذا معيار إنساني عام ، ولذا قالت الآية {يا أيها الناس} ولم تقل "يا أيها المؤمنون"، ثم أردفت في تأكيد مبدأ المساواة قائلة:{إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}، فأنتم من أب واحد وأم واحدة.

 

 وانطلاقاً من ذلك، فإنّ الإسلام قد هدم كل قيم الجاهلية القائمة على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والأولاد، وازدراء الفقراء وتفضيل الأغنياء، ورفض كل أشكال التمييز العنصري، مؤكداً على أنّ القيمة الأساس هي للعمل الصالح، فعن رسول الله (ص): "أيها الناس إنّ ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإنّ أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي فضل على أعجمي إلاّ بالتقوى ألا فليبلغ الشاهد الغائب" .3

 

 وعن أمير المؤمنين (ع): "إنّما ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدو محمدٍ من عصى الله وإن قربت قرابته".4

 

 وهكذا فقد قال تعالى: {تبت يد أبي لهب}، مع أنّه عمّ رسول الله (ص)، بينما قال في الرجل الفارسي:"سلمان منا أهل البيت" 5

 

 ولذلك عندما نتأمل في أصحابه(ص) سنجد العربي والعجمي والحبشي والرومي والأبيض والأسود... وكان هؤلاء الفقراء أسرع الناس إلى الإيمان به.

 

من أخلاق النبي

 

 إنّ القصة الثانية المذكورة في سبب النزول تسلط الضوء على باقة طيبة من أخلاق النبي (ص)، هذه الأخلاق التي كانت هدفاً لبعثته وقد تميّز (ص) بها، وبسببها احتل القلوب، {إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} 6، ويجدر بنا أن نشير إلى بعض لطائف أخلاقه المستفادة من القصة المذكورة:

 

أولاً: تفقد أصحابه، فإنه (ص) لما تغيب الغلام المذكور افتقده وسأل عنه، وهذه من خصاله الطيبة، فقد كان (ص) يتفقد أصحابه فيما لو غابوا عن حضور الجماعة، أو حضور مجالسه، وهكذا يكون القائد الناجح على طريقة نبي الله سليمان: {وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد} (النحل: 20). وهذا في الحقيقة من شأن الإنسان الرسالي، فإنّه يعيش مع الفقراء ويهتم لأمرهم ويسأل عن أحوالهم، ولا يعيش في البروج العاجية بعيداً عن هموم الناس، قال تعالى مخاطباً نبيه الأكرم (ص) :{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}. ( الكهف 28).

 

وقد وجّه الإمام علي (ع) رسوله إلى مصر مالك الأشتر بضرورة تفقد الطبقة المستضعفة، قال: "الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى، فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من مالك... ولا تصعر خدك لهم، وتفقدْ أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال.." .7

 

وهكذا فإنّ المؤمن العادي عليه أن يتفقد إخوانه المؤمنين وجيرانه، "من حسن الجوار تفقد الجار" .8

 

ثانياً: تواضعه (ص)، فهو لم يتوان عن الذهاب مرة تلو أخرى لزيارة هذا الغلام المسلم، دون أن يدخله الكبر والتعجرف، بل إنّه تولى أمره الغلام عند موته وغسلّه وكفّنه ودفنه، وهكذا كان خلقه (ص) يقول أمير المؤمنين (ع): "ولقد كان (ص) يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاري ويردف خلفه" .9

 

ثالثاً: ولا بد لي أن أشير هنا إلى حقوق الخدم في الإسلام، وظاهرة الخدم منتشرة الآن في مختلف المجتمعات العربية والإسلامية، وتتحدث الأرقام عن تجاوزات كبيرة يتعرض لها الخدم وإهانات متنوعة، ويبدو أنّ ظاهرة الخدم حلّت محل نظام العبودية، وهؤلاء لهم حقوق متعددة ومنهم:

 

1- إعطاؤهم حقوقهم غير منقوصة
2- احترام كرامتهم
3- عدم التكبر عليهم.

 

 في الحديث عن رجل من أهل بلخ قال: "كنت مع الرضا (ع) في سفره إلى خراسان فدعا يوماً بمائدة، فجمع عليها خدمه وغلمانه السودان، فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فقال: مه، إنّ الرب تبارك وتعالى واحد والأم واحدة والأب واحد والجزاء بالأعمال" .10

 

وفي الحديث: "كان رسول الله (ص) يعلف الناقة، ويعقل البعير ويقمم البيت ويجلب الشأن ويخصف النعل ويرقع الثوب ويأكل مع خادمه ويطحن عنه إن أعيا" 11، وعنه (ص): "من خشي الكبر فليأكل مع عبده وخادمه وليحلب الشاة" .12

 

رابعاً: إنّ ما شرطه الغلام على من يشتريه بأن لا يمنعه من الصلاة خلف رسول الله (ص) هو شرط يستحق التوقف عند ملياً، لأنّ يؤشر على أمر مهم قد حثّ عليه الإسلام، وهو المداومة على حضور الصلاة (صلاة الجماعة)، "فإنّ الله سبحانه يحبّ ما دام من عمل صالح ولو كان يسيراً" .13

 

وحول أهمية صلاة الجماعة ورد في الحديث الصحيح عن زرارة والفضيل قالا: قلنا له ( للإمام): الصلاة في جماعة فريضة هي؟ فقال: الصلوات فريضة، وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلها، ولكنها سنة من تركها رغبة عنها وعن جماعة المؤمنين من غير علة فلا صلاة له" .14
 

 

1-أسباب النزول للواحدي: ص265.
2-المصدر نفسه.
3-شرح نهج البلاغة: ج1 ص128.
4-نهج البلاغة: ج4 ص22.
5-المستدرك للحاكم النيسابوري: ج3 ص598.
6-السنن الكبرى للبيهقي: ج10 ص192، بحار الأنوار: ج16 ص210.
7-نهج البلاغة: ج3 ص101.
8-تحف العقول: ص85.
9-نهج البلاغة: ج2 ص59.
10-الكافي ج8 ص 230
11-بحار الأنوار ج 16 ص 227
12-الخصال 624
13-الجامع الكبير للسيوطي: ج1 ص452.
14-تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي: ج3 ص24.
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon