حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية: الثلاثة الذين خلفوا
الشيخ حسين الخشن



   {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت  وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إنّ الله هو التواب الرحيم} (التوبة: 118).

 

قصة الآية

 

قصة مفعمة بالمواقف الرائعة ونابضة بالرحمة الإلهية الواسعة، إنّها قصة المؤمن الذي يصيبه مس من الشيطان، ثم تتداركه رحمة الله، فيتوب إلى الله، ويتوب الله عليه.

 

وإليك تفاصيل القصة كما يرويه أحد الثلاثة الذين تخلفوا وهو كعب بن مالك:

 

يقول: لم أتخلف عن رسول الله (ص) في غزوة غزاها إلاّ في غزوة تبوك – وهي الغزوة التي خرج فيها النبي(ص) لقتال الروم – فقد خرج النبي (ص) مع عساكر المسلمين جهاداً في سبيل الله وخرج معه المسلمون، لكنّ كعباً تباطئ لا لعذر فهو يقول: "لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، ولم يكن رسول الله(ص) يريد غزوة إلاّ ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها وقد وضحّ للمسلمين أمرهم ليتأهبوا، وهكذا خرجت جحافل المسلمين، فقد كانوا آنذاك جماً غفيراً لا يجمعهم كتاب وكان الوقت حراً شديداً والسفر بعيداً. وخيّل إلى كعب أنّه إذا تغيّب فلن يكشف أمره، فأمام هذه الألوف من المجاهدين  من ذا الذي سيفتقد كعب أو يسأل عنه .

 

وقد اتخذ النبي (ص) إجراءً آخر قبل خروجه، فدعا أمير المؤمنين (ع) وطلب منه البقاء في المدينة، فامتثل الإمام (ع)، وبعد خروج النبي(ص) بدأت ألسن المنافقين في المدينة تردد أنّ النبي استثقل علياً، فتركه في المدينة، فلحق علي(ع) بالنبي (ص) وأخبره بقولهم، فقال النبي (ص) في ذلك كلمته الخالدة: "يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي".

 

نعود إلى كعب الذي سوّف في الخروج حتى أيقن أنّه لن يدرك النبي (ص)، يقول: "وغزا رسول الله (ص) تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر، فلم يزل يتمادى بي حتى أشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه ولم أقض جهازي، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، بيد أنّه توانى وتأخر ولم يوفق للخروج في هذه الغزوة، وامتد اليوم إلى أيام وأسابيع وشهور..

 

 يقول: "فكنت أخرج في المدينة فلا أرى إلاّ رجلاً متهماً بالنفاق أو رجلاً مريضاً من الضعفاء وكان كعب يحاول أن يسلي نفسه فيقول: لن يشعر رسول الله (ص) بغيابي، ولم يتخيّل أن النبي(ص) سيسأل عنه بالإسم، وهكذا كان، فبينما النبي (ص) جالس في صحابته وإذا به يسأل: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حسبه برداه ونظرُه في عطفيه، فدافع عنه معاذ بن جبل قائلاً: بئسما قلت، والله ما علمنا عليه إلاً خيراً، فسكت النبي (ص) لحكمة.

 

ومضت الأيام والليالي ورجع النبي (ص) من غزوته تلك، وكعب يفكر كيف سأواجه النبي أأكذب أم أصدق؟! يقول فعزمت على الصدق، ولما وصل النبي(ص)، إلى المدينة وعلى عادته دخل المسجد يصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس فجاءه بعض المخلفين يعتذرون وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل اعتذارهم واستغفر لهم، يقول: فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي ما أخّرك وخلفك؟ فقلت: والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ (بمعنى تغضب) فيه، فإنّي لأرجو منه عند الله، لا والله ما كان لي عذر، فقال النبي (ص): أمّا وقد صدقت فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت، وبدأت المعاناة وبدأ التحدي والإغراء، وأول ما واجهه أنّه ثار رجال من بني سلمة، يقول: فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً مثل هذا! ولماذا لا تعتذر إلى الرسول(ص) بما اعتذر به هؤلاء، ويكفيك أن يستغفر لك الرسول فما زالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم تداركته رحمة الله، فسألهم: وهل لقي أحد ما لقيت، قالوا: نعم رجلان، وهما مرار بن الربيع وهلال بن أمية، وهما رجلان صالحان، فقلت: لي بهما أسوة.

 

المقاطعة

 

ثم نهى النبي أحدا ًمن الناس عن مكالمتنا، فأجتنبهم الناس وقاطعوهم حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فأما صاحباي فاعتزلا الناس، أما كعب وهو الشاب فكان يخرج إلى المسجد والسوق دون أن يكلّمه أحد، يقول: كنت آتي رسول الله فأسلم عليه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام؟ وكان النبي(ص) يعيش الألم على حالة كعب، فينظر إليه أثناء الصلاة، فإذا التفت كعب إلى النبي أعرض النبي (ص)عنه.

 

وتزداد الصعوبة، يقول: ولما طالت جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت.

 

 وقمة المعاناة ما يذكره بقوله: فدخلت السوق وإذا أنا بنبطي من الشام يسأل عن كعب، فأشار الناس إليّ، فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان فإذا فيه: "أما بعد قد بلغني أنّ صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك"، فقال كعب: وهذا من البلاء فأحرق الرسالة.

 

اعتزال النساء

 

ثم وبعد مضي أربعين ليلة على القطيعة تصاعد التشديد، فأمر النبي (ص) نساء الثلاثة الذين خلّفوا باعتزال أزواجهم، وهذه قمة المعاناة والعذاب، فيأتي مبعوث النبي إلى كعب ويقول له: إنّ رسول الله(ص) يأمرك باعتزال زوجتك! ماذا أفعل أطلقها؟ بل اعتزلها ولا تقربها، باستثناء زوجة هلال فسمح لها فقط بخدمة زوجها، لأنّه رجل كبير، ومضت عشر ليال على هذا الحال، فأصبح المجموع خمسون ليلة.

 

وفي صبيحة اليوم الخميسين، وفيما كان كعب يصلي صلاة الفجر وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت إذا بالبشير يأتيه: يا كعب أبشر يقول: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج وأذن رسول الله بتوبة الله علينا، يقول: فنزعت ثوباي وأهديتهما للبشير، ثم ارتديت غيرهما وهرولت إلى رسول الله والناس يتلقوني فوجاً فوجاً يهنؤنني بالتوبة، يقول: فدخلت المسجد فإذا رسول الله جالس والناس حوله تقدم الرجل وسلم على رسول الله فقال له النبي (ص) ووجهه يبرق بالسرور: أبشر بخيرِ يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك! قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله، قال: بل من عند الله، ونذر الرجل أن يتصدق بجميع ماله، فقال له النبي(ص): أمسك عليك بعضه، فهو خير لك، فقال: يا رسول الله إنّ الله إنّما نجاني بالصدق، وإنّ من توبتي أن لا أحدث إلاّ صدقاً ما بقيت .1

 

تفسير الآية

 

1- قوله " وعلى الثلاثة الذين خلفوا" عطف على ما سبقه، والتقدير وقد تاب الله على الذين خلفوا.

 

2- إنّ قوله "خلفوا" لا يراد به أنّ رسول الله قد أذن لهم بالتخلف أو استخلفهم على المدينة، بل المراد أنّ النبي(ص) خلّفهم وراءه، لأنّهم لما توانوا وتكاسلوا، سار(ص)بصحبه غيرمبال بهم، فكأنما خلّفهم خلفه.  

 

3- "ضاقت عليهم الأرض بما رحبت"، أي رغم اتساعها، وأما قوله "وضاقت عليهم أنفسهم"، فالمراد به أنهم شعروا بضغط نفسي نتيجة الهم والكرب الذي أصابهم.

 

دروس وعبر

 

1) التوبة وشروطها، إنّ التوبة وهي العودة إلى الله لا تكون بمجرد كلمات ترددها ألسنتنا، فقد ظلّ الثلاثة خمسين يوماً يبكون ويتوسلون إلى الله حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وعندما عرف الله صدق نياتهم، تاب عليهم، ونحن مهما كانت ذنوبنا، إذا أخلصنا النية وعدنا إلى الله، سنجده تواباً رحيماً.

 

2) إنّ ثمة درساً ثانياً نستفيده من القصة المذكورة، وهو ما يتصل بكيفية مواجهة المنكر، فإن تخلف هؤلاء الثلاثة عن اللحاق بركب النبي(ص) كان خطأ فادحاً، فقابله النبي والمسلمون بمقاطعة اجتماعية قاسية، دفعتهم إلى العودة إلى الله 

 

3) إنّ الصدق مهما كان مكلفاً فهو أفضل من الكذب ولو كان سهلاً ونافعاً.

 

4) تدلنا القصة على ملامح الشخصية القيادية عند شخصية رسول الله (ص) فهو لما عزم على الإنطلاق لغزوة تبوك، لم يترك المدينة دون والٍ، فعيّن  علياً (ع) لهذه المهمة، كما أنّه كان إذا خرج إلى المعارك استعمل التورية في تحديد وجهة السير ولم يعلم المسلمين بمقصده خشية تسرب الخبر.

 

 فتنة أخرى لكعب

 

وتجدر الإشارة إلى أنه قد جاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أنّ كعباً بن مالك وحسان بن ثابت والنعمان بن بشير كانوا عثمانية، يقدمون بني أمية على بني هاشم، ويقولون : الشام خير من المدينة، واتصل بهم أن ذلك بلغ علياً (ع) فدخلوا عليه فقال له كعب: أخبرنا عن عثمان أقتل ظالماً فنقول بقولك أو قتل مظلوماً فتقول بقولنا، أو نكلك إلى الشبهة  فيه؟ فالعجب من تيقننا وشكك فيه! وقد زعمت العرب أنّ عندك علم ما اختلفنا فيه فهاته نعرفه، فقال لهم علي (ع):" لكم عندي ثلاثة أشياء: استأثر عثمان فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، وعند الله ما تختلفون فيه إلى يوم القيامة"، فقالوا: لا ترضى بهذا العرب ولا تعذرنا به، فقال علي(ع):"أتردون عليّ بين ظهراني المسلمين بلا نية صادقة ولا حجة واضحة! اخرجوا عني فلا تجاوروني في بلد أنا فيه أبداً" فخرجوا من يومهم فساروا حتى أتوا معاوية، فقال: لكم الكفاية أو الولاية، فأعطى حساناً ألف دينار وكعباً ألف دينار، وولى النعمان حمص .2

 

ولذلك فقد شكّك بعض الأعلام في نزول الآية في كعب وصاحبيه، باعتبار أن الرواية في ذلك يرويها سعد نفسه، وإثبات فضائل الشخص بروايته هو أمر لا يخلو من نظر وإشكال، ومن هنا رجح أن تكون الآية قد نزلت في أبي لبابة وأصحابه، كما نقله الزمخشري في الكشاف كأحد الأقوال في المسألة .3
 
 
 
1-مصادر القصة: صحيح البخاري ج5 ص130، وتفسير القمي ج1 ص296- 298، مجمع البيان ج5 ص120.
2-أنظر: الأعاني ج15 ص30.
3-قاموس الرجال للتستري ج8 ص584.
 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon