حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية: فريضة بها تقام الفرائض
الشيخ حسين الخشن



 {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران: 110).

 

{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104).

 

تتعرض هاتان الآيتان من سورة آل عمران إلى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

 فالآية الأولى تشير إلى أنّ خيرية الأمة الإسلامية ليست أمراً اعتباطياً ولا عبثياً وإنما هي منطلقة من أمرين أساسيين:

 

1- أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وهذا يبين محورية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في خيرية الأمة وأفضليتها على غيرها.

 

2- إيمانها بالله، ومع افتراض أن المخاطبين في الآية هم المسلمون فكيف نفهم دعوتهم للإيمان بالله كشرط للخيرية ؟ الظاهر أنّ المقصود بالإيمان بالله هنا هو الإيمان العملي الذي يتجسد في سلوك الإنسان وحياته لا مجرد الإيمان الشكلي واللفظي والذي لا يغير في حياة الإنسان شيئاً، وهذا هو المراد  بالإيمان الذي طلب من الذين آمنوا في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا}.

 

 وإذا كانت خيرية الأمة مرتكزة على العنصرين المذكورين، فإنّها قد تنتزع من هذه الأمة إذا تقاعست عن الأخذ بهذين العمودين، كما هو حال الأمة منذ قرون طويلة.

 

وأمّا الآية الثانية فهي تدعو إلى ضرورة انطلاق جماعة من أبناء الأمة للقيام بعمل الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوجه في ذلك هو أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى معرفة المنكر والمعروف ومعرفة شروطهما وضوابطهما، وهذه المعرفة لا يتسنى لكل أفراد الأمة النهوض بها، لأنّها تحتاج إلى درس تخصصي، فكان لا بدّ أن يتفرغ لهذه المهمة طائفة من أفراد الأمة للقيام بذلك، دون أن يعني ذلك أنّ مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مسؤولية طبقة معينة، بل هي مسؤلية عامة يقوم بها كل عارف ومتمكن، عارف بالمعروف والمنكر، ومتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

النهي عن المنكر وبقاء الإسلام

 

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فريضة إسلامية أساسية، وتكمن أهميتها في أنّها تحاصر الانحراف وتساهم في نشر الخير وتمهد لبقاء الشريعة الإسلامية واستمراريتها حية وفاعلة في وجه كل محاولات التشويه والتضليل أو الخروج عليها، ولا نبالغ بالقول:إنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الضامن لإقامة سائر الفرائض الإسلامية، إذ كيف ستبقى فريضة الصلاة وتستمر إقامتها إن لم نأمر بها باعتبارها رمز المعروف؟ وكيف نحاصر شرب الخمر إن لم ننه عنه باعتباره رمز المنكرات؟ ومن هنا جاء في الحديث عن أبي جعفر (ع) التعبير عنها بأنّها أم الفرائض، وأنه لا تقام الفرائض إلاّ بها، يقول الإمام الباقر(ع) - فيما روي عنه - : "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر" 1.

 

وفي الحديث عن أبي الحسن الرضا (ع): "لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم" 2.واستعمال الأشرار ومن ثمة عدم الاستجابة للأخيارهو نتيجة طبيعية لعدم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنّ تراجع الأخياروانكفاءهم عن الساحة سيعني تقدم الأشرار وانتشار المنكرات، وبعدها إذا أراد الأخيار معاودة الأخذ بزمام المبادرة فلن يستجاب لهم، لأنّ الموازين قد اختلت وتغيرت ولم يعد للأخبار كلمة مسموعة.

 

حماية أنفسنا من عدوى المنكر

 

إنّ تقاعس الأمة وأهل العلم فيها عن مواجهة المنكر وإدانته  بكافة الطرق والوسائل الممكنة لن يجنبهم هم أو يحميهم من آثاره ونتائجه السلبية، بل سيمتّد المرض إلى منازلهم وبيوتهم وتسري المنكرات وتعمّ شيئاً فشيئاً وتزحف إلى أبنائهم وإخوانهم، لأنّ من طبيعة المنكر أنّه يعدي وتسري العدوى إلى الآخرين، ومع الوقت ستضعف المناعة ضد المنكر، وتتهاوى منظومة القيم والأخلاق، ولهذا فإنّ قيامي وقيامك بهذه الفريضة هو عمل ضروري لحماية أنفسنا وأهلينا وأبنائنا من "فيروس" المنكر وعدواه، فإنّ أبناءنا لا يعيشون في جزيرة معزولة، بل يعيشون في هذا الوسط الاجتماعي الكبير، فإذا فسد المجتمع أو فسدت بعض شرائحه فسوف يسري الفساد والمرض إلى البقية، هذا إن لم يبادروا لوضع حد للمنكر ومحاصرته أو التمرد عليه ورفض التعايش معه، فإنّ الذين يتعايشون مع المنكر هم كمن يعيش مع الأفعة في غرفة واحد، فلا يدري متى تلدغه بسمها.

 

انقلاب الموازين

 

ومن طبيعة الأمور أنّ المنكر إذا ارتكب مرة تلو الأخرة دون رادع أو معترض وجاهر به البعض دون أن يلقى صدوداً، فإنّ ذلك سيكسر الحاجز النفسي تجاهه، ليغدو مع الوقت أمراً مألوفاً ومعاشاً، حتى لو كنّا لا نزال نراه منكراً، ولكن إذا استمر السكوت على المنكر والتقاعس في مواجهته، فقد تتطور الأمور ونصل إلى مرحلة لاحقة، وهي مرحلة سقوط الغرابة والاستهجان عن المنكر، وبعبارة أخرى: لا يعود المنكر أمراً مألوفاً فحسب، بل لا يعود المنكر منكراً، فتنقلب الموازين ويتحول المنكر إلى معروف والمعروف إلى منكر، وهذا ما نبّه عليه الحديث النبوي الشريف، عن أبي عبد الله (ع): "قال النبي (ص): كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً" 3.

 

مثال من الواقع

 

 كان عامة البشر يرفضون حالة الشذوذ الجنسي ويرونها عملاً منكراً، وإذا مارسها البعض فهو يمارسها سراً كونه يقوم بعمل قبيح، ويدان ويعاقب على فعله، ثم تساهل الناس إزاء هذا ىالعمل وغضّت بعض الدول النظرعن مواجهته وإدانته، بحجة حماية الحرية الشخصية للأفراد، وشيئاً فشيئاً جاهر الشاذون جنسياَ بأفعالهم وأصبحت لهم نوادٍ يمارسون فيها ذلك العمل دون حساب أو رقيب، ثم تطور الأمر خطوة أخرى بفعل التراخي في مواجهة هذا العمل ونشوء جمعيات تنادي بحقوق الشاذين جنسياً، حتى وصل الأمر إلى نزع اسم الشذوذ عنه، فسمي هؤلاء بالمثليين، لأنّ تعبير "الشذوذ" فيه إهانة لكرامتهم واعتداء معنوي عليهم... وهكذا وصل الأمر إلى أن أصبح المنكر معروفاً، وغدت الأصوات الرافضة لهذا العمل هي الشاذة، وسنت القوانين – في الغرب – التي تسمح بالارتباط "الشرعي" بين المثليين، وسَرَتْ العدوى إلى مجتمعاتنا وصرنا نشهد حالاتٍ من التجاهر بالشذوذ ونسمع أصوات تدعو إلى الاعتراف به وتناقش في حرمته شرعاً!

 

النهي عن المنكر والحرية الشخصية

 

وقد دخلت علينا بعض المفاهيم القلقة التي ساعدت في ترويج المنكر وأوصلت الأمور إلى حدّ أن يصبح المعروف منكرأ والمنكر معروفاً، ومن جملة هذه المفاهيم: مفهوم "حرية الشخصية" للفرد والتي تسمح له أن يفعل ما يريد ما دام أنه لا يعتدي على الآخرين، وليس من حقنا - وفقاً لهذا المفهوم - الاعتراض عليه، وإنما الذي يحاسبه هو القانون إذا ارتكب ما يخالف القانون، والذي يعاقبه هو الله تعالى يوم القيامة فيما لو ارتكب ما يخالف شرع الله، أما نحن فلا دخل لنا به ولا سلطة لنا عليه.

 

  وهذا الحديث البرّاق والمخادع لا نستطيع الموافقة عليه، لأنّ الكلام ليس في المنكر الذي يرتكبه الإنسان في داخل بيته، حتى يقال: إنه لا يحق لنا أن نقتحم عليه بيته وخصوصيته ونفضح أسراره ونشهّر به، وإنما الكلام في المنكر الذي يمارسه المرء في الهواء الطلق ويفعله أمام الرأي العام، وهنا لا يحق له بذريعة الحرية الشخصية أن يسيء إلى المنظومة الأخلاقية والقيمية التي تحكم المجتمع، هذا ما يقرره  الإسلام، أرأيت إلى الشخص الذي يلوّث البيئة العامة بالغازات الضارة أو نحوها (كحرق الدواليب وما ينتج عنه من تلويث للفضاء العام) ألا يحقّ لنا أن نمنعه من ذلك، لأنّه يسيء إلينا ويعتدي على أمننا الصحي في تلويث البيئة التي نعيش فيها؟ وهكذا لو أنّ شخصاً كان يرفع صوت المذياع في بيته أو في الشارع فيؤذي جيرانه أو المارة، فإنّ لنا حق الاعتراض عليه ومنعه من إقلاق راحة الناس وإزعاجهم. بالتأكيد يحق لنا منعه من ذلك، وهذا ما لا يناقش فيه أحد.

 

والحال عينه ينطبق على الشخص الذي يمارس "المنكر الشرعي والأخلاقي" علناً وأمام الملأ، كما لو كان يمشي عاريا ًفي الشارع، أو يرتكب ما يخدش الحياء العام، أو تمشي المرأة سافرة متبرجة إلى حد التعري، فإنّ من حقنا أن نعترض عليها لأنّها تلوث أجواءنا الإيمانية وتسيء إلى الأمن الأخلاقي للمجتمع، فتعرض أبنائنا وشبابنا للانحراف وتشجع بسلوكها بناتنا على الاقتداء بها، وهكذا من يحتسي الخمر علناً وفي شوارع المسلمين، فإنّه بذلك يعتدي على خصوصيتهم الإيمانية ويستفز مشاعرهم الدينية التي تنظر إلى الخمر باعتباره أم الخبائث والمنكرات.

 

إنّ غزو هذا المفهوم ( مفهوم الحرية الشخصية التي تسمح للفرد أن يفعل ما يريد دون أن يحق لأحد باعتراضه ) لساحتنا ولأفكارنا والذي هو من أجلى مصاديق الغزو الثقافي هو السبب الذي جعل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة غائبة أو مغيبة لا يندفع إلى العمل بها أحد، ويضاف إليه سبب آخر وهو ثقل العمل بهذه الفريضة وما قد تجرّه علينا من متاعب . 

 

تحمل الأذى النتائج

 

 مع أنّ حماية بيئتنا الأخلاقية وقيمنا الدينية تحتم علينا أن نصدع بقول الحق مهما كان مراً، وأن نتحمل الأذى في مواجهتنا المفتوحة للمنكر حتى لو شُتمنا ولم يتقبّل الناس ذلك منا، ألم يشتم رسول الله عندما وقف في وجه المنكر العقائدي الذي كان متفشياً في قريش منتمية له من خلال الشرك والإيمان بتعدد الآلهة؟ أولم يهن رسول الله عندما واجه المنكر الإنساني الذي يمتهن كرامة المرأة ويكرس الطبقية الظالمة بين السادة والعبيد؟ ألم يسب الرسول (ص) عندما أعلنها حرباً لا هوادة فيها على المنكر الأخلاقي الذي يستبيح الاتجار بالزنا ويكره الفتيات على البغاء؟ ألم يحاصر(ص) ويطرد من مكة عندما وقف في وجه المنكر السياسي والمتمثل بالطغيان والاستكبار؟ لكنه واجه كل ذلك الأذى والشتم والإهانات بالصبر والتحمل حتى استطاع أن يعيد للمعروف قيمته ويكرس المنكر منكراً، ولهذا لا بدّ لنا أن نتحمل الأذى في رحلة القيام بمسؤوليتنا الشرعية، فقد يكلفنا ذلك بعض الخسائر، ولكن ذلك هيّن لأنه بعين الله وفي سبيل تحصين مجتمعنا من التصدع والتلوث، ففي الحديث خطب أمير المؤمنين (ع) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد فإنّه هلك من كان قبلكم حينما عملوا المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وإنّما لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأْمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً" 4.

 

وفي الحديث أيضاً قال النبي (ص): "إنّ الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر" 5.

 

أنواع المنكر

 

والمنكر أنواع عديدة، فهناك المنكر الأخلاقي والمتمثل بالرذيلة  التي يراد نشرها في المجتمعات بما يفقدها المناعة الأخلاقية، وهناك المنكر الاقتصادي المتمثل بكل التجارات القائمة على أساس الظلم والمراباة والمقامرة.. وهناك المنكر الإعلامي الذي يضلل الرأي العام أو يروج للباطل أو للضعف والاستسلام أو ينشر الرذائل.. وهناك المنكر الاجتماعي المتمثل بكل الأفكار والممارسات الهدامة التي تساهم في  تفكيك الأسر وبث التفرقة والأحقاد بين أبناء المجتمع الواحد، وهناك المنكر السياسي المتمثل بالاحتلال أو الاستبداد أو الطغيان ما يؤدي إلى إذلال الإنسان وقهره وسحق أرادته .

 

وبسبب تعدد أنواع المنكر وتشابكها فإن المواجة تكون صعبة وتحتاج إلى حملة طوارىء مستمرة للوقوف في وجهه، ولا بد أن تتظافر الجهود على هذا الصعيد وتنتظم الأعمال، لنستطيع مواجهة الباطل بوعي وتخطيط وحكمة، لا بانفعال أو ارتجال, فالباطل يواجهنا بوسائل متعددة وطرق شتى، فهو يمتلك الإمكانات ويحسن توظيفها في نشر أفكاره، فإن لم نتقن إدارة المواجهة فلن نربح المعركة 

 

تطوير الأساليب

 

ولهذا فإننا بحاجة إلى تطوير أساليبنا في مواجهة المنكر، إذ الكثيرمن أساليبنا القديمة لم تعد تجدي نفعاً، فلا معنى للجمود عليها لأنها ليست مقدسة، والخطوة الأولى على هذا الصعيد هي أن تنطلق لدينا مؤسسات تُعنى بدراسة المنكر وتفكر في اختيار سبل المواجهة، مستفيدين من أفضل الأساليب المعاصرة، وبما أنّ إنسان اليوم ينجذب إلى الوسائل التقنية الحديثة، فلنعمل على مخاطبته بلغة هذا العصر ولنطلّ عليه من خلال الفضائيات الهادفة ومواقع التواصل الاجتماعي الملتزمة التي تحاكي عقله وتصل إليه بسهولة، فإنه لا ينتشر الهدى إلاّ من حيث ينتشر الضلال. وكل مال ينفق في هذا السبيل فهو يصرف في سبيل الله بل إنّ ذلك من أبرز مصاديق الجهاد بالمال، قال تعالى :{ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}( التوبة 41)، وفي الحديث عن رسول الله (ص): "والذي نفسي بيده ما أنفق الناس من نفقة أحبّ من قول الخير" 6.
 
 
1-الوسائل ج16 ص119 ح6 ب1 من أبواب المر والنهي وما يناسبهما.
2-المصدر نفسه ج4 من الباب
3-المصدر نفسه الحديث 12.
4-المصدر نفسه، الحديث 7 من الباب.
5-المصدر نفسه، الحديث 13.
6-المصدر نفسه، الحديث10.
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon