حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> متنوعة
دور الحاكم في حماية البيئة
الشيخ حسين الخشن



 

ليس خافياً أن للسلطة دوراً هاماً ليس في حماية البيئة من التلوث وحفظ مواردها من الاستنزاف وحسب، بل في رسم السياسات البيئية التنموية وإعداد الخطط والبرامج وبذل الجهود العملانية في سبيل بيئة نظيفة.

 

وقبل الحديث عن صلاحيات الحاكم على هذا الصعيد يهمني التأكيد على أنه حتى لو عجزت الأحكام المجعولة بالعنوان الأولي عن معالجة المشاكل وتقديم الحلول الوافية، فإن بالإمكان اجتراح الكثير من الحلول والمعالجات للمشكلات البيئية في ضوء الصلاحيات التي يمنحها التشريع الإسلامي للحاكم الشرعي، وجُلّ هذه الصلاحيات يمكن إثباتها وتوجيهها فقهياً سواء كانت نظرية الحكم في الإسلام ترتكز على مبدأ الشورى أو مبدأ ولاية الفقيه، وأما صلاحيات الحاكم ومسؤولياته في المجال البيئي فيمكن تلخيصها بالتالي:

 

التخطيط والتنفيذ:

 

وأولى هذه الصلاحيات والمهام هي ما أشرنا  إليه في مستهل الحديث حول وضع السياسات وإعداد الخطط والبرامج الهادفة إلى حماية البيئة بكافة عناصرها ومكوناتها وحفظ التوازن البيئي، وكون ذلك من مسؤولية السلطة باعتبار أن ذلك هو من الشؤون والقضايا العامة التي لا تخص الأفراد، وإنما تتصل بالنظام وتمس الأمن الصحي والبيئي للإنسان، وما كان كذلك يدخل ضمن مسؤوليات الحاكم الشرعي، وربما يدخل فقهياً ضمن ما يعرف بالقضايا الحسبيّة، ولو أن بعض مؤسسات المجتمع الأهلي والمنظمات المدنية قامت ـ كما قد يحصل في أيامنا ـ بمهمة التخطيط وإعداد البرامج والمقترحات ذات الصلة بالشأن البيئي، فإنها تكفي الحكومات مؤنة القيام بهذه المهمة، لكن يبقى أن المهمة الأصعب التي تقع على عاتق أنظمة الحكم حصراً هي مهمة تنفيذ البرامج وتحويل السياسات والمخططات إلى قوانين، وتهيئة الوسائل والمعدات التنفيذية، والسهر على تطبيق القوانين ومنع التعديات والتجاوزات، فهذه وأمثالها تدخل في صلب المهام الموكولة إلى السلطات الحاكمة كونها من القضايا النظامية، فضلاً عن اندراجها تحت عنوان عمارة الأرض، وهي من مسؤوليات الحاكم، كما جاء في عهد أميد المؤمنين(ع) إلى مالك الأشتر: "هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: 1 ـ جبابة خراجها، 2 ـ وجهاد عددها. 3 ـ واستصلاح أرضها. 4 ـ وعمارة بلادها..."(نهج البلاغة الكتاب 53، وتجدر الإشارة إلى أن سند العهد صحيح، راجع: دراسات في ولاية الفقيه 4/303، القضاء في الفقه الإسلامي للحائري51).

 

التقنين والتشريع:

 

والمهمة الثانية المناطة بالحاكم الشرعي هي مهمة التقنين واتخاذ التدبيرات اللازمة والضرورة على صعيد حماية البيئة، وما يصدر عن الحاكم في هذا المجال من تدبيرات هو قوانين ملزمة تجب إطاعتها ولا تجوز مخالفتها، وإنما نحتاج إلى هذه التدبيرات ـ كما أشرنا في مستهل الحديث ـ في حال عدم وفاء القوانين والأحكام الأوليّة بعلاج المشكلات البيئية، وتوضيحاً لهذه المهمة أو المسؤولية، نقول: إن هناك أكثر من دائرة يتم اللجوء فيها إلى الأحكام التدبيرية أو ما يعرف في الفقه السياسي الإسلامي بالأحكام السلطانية.

 

الدائرة الأولى (حفظ النظام):

 

 إن إجراءات حفظ النظام العام هو من مسؤوليات الحاكم المتيقنة التي لا شك ولا خلاف فيها، كما أنه ـ أعني حفظ النظام ـ من أوسع العناوين وأكثرها طواعية ومرونة، كما أنه يعتبر من المقاصد الأساسية التي بعثت الرسل وتنزلت الشرائع لأجل تحقيقه وإرسائه، وفي ضوئه تنحل الكثير من المشكلات البيئية أو غيرها، وهو يمنح الحاكم قدرة على اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بوضع حدٍ للتصرفات المسيئة إلى أمن الناس أو استقرارهم، ويمكنّه من اتخاذ التدابير اللازمة واصدار القوانين الضرورية لحماية النظام الصحي أو البيئي أو نظام المواصلات... فله ـ على سبيل المثال ـ أن يمنع من إنشاء المصانع أو المعامل داخل القرى والمدن بسبب تأثيرات ذلك على السلامة العامة، أو يصدر قانوناً ينظم بموجبه عمليات البناء ويمنع البناء العشوائي الذي يفتقد شروط السلامة الصحية، وله أن يأمر بوقف السيارات العاملة على المازوت ـ مثلاً ـ من السير داخل الأماكن المأهولة بسبب تأثيراتها السلبية على الصحة العامة.

 

الدائرة الثانية (ملء الفراغ التشريعي):

 

والدائرة الثانية التي تتحرك فيها الأحكام التدبيرية هي دائرة المفاهيم الإسلامية المقاصدية، ودور الحاكم الشرعي في المقام هو وضع الصيغ القانونية الملائمة لتجسيد هذه المفاهيم وتطبيقها، ولعلّ من أبرز العناوين المقاصدية ذات الصلة بالشأن البيئي: عنوان عمارة الأرض المشار إليه، قال تعالى: {هو أنشألكم من الأرض واستعمركم فيها... وقد سلف أن أمير المؤمنين أكدّ في عهده إلى مالك الأشتر أن "عمارة الأرض" هي من صلاحيات الحاكم ومهامه، وبالرغم من كون عنوان "عمارة الأرض" عنواناً بيئياً بامتياز لكنه عام وفضفاض (هذه ميزة ايجابية في المفاهيم القرآنية والإسلامية، فإن عمومية المفهوم أو النص تمنحه مرونة تمكنّه من مواكبة الزمان والتطورات المستجدة)، فنحتاج  إلى تسييله وتحويله إلى قوانين تفصيليه تساهم في تحقيق الهدف المذكور، ولعلّ من الطبيعي أن يناط هذا الأمر بيد الحاكم الشرعي، بل إنّ ذلك من مسؤولياته كما يوحي بذلك عهد أمير المؤمنين(ع) إلى مالك الأشتر، إن العناوين المقاصدية ليست مجرد مفاهيم أخلاقية أو مواعظ استحبابية، وإنما هي مفاهيم كليّة تقوم بتوجيه العملية الاجتهادية وترشيدها ووضع الضوابط والأطر التي تحكم حركتها، كما أنها تفتح المجال واسعاً أمام الحاكم الشرعي لينطلق في حركة التقنين على هدي هذه المفاهيم وبوحي منها، ويعمل على اجتراح الصيغ الآليات القانونية الملائمة لتجسيد هذه المفاهيم، والصيغ المشار إليها ليست ثابتة على الدوام، بل مرنة ومتحركة وتحكمها المصالح النوعية التي تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر، تبعاً للمستجدات والمتغيرات المتلاحقة في المجال البيئي، وبذلك يتضح "أن علاقة الإنسان بالطبيعة تتطور عبر الزمن تبعاً للمشاكل التي يواجهها الإنسان باستمرار وتتابع خلال ممارسته للطبيعة" وهذا خلافاً لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فإنها "ليست متطورة بطبيعتها: لأنها تعالج مشاكل ثابتة جوهرياً مهما اختلف إطارها ومظهرها"(اقتصادنا685).

 

ومن العناوين الإسلامية التي تساهم في توفير متسع لحركة الأحكام التدبيرية العناوين التالية:

 

الرفق، والاقتصاد، والزهد، والقناعة، أو نحوها مما يتصل بشكل أو بآخر بالأنشطة البيئية، ويصلح للتوجيه والإرشاد التربوي، من قبيل: كراهة الطمع والحرص والاحتكار... والدور الذي يلعبه الحاكم الشرعي في المقام هو الاستهداء بهذه العناوين التي تندرج ـ بحكم عدم إلزاميتها ـ في نطاق ما يعرف بمنطقة الفراغ التشريعي، لاستصدار التدبيرات التي يراها ضرورية على الصعيد البيئي، بناء على الصلاحية المعطاة له في ملء منطقة الفراغ المشار إليها.
والجدير بالذكر إن منطقة الفراغ هذه لا تعبّر عن وجود نقص أو إهمال تشريعي، لأنّ المقصود بها أن الإسلام لم يملأ كل الوقائع والموضوعات بالأحكام الإلزامية ـ وجوبية كانت أو تحريمية ـ بل ترك مساحة كبيرة خالية من أي حكم إلزامي، وهي تضم كل ما يعرف بالمباحات بالمعنى الأعم الشامل للمستحبات والمكروهات والمباحات بالمعنى الأخص، وجعل صلاحية ملئها ـ بمعنى استصدار قوانين إلزامية في نطاقها ـ بيد الحاكم الشرعي الذي يراعي في ذلك مقتضيات المصلحة العامة.(راجع: اقتصادنا:690).

 

إن صلاحية الحاكم في ملء منطقة الفراغ بالأحكام التدبيرية المناسبة سوف يساعد على معالجة الكثير من المشكلات البيئية وإيجاد الحلول لها، وإليك بعض الأمثلة التطبيقية في المقام:

 

ـ إن صيد الطيور والحيوانات والأسماك مباح في الأصل، لكن لو رأى الحاكم أن ثمة مخاطر تتهدد الثروة الحيوانية بالانقراض أو تضائل أعدادها فله أن يحدد أماكن أو مواسم خاصة للاصطياد.

 

ـ وإن الاحتطاب ورعي المواشي في المباحات محكوم بالجوار دون إذن مسبق من الحاكم الشرعي وفق بعض المباني الفقهية، إلاّ أن مصلحة الحد من التصحر أو إقامة محميات طبيعية تقضي بتنظيم ذلك واتخاذ الإجراءات الملائمة على هذا الصعيد.

 

ـ والتدخين في الأماكن العامة محكوم بالإباحة والحلية بالعنوان الأولي على حسب مشهور الفقهاء، لكن ومع صرف النظر عن القول بالحرمة ـ وهو الأقرب ـ فإنّ للحاكم وفي سبيل محاصرة هذه الآفة والحد من انتشارها أن يمنع من ذلك ويعاقب عليه.

 

إلى غير ذلك من الموارد التي يتمكن الحاكم من ملئها بالأحكام التدبيرية بحكم ما أعطي من صلاحية في ملء منطقة الفراغ التشريعي.
يبقى أنه ما الدليل على أن الشريعة خولّت الحاكم الشرعي ملء منطقة الفراغ بما يراه مناسباً من الأحكام التدبيرية الإلزامية؟

 

استدل الشهيد الصدر على ذلك بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}(النساء:69).

 

وربما يلاحظ على ذلك: بأن ما دلّ على لزوم إطاعة ولي الأمر ـ ومنه الآية ـ لا تمنح الحاكم سلطة التشريع، ولا تحدد موارد الإطاعة، وإنما تدل على وجوبها فحسب، فنحتاج في تحديد مواردها ونطاقها وحدودها إلى دليل آخر.
وقد أورد السيد رحمه الله جملة من النماذج التي استخدم فيها رسول الله(ص) صلاحياته كحاكم، في حدود منطقة الفراغ، من قبيل ما روي عنه من منع بيع فضل الماء والكلأ، أو منع بيع الثمرة قبل نضجها، أو ما ورد في عهد أمير المؤمنين(ع) إلى مالك الأشتر حول تحديد الأسعار...(إقتصادنا690).

 

إلاّ أن هذه الأمثلة وسواها مما ثبت أن النبي(ص) أعمل فيه سلطته كحاكم وقائد للمجتمع لا تصلح للاستدلال بها في المقام، إلا إذا ثبت انتقال صلاحيات النبي(ص) أو الإمام(ع) إلى الحاكم الشرعي، فالأمر يحتاج إلى دراسة أدلة الحكومة أو ولاية الفقيه، فإن تمت ولو في حدود ملء منطقة الفراغ فهو المطلوب، وإلاّ فما كان من الإجراءات مما يتوقف عليه حفظ النظام العام فللحاكم اتخاذه وتلزم إطاعته، وما لم يكن كذلك فلا دليل على ثبوت سلطة الحاكم فيه.

 

الدائرة الثالثة(موارد التزاحم): 

 

ومن الموارد التي يشرع فيها تدخل الحاكم ويكون لتدخله الدور الحاسم حالة التزاحم بين مصلحتين أو مفسدتين تتصل إحداهما بالموضوع البيئي والأخرى بشأن اجتماعي أو اقتصادي عام أو غيره، ففي مثل هذه الموارد يكون تشخيص الأهم من المهم المدخل الطبيعي لحسم الموقف، والتشخيص المذكور يقع على عاتق السلطة الشرعية، خلافاً لموارد التزاحم الفردية التي يترك فيها خيار التشخيص إلى المكلف نفسه، استناداً إلى اجتهاده أو تقليده، وبيان ذلك:

 

إنّ موارد التزاحم على نوعين: 

 

1 ـ موارد فردية، كما في التزاحم بين إقامة الصلاة وإنقاذ الغريق، بحيث أن المكلف تزاحم لديه وقت الصلاة مع وجود غريق بجانبه على وشك الهلاك، وهنا يعود إليه دور تشخيص الأهم من المهم ويقرر ـ ولو من خلال تقليده ـ أنّ إنقاذ الغريق أهم فيقدمه على إقامة الصلاة.

 

2 ـ موارد اجتماعية، كما لو دار الأمر بين استملاك أراضٍ خاصة قهراً ولو بدون رضى أصحابها، بهدف شق طريق عام تفرض المصلحة العامة شقها، تخفيفاً لمشكلة سير خانقة ـ مثلاً ـ قد تكون سبباً للمشاكل والصدامات، وبين احترام إرادة المالكين بموجب قانون تسلط الناس على أموالهم وأملاكهم، فهنا ولدى التزاحم بين هاتين المصلحتين، فإن تشخيص التزاحم وتحديد الأهم من المهم هو بيد الحاكم الشرعي وحده، وليس بيد الأفراد، لأنه لو ترك الأمر للأفراد لعمت الفوضى والاضطراب، وعليه فالحاكم هو الذي يقرر استناداً إلى شهادات ذوي الخبرة أن شقّ الطريق ـ مثلاً ـ أصلح للمجتمع، ويكون أمره نافذاً على الجميع.

 

إن صلاحية الحاكم في هذه الدائرة تبدو أكثر وضوحاً منها في الدائرة السابقة، لا سيما عندما يكون التزاحم موجباً للتنازع والتخاصم، فيدخل المورد في صلاحيات الحاكم كونه من صغريات مبدأ حفظ النظام وتطبيقاته.
وقد حاول بعض الفقهاء تفسير رأي الإمام الخميني في سعة صلاحيات الولي الفقيه والقاضي بأن "الحكم الولايتي يتقدم على الأحكام الأولية" بأن المقصود به هذا الدور، أعني صلاحية تحديد الأولويات وتشخيص الأهم من المهم في موارد التزاحم، مضافاً إلى صلاحية ملء الفراغ (المرجعية والقيادة: للسيد كاظم الحائري:165).

 

لكن كلمات الإمام الخميني يتراءى منها أن صلاحيات الحاكم أوسع وأشمل من حالات التزاحم أو ملء منطقة الفراغ، فهي تشمل موارد التزاحم التي ليس فيها تزاحم أصلاً، كما في الموارد التي يرى الحاكم أنّ في التصرف الكذائي مصلحة، وإن لم يكن في تركه مفسدة، اللهم إلاّ أن يقال: إنّ هذه الموارد إنْ لم تدخل في دائرة التزاحم، فإنها تدخل في منطقة الفراغ.

 

وعلى أي حال، فإن رأي الإمام الخميني رحمه الله في شأن ولاية الفقيه يمدّ الحكومة بصلاحيات واسعة جداً، تمكنّها من ايجاد حلول لمجمل المشاكل المستجدة ومنها ما يتصل بالشأن البيئي. يقول رحمه الله في بعض كلماته:

 

"لو كانت صلاحيات الحكومة ضمن إطار الأحكام الإلهية الفرعية لوجب القول أنه لا معنى للحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام(ص)، وأشير إلى نتائج ذلك حيث لا يمكن لأي أحدٍ أن يلتزم بها، مثلاً إن فتح الطريق الذي يستلزم التصرف بالمنازل أو حريمها لا يدخل ضمن الأحكام الفرعية، وكذا الأمر بالنسبة لموضوع التجنيد والإرسال الإلزامي إلى جبهات القتال، ومنع دخول وخروج العملة الصعبة، ومنع دخول وخروج أية بضاعة، ومنع الاحتكار في غير موردين أو ثلاثة، والجمارك والضرائب ومنع رفع الأسعار ورفض التسعيرة، ومنع توزيع المواد المخدرة، ومنع الإدمان بأنواعه من المشروبات الكحولية وغيرها، وحمل السلاح مهما كان نوعه، والمئات من أمثال ذلك... إن الحكومة هي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله(ص) وتعدّ واحدة من الأحكام الأولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصوم والصلاة والحج، ويتمكن الحاكم من تخريب مسجد أو منزل يقع في وسط الشارع وتسليم ثمن البيت لصاحبه، ويتمكن الحاكم من تعطيل المساجد في حالات الضرورة، وتخريب المسجد عندما يتحول إلى مسجد ضرار وتنعدم جميع السبل لرفع ذلك.."( منهجية الثورة الإسلامية ص:169 ـ 170).

 

العقوبات الرادعة:

 

الحديث عن صلاحيات الحاكم في المجال البيئي يقودنا إلى التساؤل عن صلاحياته في مجال فرض القانون وتطبيقه، وعن ماهية العقوبات الرادعة التي بإمكانها فرضها على المخالفين للمقررات والأنظمة البيئية المرعية الإجراء؟

 

والجواب: إنه ليس في المقام استثناء خاص، بل هو محكوم للقاعدة العامة التي يفرضها قانون العقوبات في الإسلام، ومن المعلوم أن للسلطة حق معاقبة المخالفين للأنظمة والقوانين المرعية الإجراء، تأديباً وإصلاحاً لهم وردعاً وزجراً لسواهم من الناس، والمعروف في الفقه الإسلامي وعليه النص(راجع على سبيل المثال: وسائل الشيعية: الباب 9 من أبواب حد الزنا الحديث 1و2، والباب 19 من أبواب حد القذف الحديث10من أبواب بقية الحدود والتعزيزات الحديث 1و3 وكذا الفتوى (راجع على سبيل المثال: الشرائع 4/168، المبسوط8/69، القواعد2/262)، أن للحاكم أن يستخدم أسلوب التأديب الجسدي المعبر عنه بالتعزير ضمن ضوابط وشروط خاصة في الكيفية والعدد...

 

وطبقاً لبعض المباني الفقهية فإنَ أسلوب التأديب الجسدي غير متعين، بل يمكن استخدام أسلوبين آخرين هما: الحبس، والغرامة المالية، والظاهر أنه لا ريب في مشروعية هذين الأسلوبين، بل تعينهما في الحالات التي يتوقف فيها ردع المخلين بالقانون على استخدامهما (التعزير أنواعه وملحقاته للشيخ لطف الله الصافي ص51)، وقد أفتى بذلك الفقيه الكبير السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله، قال: "لا يجوز لأي أحدٍ أن يضع في الشوارع والطرقات العامة ما يضر بالمارة ونحوهم، ولا بدّ من منع ذلك بأية وسيلة ممكنة ولو بستجيل عقوبة مادية عليه لحفظ الصالح العامة، وكذا في وضع القذارات فيها"(صراط النجاة1/430)، وفي إجابة على سؤال بشأن مَنْ يضع القذارات في ملكه ما يسبب تضرر جيرانه، هل يجوز وضع غرامة مالية عليه؟ قال رحمه الله : "إذا كان دفع الضرر منحصراً بذلك جاز"(م.ن).

 

وأمّا في الحالات التي لا يتوقف ردع المخالفين فيها للقانون على اعتماد هاتين العقوبتين فهناك خلاف فقهي في مشروعيتها والحال هذه، وظاهر معظم فقهاء الإمامية على عدم المشروعية (راجع: دراسات في ولاية الفقيه2/327وما بعدها وكتاب: التعزير للشيخ الصافي ص 37 وما بعدها)، وإن كان ثمة وجه فقهي قريب مال إليه بعض فقهاء الفريقين (يظهر ذلك من العلامة الحلي في الحبس، حيث قال: التعزير يجب في كل جنابة لا حدّ فيها... وهو يكون بالضرب والحبس والتوبيخ من غير قطع ولا جرح ولا أخذ مال" (تحرير الأحكام 2/239) وفي المغني لابن قدامه: "فصل: والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ولا يجوز قطع شيء منه ولا جرحه ولا أخذ ماله"(المغني10/348)، وفي الفقه الإسلامي وأدلته: " والتعزير يكون إما بالضرب أو بالحبس، أو الجلد، أو النفي، أو التوبيخ أو التغريم المالي ونحو ذلك مما يراه الحاكم رادعاً للشخص بحسب اختلاف حالات الناس"(الفقه الإسلامي وأدلته 4/287)، بجواز اعتماد إحدى هاتين الوسيلتين، إما للقطع بعدم خصوصية الموارد التي ورد النص فيها على عقوبة الحبس أو الغرامة المالية (موارد الحبس متعددة ومنصوصة وقد أفتى بها الفقهاء، وأما العقوبة المالية (أعم من الإتلاف أو التغيير أو التغريم) فقد ورد فيها نصوص عديدة يمكن الاطمئنان بصدور بعضها على أقل تقدير ولذا "فلا وجه لاستيحاش البعض منه" على حدّ تعبير بعض الفقهاء المعاصرين(دراسات في ولاية الفقيه2/341)، وإمّا لوفائهما بالغرض، لأن التعزير ليس أمر عبادياً تعبدياً، وإنما الغرض منه تأديب المخالفين للنظام رجاء إصلاحهم وردعهم، وكذا ردع سواهم ممن تسوّل له نفسه ارتكاب المخالفة، وقد فوّض أمر التعزير إلى الحاكم كما سلف، ولربما يرى الحاكم أن التعزير المالي أو الحبس أكثر تأثيراً وأصلح للجاني وللمجتمع من التعزير البدني، أو تمسكاً بالأولوية القطعية، على اعتبار أنه إذا جاز التعزير البدني المقتضي رفع سلطنة الإنسان على نفسه وهدر كرامته، فبالأولى يجوز التعزير المالي المقتضي رفع سلطنته على مالهٍ(دراسات في ولاية الفيه2/333).

 

ودعوى أنّ الأصل في التعزير هو العقوبة البدنية ليست دقيقة، وكذا تفسير التعزير الوارد في النصوص بخصوص الضرب، فإن التعزير هو مطلق التأديب، أجل لقد "شاع التعزير البدني خارجاً وفي الأخبار والروايات، لكونه أسهل تناولاً وأعم مورداً وأشد تأثيراً في الغالب"(م.ن).

 

وقد ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى جواز اعتماد العقوبة المالية أو الحبس في حال كونهما أخف ضرراً على الشخص من العقوبة البدنية أو مساويين لها، وقد بنى رأيه على قاعدة أنه لا يجوز اللجوء إلى العقوبة الأشد مع تحقق الغرض ـ وهو التأديب ـ بالعقوبة الأخف، والوجه في هذه القاعدة واضح وهو أن الأصل حرمة الإنسان في نفسه وماله، ولا يرفع اليد عن هذا الأصل إلا بالمتيقن وبمقدار الضرورة، والضرورة كما هو معلوم تقدر بقدرها، فإذا كان التأديب يتحقق بعشر ضربات فلا يجوز الزيادة عليها، وإذا كان يتحقق بالغرامة المالية التي تقل ضرراً عن العقوبة البدنية فلا يجوز اعتماد الأخيرة، والأمر عينه يأتي في الحبس، وفي حال المساواة في التأثير فيتخير الحاكم في اعتماد أي منهما، بل الأقوى أنّ يُخيّر المجرم في اختيار أي منهماٍ(التعزير للشيخ الصافي ص74).

 

والمسألة بحاجة إلى مزيد من البحث والتحقيق، وهو موكول إلى محله.

 

رعاية القوانين البيئية في الأنظمة غير الشرعية:

 

إنّ الحديث السابق كان يتناول دور الحاكم الشرعي وصلاحياته في سنّ القوانين ووضع التدابير اللازمة لحماية البيئة، ولا شك في وجوب إطاعة ما يصدر عن الحاكم الشرعي من أحكام تدبيرية في هذا المجال أو غيره، لكن ماذا عن الأنظمة غير الشرعية ـ سواء أكان حكامها من المسلمين أو غيرهم ـ؟ هل يجب الالتزام بقوانينها البيئية أم لا؟

 

والحقيقة أن السؤال لا يختص بخصوص القوانين البيئية، بل هو مطروح بشأن كافة القوانين والمقررات التي تصدر عن أنظمة الحكم غير الشرعية.

 

وفي الإجابة على ذلك يمكننا القول: إن القوانين والمقررات التي تصدرها الحكومات غير الشرعية إذا كانت داخلة في دائرة حفظ النظام، بحيث أن عدم رعايتها تشكّل إخلالاً بالنظام، كما هو الحال في أنظمة السير والبناء، ومعظم القوانين الأخرى فلا يجوز مخالفتها، حفظاً للنظام وليس إطاعة للحاكم، وأما ما عدا ذلك من القوانين التي لا تدخل في دائرة حفظ النظام، وهي نادرة، فيصعب توجيه القول بوجوب رعايتها، إلا في الحالات التي تشكّل مخالفتها من قبل المؤمنين تشويها لصورة الإسلام أو المسلمين، أو في الحالات التي يحصل فيها تعاقد بين الشخص وبين الدولة على رعاية القوانين واحترامها، كما لو منح الشخص المسافر إلى بلد أجنبي ـ مثلاً ـ تأشيرة دخول تنص على ضرورة رعاية قوانين البلد والتزم بذلك في طلب الإذن بالدخول، فيلزمه الوفاء بشرطه، لأن المؤمنين عند شروطهم.





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon