حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية:أومن كان ميتاً فأحييناه
الشيخ حسين الخشن



{أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}.(الأنعام:122).

 

قصة الآية

 

عن ابن عباس أنّها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل، وذلك أنا أبا جهل رمى رسول الله (ص) بفرث، وحمزة لم يؤمن بعد، فأُخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس، وهو يتضرع إليه ويقول: يا أبا يعلي أما ترى ما جاء به، سفّه أحلامنا وسبّ ألهتنا وخالف آباءنا ؟! قال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله! أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأنّ محمد عبده ورسوله، فانزل الله الآية 1. وقيل: نزلت في عمار وأبي جهل، وقيل: عامة في كل مؤمن وكافر، يقول الطبرسي: وهذا أولى، لأنّه أعم فائدة، فيدخل فيه جميع الأقوال المذكورة .2

 

الأسلوب القرآني

 

في البدء علينا التوقف عند أسلوب قرآني مبدع في طرح المفاهيم والحقائق، وخلاصته: إنّ اللفظ - كماهو معلوم – يمثّل القالب الذي يتمّ من خلاله إيصال المعنى إلى الآخرين، وكلما أحسن المتكلم أو الكاتب في انتقاء الألفاظ البليغة والعبارات الجميلة كلما وصلت فكرته إلى الآخرين بسهولة، وإحدى مزايا القرآن الكريم هي في قوة بلاغته وحشده كل المؤثرات اللغوية والكلمات ذات الإيقاع الخاص،  في سبيل إيصال فكرته ورسالته الى الناس.

 

 والآية المذكورة أعلاه تضمنت شيئاً من جمال الأسلوب القرآني، حيث نلاحظ إنّها لم تصدر حكماً قاطعاً فيما رامت إيصاله إلى الناس، بل طرحت المسألة فيما يشبه التساؤل،  مستنطقة الوجدان ومحاكية الفطرة السليمة، في محاولة جميلة لإيصال المرء إلى الحقيقة بنفسه، بدل إملائها عليه، فقالت: {أومن كان ميتا فأحييناه .. كمن مثله في الظلمات؟} فاحكموا أنتم وأجيبوا على هذا التساؤل؟!

 

 وهذا أسلوب بليغ ومؤثر وناجح من الناحية التربوية، ويجدر بنا اعتماده في عملنا الدعوي والتبليغي والتربوي، فالأجدى وبدل أن نملي على المتلقي ونلقي عليه الأفكار بطريقة ناجزة أن ندفعه بنفسه إلى الإستنتاج واتخاذ القرار وإصدار الحكم.

 

 وبالإضافة إلى أسلوب الاستنطاق الذي استخدمته الآية نجدها وظّفت جملة من الدلالات اللغوية في الوصول إلى غرضها، فاستخدمت تعابير كنائية ومجازية، عندما شبهت الكفر بالموت والإيمان بالحياة، وهكذا فإنها استخدمت أسلوب المثل {كمن مثله في الظلمات}.وهو أسلوب له وقعها الخاص في الإقناع .

 

مفاد الآية ومضمونها

 

إنّ الآية المباركة تتضمن الحديث عن حقيقة قرآنية وإسلامية واحدة، وقد عبرت عنها بتعبيرين:

 

1- الكفر موت والإيمان حياة

 

التعبير الأول، هو ما عبّر عنه قوله تعالى: {أفمن كان ميتاً فأحييناه}،إنّ الآية تقول لنا: إنّ الإنسان الكافر ميّت، وأنّه يحيا بالإيمان بالله، إذ ليس المقصود بالموت والحياة هنا معناهما الحقيقي، بل المعنى المجازي، فكني بالكفر عن الموت وعن الإيمان بالحياة ما أجملها من لفتة وما أعظمها وأعمقها من إشارة بليغة ! 

 

إن قلت: كيف يكون ميّتاً وهو يتنفّس ويأكل ويشربويمارس حياته بشكل تام؟ 

 

فالجواب: إنه ميتّ القلب والروح والبصيرة، فإنّ حياة الإنسان ليست بالجسد ولا بالتلذذ بملذّات الدنيا ومشتهياتها، فهذه الحياة إذا لم تكن هادفة هي أقرب إلى الحياة الحيوانيّة يقول علي(ع): "أو أكون كالبهيمة المربوطة همها علفها وشغلها تقممها"، إنّ الحياة الحقيقية هي حياة الروح التي تحيا بالإيمان، والفرح الحقيقي هو فرح القلب الذي ينبض بذكر الله ويعيش على حب الله، "إلهي .. بذكرك عاش قلبي"، فالقلب الذي لا يسكنه الله هو قلب ميت، والعقل الذي لا يعرف الله هو عقل يعيش في تيه وخيال وسبات عميق، لأنّ الله تعالى هو الذي يعطي الحياة معناها، ويعطي الإنسان معنى إنسانيته، يقول الشاعر:

 

ليس من مات فاستراح بميتٍ      غنّما الميت ميت الأحياء
إنّما الميت من يعيش كئيباً         كاسفاً باله قليل الرجاء

 

ولو أنّنا دخلنا إلى داخل الكافر لرأينا أن قلبه ميّت، فهو يعيش حياة عبثية لا معنى لها، ويعيش فراغاً قاتلاً، وعذاباً روحيّاً وقلقاً معنوياً وخوفاً من المجهول، وتلاحقه أسئلة المصير وتلح عليه وتضغط على أعصابه دون أن يجد لها جواباً مرضياً، إنّه الموت.. وهل بعد موت القلب من موت ؟! وهل بعد عذاب الضمير من عذاب؟!.

 

وقد عبّر القرآن الكريم فيالعديد من الآيات عن هذه الحقيقة بالتعبير المذكور، وهو أنّ الكفر موت، فقال في بعض الآيات: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون} وقال تعالى في آية أخرى: {إنك لا تُسمِع الموتى ولا تُسمِع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين}، وفي مود ثالث نجده تعالى يقول: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمُسمعٍ من في القبور} (فاطر ).

 

2- الإيمان نور والكفر ظلمات

 

والتعبير الثاني في الإشارة إلى الحقيقة المذكوة هو ما جاء في قوله : {وجعلنا له نوراً... كمن مثله في الظلمات}، حيث دلّت على أنّ الإيمان نور، نور في القلب، وفي العقل، وفي الحياة، أما الكفر فهو ظلمة، بل ظلمات، ظلمة للروح، وظلمة للفكر والعقل، وظلمة في دروب الحياة. 

 

ما المراد بالنور؟

 

 إن في بيان المراد من النور في الآية المباركة عدة اتجاهات أنهاها في مجمع البيان إلى ثلاثة، فقال: "فالمراد بالنور هنا الإيمان، وقيل العلم، لأن الجهل ظلمة بينما العلم يُهتدى به إلى الرشاد كما يُهتدى بالنور في الطرقات، وقيل: إنّ المراد بالنور هنا القرآن" .3

 

ويمكننا القول: إنّه لا تنافي بين المعاني الثلاثة المشار إليها وهي:( الإيمان، العلم، القرآن)، ونحن وإن كنا نرجح المعنى الأول بمقتضى ظهور الآية، بيد أننا نقول: إنّه لا مانع من أن تكون المعاني الثلاثة مرادة بأجمعها بشكل أو بآخر، ولا سيما أنّها متداخلة وبعضها يكمل البعض الآخر، وبيان ذلك 
أ‌- أنّ نور "الإيمان" لا يكتمل بدون العلم والفقه، والإيمان الذي يدخل قلب الإنسان الجاهل قد يفارقه بسهولة، كما دخله بسهولة، ولذا فإنّنا نعتقد أنّ المدخل الصحيح إلى الإيمان هو طريق العلم، والعلم بدون شك هو نورٌ يستقرّ في القلب، يقول الإمام علي(ع): "ألا إنّ لكل مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه" .4

 

ب‌-  كما أنّ :الإيمان" وكذا " العلم" لا يكتملان بغير القرآن ونوره وهديه، قال تعالى: {لقد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين}، وعن رسول الله(ص): "عليك بتلاوة القرآن فإنّه نورٌ لك في الأرض وذخرٌ في السماء" وعن الإمام علي(ع): "تعلّموا القرآن فأنّه أحسن الحديث، وتفقّهوا فيه، فإنّه ربيع القلوب، واستشفّوا بنوره فإنّه شفاء الصدور".
 
كيف يمشي المؤمن بنوره؟

 

والآية الشريفة تصف النور الذي يكون لدى المؤمن بأنّه يمشي به في الناس، وليس المقصود به  نوراً حسياً - كنور الكهرباء مثلاّ -  يضيء أمامه ظلمة الليل وعتمته، فما المراد بهذا النور ؟  

 

المراد بكونه يمشي به في الناس - بحسب الظاهر - أنّ نور الإيمان يعطيه رؤية واضحة وبصيرة نافذة فلا تلتبس عليه الأمور، فيسير بين الناس ويعيش فيهم وسط اختلاف الآراء والأهواء وهو على بيّنة من أمره ومرتاح البال، وهذا ما يعبر عنه القرآن بالفرقان، قال تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا إن تتّقوا الله يجعل لكم فرقاناً}، وفي بعض أدعية الصحيفة السجاديّة نجد أن الإمام السجاد(ع) يناجي ربه قائلاً: "وهب لي نوراً أمشي به من الناس واهتدي به في الظلال واستضيء به من الشكّ والشبهات"

 

 هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ نور الإيمان، كما يعطي الإنسان المؤمن بصيرة في دينه ونفاذاً وسداداً في رأيه، فإنّه يعطيه أيضاً اطمئناناً قلبياً وسكينة روحية، فيسير في الناس وهو آمن مطمئن لا يعيش قلقاً ولا خوفاً، لأنه متصل بالله وهو مصدر الأمن والإطمئنان، {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}.

 

وقد نستوحي من تعبيرالآية {يمشي به في الناس}، ضرورة العمل على نشر نور الإيمان والقرآن بين الناس، لأنّ من يمتلك النور لا يمكن أن يكون أنانياً ويرضى لنفسه أن تعيش في الضوؤ بينما يعيش الآخرون في الظلمات. 

 

نور الدنيا ونور الآخرة

 

والنور الذي نحصل عليه هنا في دار الدنيا وهو نور الإيمان سيبقى ملازماً لنا إلى يوم القيامة وسوف يكشف عنا ظلماتها وينجّينا من كل عقباتها وأهوالها وسيكون أنيسنا في القبر ودليل في المحشر، ومن لا يعمل على امتلاك هذا النور في الدنيا فعبثاً يحاول تحصيله في الآخرة، يقول تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم * يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم...}.

 

الله مصدر النور

 

 ثمّ إنّ منشأ هذا النور هو الله تعالى،كما أشارت الآية {وجعلنا له نوراً}، فالله عز وجل هو مصدر هذا النور، بل هو النور،{ الله نور السماوات والأرض}، وإذا كان نور الإيمان مستمداً من  نور الله تعالى، فلا بدّ أن يكون هو الأقوى من كلّ الظلمات، ولا يمكن أن يطفئه أحد.{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون}.(الصف 8)

 

لمسات ولطائف

 

بالإضافة إلى اللطائف البلاغية التي اشتملت عليها الآية وأشرنا إليها في الفقرة الأولى من المحاضرة، فإننا نجد من الضروري في الختام أن نشير إلى عدّة لطائف بلاغية رائعة ودلالات جميلة أخرى تضمنتها الآية المباركة:

 

1- يلاحظ أن الآية المباركة جاءت بلفظ النور مفرداً،{ نوراً يمشي به }، بينما استخدمت الجمع في الظلمة {كمن يمشي في الظلمات}، فما هو سرّ ذلك؟
  ربما كان الوجه في ذلك أنّ النور حقيقة واحدة، وإن تفاوتت شدّةً وضعفاً، أمّا الكفر فهو مذاهب شتى أنواع عديدة وليس نوعاً واحداً، وظلمات متعدّدة وليس ظلمة واحدة.

 

2- واللافت هنا أيضاً أنّ الله تعالى لم يقل "كمن هو في الظلمات"،  وإنما قال"{ كمن مثله في الظلمات}، يقول الطبرسي وجه ذلك:" ذكره بلفظ المثل ليبيّن أنه بلغ من الكفر والحسرة غاية يضرب بها المثل. 5.

 

3- أن الآية وصفت الكافر بالميت بالتخفيف، فما الفارق بين الميت بالتخفيف وبين الميّت بتشديد الياء وكسرها؟

 

ذكر أهل اللغة وجود فارق معنوي بينهما وهو أن الميت بالتخفيف هو الذي مات بالفعل أما الميّت فيراد به من لم يمت فعلاً، قال تعالى :{ إنك ميت وإنهم ميتون}.وذهب آخرون إلى أنهم بمعنى واحد، واستشهدوا بقول الشاعر المتقدم، فإنه في الشطر الثاني من البيت الأول، ( إنما الميت ميّت الأحياء) ساوى بين الميت والميّت.

 

اللهم صل على محمد وآل محمد واجعل لي في قلبي نوراً وفي لساني نوراً وفي بصري نوراً وفي سمعي نوراً وفي عيني نوراً وبين يدي نوراً ومن خلفي نوراً وعن يميني نوراً وعن شمالي نوراً ومن فوقي نوراً ومن تحتي نوراً وعظم لي النور، واجعل لي نوراً أمشي به في الناس، ولا تحرمني نورك يوم ألقاك". 6
 
 

 

1-أسباب النزول للواحد النيسبوري: ص150-151 وانظر أيضاً مجمع البيان ج4 ص51 
2-مجمع البيان م.ن
3-مجمع البيان: ج4 ص152.
4-نهج البلاغة: 
5-مجمع البيان ج4 ص152.
6-المصباح للشيخ الطوسي ص180.
 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon