{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27 - الأنفال)
قصة أخرى من قصص القرآن الكريم المشوقة والمعبرة والمليئة بالدروس والعبر.. إنّها قصة الصحابي الأنصاري أبي لبابة، وإليكم - في البداية – رواية القصة، ثمّ نتوقف عند دروسها ودلالاتها:
قصة الآية
قرر النبي (ص) ذات يوم وبعد معركة الخندق (الأحزاب) أن يحارب اليهود، بسبب غدرهم وخيانتهم ونقضهم للعهود والمواثيق، وهكذا صمّم - بادىء الأمر - منازلة بني قريظة، فنادى منادي الرسول (ص): لا يصليّن أحد العصر إلا ببني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، قال البعض: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال آخرون: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي (ص) فلم يعنّف أحداً.
وبعد وصول طلائع الجيش الإسلامي إلى مواقعهم قاموا بفرض حصار على يهود بني قريظة استمر خمساً وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبم الرعب، فلما أيقنوا أنّ النبي لن يتركهم ولن ينصرف عنهم أخذوا يفكرون بالمخارج، هل يقاتلون؟ أم يستسلمون؟ وتفاوتت آراؤهم في تحديد الموقف، وتقدم أحدهم وهو كعب بن أسد باقتراح قائلاً: يا معشر اليهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم ثلاثاً، فخذوا أيها شئتم: قالوا: وما هي؟
1- قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبيّن لكم إنّه لنبي مرسل وإنّه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون (باتباعه) على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره.
2- قال: فإن أبيتم على هذه فهلمّ فلنقتلْ أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلاً حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ثقلاً نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لتجدنّ النساء والأبناء، قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين فما خيرٌ في العيش بعدهم!
3- قال: فإنْ أبيتم على هذه، فإنّ الليلة ليلة السبت، وإنّه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمّنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرّه، (خدعة) قالوا: نفسد سبتنا علينا ونُحْدِث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلاّ مَنْ قد علمت، فأصابه المسخ! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.
ثم إنّهم وتحت وطأة الحصار بعثوا إلى النبي (ص) أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر لنستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله (ص) إليهم، فما أن وصل إليهم أبو لبابة حتى قاموا بأداء ما يشبه الاستعراض العاطفي أمامه بغية استمالته وإثارة عواطفه، وهدفهم من ذلك هو خديعته، ليتعرفوا على ما يخطط النبي (ص) لهم، وخلاصة هذا الاستعراض أنّه لما وصل إليهم قام إليه الرجال أولاً، ربما للإيحاء بتقديرهم واحترامهم له بهذا الاستقبال الحار، ثم تقدمّ إليه النساء والصبيان وهم يبكون في وجهه، فرقّ لهم، ثم حادثه الرجال قائلين: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنّه الذبح! قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله (ص)!
ثم هام أبو لبابة على وجهه، ولم يأت النبي (ص)، حتى ذهب إلى المسجد وارتبط بعمود من أعمدة المسجد، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت، وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبداً، ولا أُرَى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً.
في هذه الأثناء كان النبي (ص) والمسلمون ينتظرون أبا لبابة وقد استبطؤوه، وطال الانتظار ولم يأت أبو لبابة، حتى نزل الوحي على رسول الله (ص) بقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، فعرف النبي (ص) والمسلمون حينها أنّ أبا لبابة قد زلت قدمه وارتكب خيانة للمسلمين، ثم سرعان ما وصلتهم الأخبار أنّ الرجل قد ربط نفسه في سارية المسجد، فقال النبي (ص) أما إنّه لو كان جاءني لاستغفرت له، فأما إذا قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، فبقي أبو لبابة مربوطاً بالجذع ست ليالٍ دون طعام أو غذاء، حتى كان يغمى عليه، فتأتيه امرأته في كل وقت صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع .. وكان النبي (ص) والمسلمون يترقبون وينتظرون نزول الوحي في شأنه، ويتساءلون، هل ستقبل توبة أبي لبابة؟ ومتى؟ وكيف؟
ولم يطل الانتظار كثيراً، ففي الليلة الأخيرة التي قضاها أبو لبابة مرتبطاً بعامود المسجد وكان الوقت هو وقت السحر وإذا بجبرائيل (ع) ينزل على رسول الله (ص) بتوبة أبي لبابة، وكان النبي في منزل زوجته أم المؤمنين أم سلمة، فسمعته يضحك، قالت: يا رسول الله مما تضحك أضحك الله سنك؟ قال: نزلت توبة أبي لبابة، فقالت: أفلا أبشره يا رسول الله قال: بلى إن شئت، فقامت على باب الحجرة وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب ، وقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله (ص)هو الذي يطلقني بيده، فلما مرّ النبي عليه إلى صلاة الصبح تقدم(ص) منه وحلّ وثاقه، وهنا وقف أبو لبابة أمام النبي (ص) ليعاهد الله قائلاً: والله إني سأهجر الدار التي كانت منها معصيتي، وإني سأخرج من كل مالي، فقال له النبي (ص) " يكفيك أن تخرج من ثلث مالك".
وقيل: إنّ الآية التي نزلت على النبي في توبة أبي لبابة هي قوله تعالى: وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة 102) 1.
دروس القصة
1- الدرس الأول: إنّ على المؤمن أن يكون فطناً ذكياً وحذراً وبصيراً في إدارة مهامه ومسؤولياته وفي تعامله مع الناس، فلا يتعامل - ولا سيما في القضايا الهامة والحساسة - بسذاجة أو طيبة، فيقع أسير الكلمات العاطفية المخادعة أو تغرّه المظاهر الكاذبة، وإلاّ فربما وقع في فخ الأعداء وكشف أسرار الجماعة المؤمنة وعرضّها للمخاطر، كما حصل مع أبي لبابة عندما أخذ بالعاطفة فزلّ لسانه وأخبرهم بنية النبي (ص) في الحرب عليهم، فعدّ بذلك - بنصّ الآية الشريفة - خائناً لله ولرسوله، وخائناً للأمانة التي أؤتمن عليها في أن يكون مبعوث صادقاً لرسول الله (ص) وموفداً أميناً إلى اليهود، ولا شك "أنّ أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفظع الغش غش الأئمة"، كما قال أمير المؤمنين (ع).2
2- الدرس الثاني: أن ّالمؤمن إذا مسه طائف من الشيطان وزلّت قدمه فإنّ عليه أن لا ييأس من رحمة الله، بل عليه أن يرجع إلى الله تعالى ويلحّ عليه بالدعاء وطلب المغفرة وسوف يجد الله تواباً رحيماً، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (الأعراف: 201)
ولكن من شروط قبول التوبة أن يصحح الموقف وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (طه: 82)، وقال تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة: 39)، وعليه أن لا يتمادى مع النفس الأمارة بالسوء ومع وساوس الشيطان، بل يتوقف ويتراجع، تماماً كما فعل أبو لبابة، فإنّه لما شعر أنّ قدمه قد زلت وخان الله ورسوله (ص) لم يكمل السير في طريق الخيانة والمعصية، بل عاد إلى نفسه مؤنباً لها ومصمماً على خوض معركة الجهاد الأكبر في مواجه النفس الأمارة بالسوء حتى تنزل توبته من السماء، ولم يستح من الناس أو يخجل منهم، لأن "فضوح (فضيحة) الدنيا أهون من فضوح (فضيحة) الآخرة"، كما جاء في الحديث النبوي الشريف 3، فربط نفسه في عامود من أعمدة المسجد (وهو الذي لا يزال يعرف إلى اليوم بإسطوانة أبي لبابة ويأتيه المؤمنون للدعاء عنده)، في شجاعة قلّ نظيرها وصمم أن لا تطأ رجله أرضاً عصى فيها الله أبداً.
3- الدرس الثالث: في هذه القصة أنّها تكشف عن غدر اليهود وعنادهم للحق وتحريفهم للتوراة، فمع أنّهم يعرفون الحق، كما توحي بذلك كلمة كعب بن أسد، حيث قال لهم: تعالوا نتبع هذا الرجل ونصدقه، "فوالله لقد تبين لكم إنّه لنبي مرسل وأنّه للذي تجدونه التوراة"، وهذا ما أكّد عليه الله تعالى في كتابه في قوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (الأعراف: 157)، وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (الصف: 6)، ولكنهم مع ذلك مكروا وصمموا على الغدر من خلال محاولتهم استمالة أحد الصحابة من خلال هذا الاستعراض العاطفي، ليتعرفوا منه على ما يخطط لهم وما سيلحق بهم، وهكذا نجد أنّ كعباً يقترح عليهم أن يغدروا بالنبي (ص) يوم السبت، مستفيدين من أنه (ص) لا يفتك بهم في يوم عطلتهم، ولا يزالوا اليهود إلى يومنا هذا يمارسون أسلوب الغدر والخديعة والفتك بخصومهم، كما يستخدمون أسلوب التباكي، ليستدروا عطف العالم، كما نلاحظ في حكاية المحرقة المزعومة التي تعرضوا لها وركّزوا مظلوميتهم في أذهان العالم على أساسها، حتى أصبح من يناقش في قضية المحرقة معادياً للسامية، وأنت اليوم تستطيع أن تناقش في وجود الله وفي كون هذا الوجود حقيقة أم خيال ولكن لا يسمح لك أن تناقش أمر المحرقة!!
4- الدرس الرابع: إنّ النبي (ص) قال عندما بلغه أنّ أبا لبابة توجه إلى المسجد وربط نفسه بساريته: "لو كان جاءني لاستغفرت له"، وكلام النبي (ص) هذا مهم للغاية، وفيه دلالة على مشروعية توجه الإنسان إلى النبي (ص) أو الإمام والطلب إليه أن يستغفر له الله، في ردٍ بين على الذين يكفّرون غيرهم من المسلمين على أساس فهم خاطئ لفكرة التوسل، وما تضمنه قول النبي (ص) المتقدم هو ما جاء في صريح القرآن، قال الله سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا( النساء 64 )
5- الدرس الخامس: إنّ النبي (ص) رفض من أبي لبابة فكرة خروجه من كل أمواله ودفعها صدقة في سبيل الله تعالى، ولهذا علينا عندما نتصدق في سبيل الله أن نبقي شيئاً لعيالنا وأهلينا، وقد ورد في بعض الروايات أنّ من يتصدق بجميع ماله ثم يدعو الله ليرزقه فلا يستجيب الله دعاءه، ففي الحديث عن أبي عبد الله (ع) قال: "أربعة لا يستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني فيقال له: ألم آمرك بالطلب، ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك، ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له ألم آمرك بالاقتصاد ألم آمرك بالإصلاح؟ ثم قال وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (الفرقان 67)، ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة فيقال له : ألم آمرك بالشهادة" 4.
6- الدرس السادس: إمضاء النبي(ص) لتعدد الاجتهاد في أمته، فإنّ النبي (ص) لمّا أمرهم أن لا يصلّوا العصر إلاّ في بني قريظة، وقد تأخر القوم في الطريق، فلم يصلوا إلى بني قريظة في وقت العصر فرفض قسم منهم أن يصلوا صلاة العصر قبل وصولهم إلى المقصد، وإنما صلوها عند الوصول وبعد أدائهم لصلاة العشاء، وكان ذلك منهم امتثالاً لوصية رسول الله(ص)، بأن لا يصلوا إلا في بني قريظة، ولكنّ جمعاً آخر اجتهدوا في تفسير كلام النبي (ص) هذا بأن المراد به حثّهم على المسير ليصلوا قبل صلاة العصر، ولذا صلّوا صلاة العصر في وقتها، عندما فرضت عليهم ظروف الطريق أن يتأخروا، واللافت هنا أن النبي (ص) لم يعب على كلا الفريقين، ولم يعنف أياً منهما 5، مقراً وممضياً بذلك مبدأ مشروعية تعدد الاجتهاد وتنوع الفهم، وإن كان الأقرب إلى الصواب في فهم كلامه (ص) يقضي منا القول: إنّه لم يرد منهم ترك صلاة العصر لو أدركهم الوقت قبل الوصول إلى المقصد، وإنما أراد حثّهم على الإسراع في المسير، وإلا لو فرض أنهم تأخروا أياماً فهل يعقل أن يتركوا الصلاة كل هذه المدة؟!.
7- الدرس السابع: يتصل بصورة النبي(ص) لدى أخصامه، فالنبي(ص) كان معروفاً عند القاصي والداني، وعند الصديق والعدو بالنزاهة والصدق والإلتزام بالعهود والمواثيق، وأنه لا يغدر ولا يمارس الخداع، وهذا ما نستفيده من قول كعب بن أسد: "وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا".
1-مصادر القصة : السيرة النبوية لابن هشام ج 3ص717، البداية والنهاية لابن كثير ج4 ص 137.
2-نهج البلاغة ج 3 ص 37.
3-مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 26، وشرح نهج البلاغة ج 9 ص 228.
4-الكافي ج2 ص511.
5-كما يذكر ابن هشام في سيرته ج3 ص717.