دور الحاكم في حماية البيئة
الشيخ حسين الخشن
ليس خافياً أن للسلطة دوراً هاماً ليس في حماية البيئة من التلوث وحفظ مواردها من الاستنزاف وحسب، بل في رسم السياسات البيئية التنموية وإعداد الخطط والبرامج وبذل الجهود العملانية في سبيل بيئة نظيفة.
وقبل الحديث عن صلاحيات الحاكم على هذا الصعيد يهمني التأكيد على أنه حتى لو عجزت الأحكام المجعولة بالعنوان الأولي عن معالجة المشاكل وتقديم الحلول الوافية، فإن بالإمكان اجتراح الكثير من الحلول والمعالجات للمشكلات البيئية في ضوء الصلاحيات التي يمنحها التشريع الإسلامي للحاكم الشرعي، وجُلّ هذه الصلاحيات يمكن إثباتها وتوجيهها فقهياً سواء كانت نظرية الحكم في الإسلام ترتكز على مبدأ الشورى أو مبدأ ولاية الفقيه، وأما صلاحيات الحاكم ومسؤولياته في المجال البيئي فيمكن تلخيصها بالتالي:
التخطيط والتنفيذ:
وأولى هذه الصلاحيات والمهام هي ما أشرنا إليه في مستهل الحديث حول وضع السياسات وإعداد الخطط والبرامج الهادفة إلى حماية البيئة بكافة عناصرها ومكوناتها وحفظ التوازن البيئي، وكون ذلك من مسؤولية السلطة باعتبار أن ذلك هو من الشؤون والقضايا العامة التي لا تخص الأفراد، وإنما تتصل بالنظام وتمس الأمن الصحي والبيئي للإنسان، وما كان كذلك يدخل ضمن مسؤوليات الحاكم الشرعي، وربما يدخل فقهياً ضمن ما يعرف بالقضايا الحسبيّة، ولو أن بعض مؤسسات المجتمع الأهلي والمنظمات المدنية قامت ـ كما قد يحصل في أيامنا ـ بمهمة التخطيط وإعداد البرامج والمقترحات ذات الصلة بالشأن البيئي، فإنها تكفي الحكومات مؤنة القيام بهذه المهمة، لكن يبقى أن المهمة الأصعب التي تقع على عاتق أنظمة الحكم حصراً هي مهمة تنفيذ البرامج وتحويل السياسات والمخططات إلى قوانين، وتهيئة الوسائل والمعدات التنفيذية، والسهر على تطبيق القوانين ومنع التعديات والتجاوزات، فهذه وأمثالها تدخل في صلب المهام الموكولة إلى السلطات الحاكمة كونها من القضايا النظامية، فضلاً عن اندراجها تحت عنوان عمارة الأرض، وهي من مسؤوليات الحاكم، كما جاء في عهد أميد المؤمنين(ع) إلى مالك الأشتر: "هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: 1 ـ جبابة خراجها، 2 ـ وجهاد عددها. 3 ـ واستصلاح أرضها. 4 ـ وعمارة بلادها..."(نهج البلاغة الكتاب 53، وتجدر الإشارة إلى أن سند العهد صحيح، راجع: دراسات في ولاية الفقيه 4/303، القضاء في الفقه الإسلامي للحائري51).
التقنين والتشريع:
والمهمة الثانية المناطة بالحاكم الشرعي هي مهمة التقنين واتخاذ التدبيرات اللازمة والضرورة على صعيد حماية البيئة، وما يصدر عن الحاكم في هذا المجال من تدبيرات هو قوانين ملزمة تجب إطاعتها ولا تجوز مخالفتها، وإنما نحتاج إلى هذه التدبيرات ـ كما أشرنا في مستهل الحديث ـ في حال عدم وفاء القوانين والأحكام الأوليّة بعلاج المشكلات البيئية، وتوضيحاً لهذه المهمة أو المسؤولية، نقول: إن هناك أكثر من دائرة يتم اللجوء فيها إلى الأحكام التدبيرية أو ما يعرف في الفقه السياسي الإسلامي بالأحكام السلطانية.
الدائرة الأولى (حفظ النظام):
إن إجراءات حفظ النظام العام هو من مسؤوليات الحاكم المتيقنة التي لا شك ولا خلاف فيها، كما أنه ـ أعني حفظ النظام ـ من أوسع العناوين وأكثرها طواعية ومرونة، كما أنه يعتبر من المقاصد الأساسية التي بعثت الرسل وتنزلت الشرائع لأجل تحقيقه وإرسائه، وفي ضوئه تنحل الكثير من المشكلات البيئية أو غيرها، وهو يمنح الحاكم قدرة على اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بوضع حدٍ للتصرفات المسيئة إلى أمن الناس أو استقرارهم، ويمكنّه من اتخاذ التدابير اللازمة واصدار القوانين الضرورية لحماية النظام الصحي أو البيئي أو نظام المواصلات... فله ـ على سبيل المثال ـ أن يمنع من إنشاء المصانع أو المعامل داخل القرى والمدن بسبب تأثيرات ذلك على السلامة العامة، أو يصدر قانوناً ينظم بموجبه عمليات البناء ويمنع البناء العشوائي الذي يفتقد شروط السلامة الصحية، وله أن يأمر بوقف السيارات العاملة على المازوت ـ مثلاً ـ من السير داخل الأماكن المأهولة بسبب تأثيراتها السلبية على الصحة العامة.
الدائرة الثانية (ملء الفراغ التشريعي):
والدائرة الثانية التي تتحرك فيها الأحكام التدبيرية هي دائرة المفاهيم الإسلامية المقاصدية، ودور الحاكم الشرعي في المقام هو وضع الصيغ القانونية الملائمة لتجسيد هذه المفاهيم وتطبيقها، ولعلّ من أبرز العناوين المقاصدية ذات الصلة بالشأن البيئي: عنوان عمارة الأرض المشار إليه، قال تعالى: {هو أنشألكم من الأرض واستعمركم فيها... وقد سلف أن أمير المؤمنين أكدّ في عهده إلى مالك الأشتر أن "عمارة الأرض" هي من صلاحيات الحاكم ومهامه، وبالرغم من كون عنوان "عمارة الأرض" عنواناً بيئياً بامتياز لكنه عام وفضفاض (هذه ميزة ايجابية في المفاهيم القرآنية والإسلامية، فإن عمومية المفهوم أو النص تمنحه مرونة تمكنّه من مواكبة الزمان والتطورات المستجدة)، فنحتاج إلى تسييله وتحويله إلى قوانين تفصيليه تساهم في تحقيق الهدف المذكور، ولعلّ من الطبيعي أن يناط هذا الأمر بيد الحاكم الشرعي، بل إنّ ذلك من مسؤولياته كما يوحي بذلك عهد أمير المؤمنين(ع) إلى مالك الأشتر، إن العناوين المقاصدية ليست مجرد مفاهيم أخلاقية أو مواعظ استحبابية، وإنما هي مفاهيم كليّة تقوم بتوجيه العملية الاجتهادية وترشيدها ووضع الضوابط والأطر التي تحكم حركتها، كما أنها تفتح المجال واسعاً أمام الحاكم الشرعي لينطلق في حركة التقنين على هدي هذه المفاهيم وبوحي منها، ويعمل على اجتراح الصيغ الآليات القانونية الملائمة لتجسيد هذه المفاهيم، والصيغ المشار إليها ليست ثابتة على الدوام، بل مرنة ومتحركة وتحكمها المصالح النوعية التي تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر، تبعاً للمستجدات والمتغيرات المتلاحقة في المجال البيئي، وبذلك يتضح "أن علاقة الإنسان بالطبيعة تتطور عبر الزمن تبعاً للمشاكل التي يواجهها الإنسان باستمرار وتتابع خلال ممارسته للطبيعة" وهذا خلافاً لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فإنها "ليست متطورة بطبيعتها: لأنها تعالج مشاكل ثابتة جوهرياً مهما اختلف إطارها ومظهرها"(اقتصادنا685).
ومن العناوين الإسلامية التي تساهم في توفير متسع لحركة الأحكام التدبيرية العناوين التالية:
الرفق، والاقتصاد، والزهد، والقناعة، أو نحوها مما يتصل بشكل أو بآخر بالأنشطة البيئية، ويصلح للتوجيه والإرشاد التربوي، من قبيل: كراهة الطمع والحرص والاحتكار... والدور الذي يلعبه الحاكم الشرعي في المقام هو الاستهداء بهذه العناوين التي تندرج ـ بحكم عدم إلزاميتها ـ في نطاق ما يعرف بمنطقة الفراغ التشريعي، لاستصدار التدبيرات التي يراها ضرورية على الصعيد البيئي، بناء على الصلاحية المعطاة له في ملء منطقة الفراغ المشار إليها.
والجدير بالذكر إن منطقة الفراغ هذه لا تعبّر عن وجود نقص أو إهمال تشريعي، لأنّ المقصود بها أن الإسلام لم يملأ كل الوقائع والموضوعات بالأحكام الإلزامية ـ وجوبية كانت أو تحريمية ـ بل ترك مساحة كبيرة خالية من أي حكم إلزامي، وهي تضم كل ما يعرف بالمباحات بالمعنى الأعم الشامل للمستحبات والمكروهات والمباحات بالمعنى الأخص، وجعل صلاحية ملئها ـ بمعنى استصدار قوانين إلزامية في نطاقها ـ بيد الحاكم الشرعي الذي يراعي في ذلك مقتضيات المصلحة العامة.(راجع: اقتصادنا:690).
إن صلاحية الحاكم في ملء منطقة الفراغ بالأحكام التدبيرية المناسبة سوف يساعد على معالجة الكثير من المشكلات البيئية وإيجاد الحلول لها، وإليك بعض الأمثلة التطبيقية في المقام:
ـ إن صيد الطيور والحيوانات والأسماك مباح في الأصل، لكن لو رأى الحاكم أن ثمة مخاطر تتهدد الثروة الحيوانية بالانقراض أو تضائل أعدادها فله أن يحدد أماكن أو مواسم خاصة للاصطياد.
ـ وإن الاحتطاب ورعي المواشي في المباحات محكوم بالجوار دون إذن مسبق من الحاكم الشرعي وفق بعض المباني الفقهية، إلاّ أن مصلحة الحد من التصحر أو إقامة محميات طبيعية تقضي بتنظيم ذلك واتخاذ الإجراءات الملائمة على هذا الصعيد.
ـ والتدخين في الأماكن العامة محكوم بالإباحة والحلية بالعنوان الأولي على حسب مشهور الفقهاء، لكن ومع صرف النظر عن القول بالحرمة ـ وهو الأقرب ـ فإنّ للحاكم وفي سبيل محاصرة هذه الآفة والحد من انتشارها أن يمنع من ذلك ويعاقب عليه.
إلى غير ذلك من الموارد التي يتمكن الحاكم من ملئها بالأحكام التدبيرية بحكم ما أعطي من صلاحية في ملء منطقة الفراغ التشريعي.
يبقى أنه ما الدليل على أن الشريعة خولّت الحاكم الشرعي ملء منطقة الفراغ بما يراه مناسباً من الأحكام التدبيرية الإلزامية؟
استدل الشهيد الصدر على ذلك بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}(النساء:69).
وربما يلاحظ على ذلك: بأن ما دلّ على لزوم إطاعة ولي الأمر ـ ومنه الآية ـ لا تمنح الحاكم سلطة التشريع، ولا تحدد موارد الإطاعة، وإنما تدل على وجوبها فحسب، فنحتاج في تحديد مواردها ونطاقها وحدودها إلى دليل آخر.
وقد أورد السيد رحمه الله جملة من النماذج التي استخدم فيها رسول الله(ص) صلاحياته كحاكم، في حدود منطقة الفراغ، من قبيل ما روي عنه من منع بيع فضل الماء والكلأ، أو منع بيع الثمرة قبل نضجها، أو ما ورد في عهد أمير المؤمنين(ع) إلى مالك الأشتر حول تحديد الأسعار...(إقتصادنا690).
إلاّ أن هذه الأمثلة وسواها مما ثبت أن النبي(ص) أعمل فيه سلطته كحاكم وقائد للمجتمع لا تصلح للاستدلال بها في المقام، إلا إذا ثبت انتقال صلاحيات النبي(ص) أو الإمام(ع) إلى الحاكم الشرعي، فالأمر يحتاج إلى دراسة أدلة الحكومة أو ولاية الفقيه، فإن تمت ولو في حدود ملء منطقة الفراغ فهو المطلوب، وإلاّ فما كان من الإجراءات مما يتوقف عليه حفظ النظام العام فللحاكم اتخاذه وتلزم إطاعته، وما لم يكن كذلك فلا دليل على ثبوت سلطة الحاكم فيه.
الدائرة الثالثة(موارد التزاحم):
ومن الموارد التي يشرع فيها تدخل الحاكم ويكون لتدخله الدور الحاسم حالة التزاحم بين مصلحتين أو مفسدتين تتصل إحداهما بالموضوع البيئي والأخرى بشأن اجتماعي أو اقتصادي عام أو غيره، ففي مثل هذه الموارد يكون تشخيص الأهم من المهم المدخل الطبيعي لحسم الموقف، والتشخيص المذكور يقع على عاتق السلطة الشرعية، خلافاً لموارد التزاحم الفردية التي يترك فيها خيار التشخيص إلى المكلف نفسه، استناداً إلى اجتهاده أو تقليده، وبيان ذلك:
إنّ موارد التزاحم على نوعين:
1 ـ موارد فردية، كما في التزاحم بين إقامة الصلاة وإنقاذ الغريق، بحيث أن المكلف تزاحم لديه وقت الصلاة مع وجود غريق بجانبه على وشك الهلاك، وهنا يعود إليه دور تشخيص الأهم من المهم ويقرر ـ ولو من خلال تقليده ـ أنّ إنقاذ الغريق أهم فيقدمه على إقامة الصلاة.
2 ـ موارد اجتماعية، كما لو دار الأمر بين استملاك أراضٍ خاصة قهراً ولو بدون رضى أصحابها، بهدف شق طريق عام تفرض المصلحة العامة شقها، تخفيفاً لمشكلة سير خانقة ـ مثلاً ـ قد تكون سبباً للمشاكل والصدامات، وبين احترام إرادة المالكين بموجب قانون تسلط الناس على أموالهم وأملاكهم، فهنا ولدى التزاحم بين هاتين المصلحتين، فإن تشخيص التزاحم وتحديد الأهم من المهم هو بيد الحاكم الشرعي وحده، وليس بيد الأفراد، لأنه لو ترك الأمر للأفراد لعمت الفوضى والاضطراب، وعليه فالحاكم هو الذي يقرر استناداً إلى شهادات ذوي الخبرة أن شقّ الطريق ـ مثلاً ـ أصلح للمجتمع، ويكون أمره نافذاً على الجميع.
إن صلاحية الحاكم في هذه الدائرة تبدو أكثر وضوحاً منها في الدائرة السابقة، لا سيما عندما يكون التزاحم موجباً للتنازع والتخاصم، فيدخل المورد في صلاحيات الحاكم كونه من صغريات مبدأ حفظ النظام وتطبيقاته.
وقد حاول بعض الفقهاء تفسير رأي الإمام الخميني في سعة صلاحيات الولي الفقيه والقاضي بأن "الحكم الولايتي يتقدم على الأحكام الأولية" بأن المقصود به هذا الدور، أعني صلاحية تحديد الأولويات وتشخيص الأهم من المهم في موارد التزاحم، مضافاً إلى صلاحية ملء الفراغ (المرجعية والقيادة: للسيد كاظم الحائري:165).
لكن كلمات الإمام الخميني يتراءى منها أن صلاحيات الحاكم أوسع وأشمل من حالات التزاحم أو ملء منطقة الفراغ، فهي تشمل موارد التزاحم التي ليس فيها تزاحم أصلاً، كما في الموارد التي يرى الحاكم أنّ في التصرف الكذائي مصلحة، وإن لم يكن في تركه مفسدة، اللهم إلاّ أن يقال: إنّ هذه الموارد إنْ لم تدخل في دائرة التزاحم، فإنها تدخل في منطقة الفراغ.
وعلى أي حال، فإن رأي الإمام الخميني رحمه الله في شأن ولاية الفقيه يمدّ الحكومة بصلاحيات واسعة جداً، تمكنّها من ايجاد حلول لمجمل المشاكل المستجدة ومنها ما يتصل بالشأن البيئي. يقول رحمه الله في بعض كلماته:
"لو كانت صلاحيات الحكومة ضمن إطار الأحكام الإلهية الفرعية لوجب القول أنه لا معنى للحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام(ص)، وأشير إلى نتائج ذلك حيث لا يمكن لأي أحدٍ أن يلتزم بها، مثلاً إن فتح الطريق الذي يستلزم التصرف بالمنازل أو حريمها لا يدخل ضمن الأحكام الفرعية، وكذا الأمر بالنسبة لموضوع التجنيد والإرسال الإلزامي إلى جبهات القتال، ومنع دخول وخروج العملة الصعبة، ومنع دخول وخروج أية بضاعة، ومنع الاحتكار في غير موردين أو ثلاثة، والجمارك والضرائب ومنع رفع الأسعار ورفض التسعيرة، ومنع توزيع المواد المخدرة، ومنع الإدمان بأنواعه من المشروبات الكحولية وغيرها، وحمل السلاح مهما كان نوعه، والمئات من أمثال ذلك... إن الحكومة هي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله(ص) وتعدّ واحدة من الأحكام الأولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصوم والصلاة والحج، ويتمكن الحاكم من تخريب مسجد أو منزل يقع في وسط الشارع وتسليم ثمن البيت لصاحبه، ويتمكن الحاكم من تعطيل المساجد في حالات الضرورة، وتخريب المسجد عندما يتحول إلى مسجد ضرار وتنعدم جميع السبل لرفع ذلك.."( منهجية الثورة الإسلامية ص:169 ـ 170).
العقوبات الرادعة:
الحديث عن صلاحيات الحاكم في المجال البيئي يقودنا إلى التساؤل عن صلاحياته في مجال فرض القانون وتطبيقه، وعن ماهية العقوبات الرادعة التي بإمكانها فرضها على المخالفين للمقررات والأنظمة البيئية المرعية الإجراء؟
والجواب: إنه ليس في المقام استثناء خاص، بل هو محكوم للقاعدة العامة التي يفرضها قانون العقوبات في الإسلام، ومن المعلوم أن للسلطة حق معاقبة المخالفين للأنظمة والقوانين المرعية الإجراء، تأديباً وإصلاحاً لهم وردعاً وزجراً لسواهم من الناس، والمعروف في الفقه الإسلامي وعليه النص(راجع على سبيل المثال: وسائل الشيعية: الباب 9 من أبواب حد الزنا الحديث 1و2، والباب 19 من أبواب حد القذف الحديث10من أبواب بقية الحدود والتعزيزات الحديث 1و3 وكذا الفتوى (راجع على سبيل المثال: الشرائع 4/168، المبسوط8/69، القواعد2/262)، أن للحاكم أن يستخدم أسلوب التأديب الجسدي المعبر عنه بالتعزير ضمن ضوابط وشروط خاصة في الكيفية والعدد...
وطبقاً لبعض المباني الفقهية فإنَ أسلوب التأديب الجسدي غير متعين، بل يمكن استخدام أسلوبين آخرين هما: الحبس، والغرامة المالية، والظاهر أنه لا ريب في مشروعية هذين الأسلوبين، بل تعينهما في الحالات التي يتوقف فيها ردع المخلين بالقانون على استخدامهما (التعزير أنواعه وملحقاته للشيخ لطف الله الصافي ص51)، وقد أفتى بذلك الفقيه الكبير السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله، قال: "لا يجوز لأي أحدٍ أن يضع في الشوارع والطرقات العامة ما يضر بالمارة ونحوهم، ولا بدّ من منع ذلك بأية وسيلة ممكنة ولو بستجيل عقوبة مادية عليه لحفظ الصالح العامة، وكذا في وضع القذارات فيها"(صراط النجاة1/430)، وفي إجابة على سؤال بشأن مَنْ يضع القذارات في ملكه ما يسبب تضرر جيرانه، هل يجوز وضع غرامة مالية عليه؟ قال رحمه الله : "إذا كان دفع الضرر منحصراً بذلك جاز"(م.ن).
وأمّا في الحالات التي لا يتوقف ردع المخالفين فيها للقانون على اعتماد هاتين العقوبتين فهناك خلاف فقهي في مشروعيتها والحال هذه، وظاهر معظم فقهاء الإمامية على عدم المشروعية (راجع: دراسات في ولاية الفقيه2/327وما بعدها وكتاب: التعزير للشيخ الصافي ص 37 وما بعدها)، وإن كان ثمة وجه فقهي قريب مال إليه بعض فقهاء الفريقين (يظهر ذلك من العلامة الحلي في الحبس، حيث قال: التعزير يجب في كل جنابة لا حدّ فيها... وهو يكون بالضرب والحبس والتوبيخ من غير قطع ولا جرح ولا أخذ مال" (تحرير الأحكام 2/239) وفي المغني لابن قدامه: "فصل: والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ولا يجوز قطع شيء منه ولا جرحه ولا أخذ ماله"(المغني10/348)، وفي الفقه الإسلامي وأدلته: " والتعزير يكون إما بالضرب أو بالحبس، أو الجلد، أو النفي، أو التوبيخ أو التغريم المالي ونحو ذلك مما يراه الحاكم رادعاً للشخص بحسب اختلاف حالات الناس"(الفقه الإسلامي وأدلته 4/287)، بجواز اعتماد إحدى هاتين الوسيلتين، إما للقطع بعدم خصوصية الموارد التي ورد النص فيها على عقوبة الحبس أو الغرامة المالية (موارد الحبس متعددة ومنصوصة وقد أفتى بها الفقهاء، وأما العقوبة المالية (أعم من الإتلاف أو التغيير أو التغريم) فقد ورد فيها نصوص عديدة يمكن الاطمئنان بصدور بعضها على أقل تقدير ولذا "فلا وجه لاستيحاش البعض منه" على حدّ تعبير بعض الفقهاء المعاصرين(دراسات في ولاية الفقيه2/341)، وإمّا لوفائهما بالغرض، لأن التعزير ليس أمر عبادياً تعبدياً، وإنما الغرض منه تأديب المخالفين للنظام رجاء إصلاحهم وردعهم، وكذا ردع سواهم ممن تسوّل له نفسه ارتكاب المخالفة، وقد فوّض أمر التعزير إلى الحاكم كما سلف، ولربما يرى الحاكم أن التعزير المالي أو الحبس أكثر تأثيراً وأصلح للجاني وللمجتمع من التعزير البدني، أو تمسكاً بالأولوية القطعية، على اعتبار أنه إذا جاز التعزير البدني المقتضي رفع سلطنة الإنسان على نفسه وهدر كرامته، فبالأولى يجوز التعزير المالي المقتضي رفع سلطنته على مالهٍ(دراسات في ولاية الفيه2/333).
ودعوى أنّ الأصل في التعزير هو العقوبة البدنية ليست دقيقة، وكذا تفسير التعزير الوارد في النصوص بخصوص الضرب، فإن التعزير هو مطلق التأديب، أجل لقد "شاع التعزير البدني خارجاً وفي الأخبار والروايات، لكونه أسهل تناولاً وأعم مورداً وأشد تأثيراً في الغالب"(م.ن).
وقد ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى جواز اعتماد العقوبة المالية أو الحبس في حال كونهما أخف ضرراً على الشخص من العقوبة البدنية أو مساويين لها، وقد بنى رأيه على قاعدة أنه لا يجوز اللجوء إلى العقوبة الأشد مع تحقق الغرض ـ وهو التأديب ـ بالعقوبة الأخف، والوجه في هذه القاعدة واضح وهو أن الأصل حرمة الإنسان في نفسه وماله، ولا يرفع اليد عن هذا الأصل إلا بالمتيقن وبمقدار الضرورة، والضرورة كما هو معلوم تقدر بقدرها، فإذا كان التأديب يتحقق بعشر ضربات فلا يجوز الزيادة عليها، وإذا كان يتحقق بالغرامة المالية التي تقل ضرراً عن العقوبة البدنية فلا يجوز اعتماد الأخيرة، والأمر عينه يأتي في الحبس، وفي حال المساواة في التأثير فيتخير الحاكم في اعتماد أي منهما، بل الأقوى أنّ يُخيّر المجرم في اختيار أي منهماٍ(التعزير للشيخ الصافي ص74).
والمسألة بحاجة إلى مزيد من البحث والتحقيق، وهو موكول إلى محله.
رعاية القوانين البيئية في الأنظمة غير الشرعية:
إنّ الحديث السابق كان يتناول دور الحاكم الشرعي وصلاحياته في سنّ القوانين ووضع التدابير اللازمة لحماية البيئة، ولا شك في وجوب إطاعة ما يصدر عن الحاكم الشرعي من أحكام تدبيرية في هذا المجال أو غيره، لكن ماذا عن الأنظمة غير الشرعية ـ سواء أكان حكامها من المسلمين أو غيرهم ـ؟ هل يجب الالتزام بقوانينها البيئية أم لا؟
والحقيقة أن السؤال لا يختص بخصوص القوانين البيئية، بل هو مطروح بشأن كافة القوانين والمقررات التي تصدر عن أنظمة الحكم غير الشرعية.
وفي الإجابة على ذلك يمكننا القول: إن القوانين والمقررات التي تصدرها الحكومات غير الشرعية إذا كانت داخلة في دائرة حفظ النظام، بحيث أن عدم رعايتها تشكّل إخلالاً بالنظام، كما هو الحال في أنظمة السير والبناء، ومعظم القوانين الأخرى فلا يجوز مخالفتها، حفظاً للنظام وليس إطاعة للحاكم، وأما ما عدا ذلك من القوانين التي لا تدخل في دائرة حفظ النظام، وهي نادرة، فيصعب توجيه القول بوجوب رعايتها، إلا في الحالات التي تشكّل مخالفتها من قبل المؤمنين تشويها لصورة الإسلام أو المسلمين، أو في الحالات التي يحصل فيها تعاقد بين الشخص وبين الدولة على رعاية القوانين واحترامها، كما لو منح الشخص المسافر إلى بلد أجنبي ـ مثلاً ـ تأشيرة دخول تنص على ضرورة رعاية قوانين البلد والتزم بذلك في طلب الإذن بالدخول، فيلزمه الوفاء بشرطه، لأن المؤمنين عند شروطهم.