حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية: مسجد ضرار
الشيخ حسين الخشن



وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)  - سورة التوبة

 

قصة الآيات

 

قصة هذه الآيات هي قصة الإيمان والنفاق، قصة الزهد المخادع، قصة الحسد والضغينة التي تحرق الإيمان، وتهلك الإنسان، وترديه المهالك وتجعله عند الله أهون هالك، وإليك القصة:

 

صمم جماعة من المؤمنين من بني عمرو بن عوف من الأنصار، على اتخاذ مسجد يقيمون فيه الصلاة تقرباً إلى الله وقد طلبوا من رسول الله (ص) أن يأتيهم ليصلي في مسجدهم، فلبى النبي(ص) الطلب، وصلى في المسجد الذي أصبح له ذات يوم شأن عظيم وهو مسجد قباء، في هذه الأثناء شعرت جماعة من أقربائهم بالحسد الشديد، فاجتمعوا والحسد يغلي في نفوسهم، وقالوا فلنبنِ نحن أيضاً مسجداً نصلي فيه

 

ووصلهم في هذه الأثناء – حسب ما تنص بعض المصادر – اقتراح من رجل معادٍ لله ولرسوله، ينص هذا الاقتراح على دعوتهم لبناء مسجد، فمن هو هذا الرجل صاحب هذا الاقتراح؟ وما هي قصته؟

 

إنّه أبو عامر الراهب، وكان من قصته أنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح. فلما بُعث النبي (ص) وهاجر إلى المدينة واجتمع أهلها من الأوس والخزرج (الأنصار) حوله شعر أبو عامر بالحقد والحسد! فلمَ لا يكون هو الرسول الذي تلتف حوله الناس وهو الراهب الزاهد والمتنسك؟! وهكذا ساقه حسده وحقده، ليكون في الصف المعادي لرسول الله(ص).

 

وأرسل إليه النبي (ص) ليلقي عليه الحجة ويتلو عليه آيات القرآن الكريم التي تأخذ بمجامع القلوب، فأبى أن يسلم عنادا ًوحقداً وترك المدينة وانحاز إلى المشركين في مكة، وخرج معهم في المعارك التي خاضوها ضد رسول الله (ص)، وكان يحثّ القرشيين على طلب ثأرهم من النبي (ص) بعد هزيمتهم في بعض حروبهم معه، ولما فتح النبي (ص) مكة هرب منها إلى الطائف، ولما أسلم أهل الطائف لم يرض بأن يدخل في الإسلام، (إنه - بحق - مصداق جلي للشخص الذي ختم الله على قلبه وسمعه وبصره غشاوة)، فلحق بالشام، ثم خرج إلى بلاد الروم وتنصّر (أي اعتنق النصرانية)، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل أخذ يفكر في محاربة النبي(ص) واستئصال الإسلام، فراسل المنافقين في المدينة، ومنهم هؤلاء الجماعة من بني عوف، وقال لهم في رسائله: استعدوا فإنّي سأذهب إلى قيصر وآتي مع جنوده  وأخرج محمداً من المدينة، واقترح عليهم أن يبنوا مسجداً كمرصد لهم وله في حال عودته يجتمعون فيه ويكون المعقل الآمن وغير المشبوه الذي ينطلقون منه لمحاربة الدولة الفتيّة والكيد لها.( واللافت أنّه كان لأبي عامر هذا ولد  مؤمن وله شأن عظيم إنّه حنظلة غسيل الملائكة، ولعلنا نعود إلى قصته في مناسبة أخرى).

 

وهكذا تلاقت الرغبات، فهؤلاء المنافقون من بني عوف أرادوا - من جهتهم - بناء مسجد لهم، حسداً لنظرائهم من بني عوف "ولعل أبا عامر يصلي فيه"، كما قال بعضهم، وهذه علامة نفاق واضحة، وأبو عامر - من جهته - يريد بناء مسجد، ليكون مرصداً ومنطلقاً لمواجهة الإسلام، وهكذا كان، فباشروا في بناء المسجد.

 

ولكي يسبغوا – أعني المنافقين – مشروعية على هذا المسجد ذهبوا إلى النبي (ص) وقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلي فيه وتدعو بالبركة، فقال النبي (ص): إنّي على جناح السفر – وكان سائراً إلى غزوة تبوك – ولو قدمنا أتيناكم ان شاء الله، فصلينا لكم فيه.

 

ذهب النبي (ص) إلى تبوك، وفي منصرفه منها نزلت عليه الآيات التالية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا  لتفضح هؤلاء ونواياهم الخبيثة، وتقرر – أي الآيات - أنّ هذا المسجد هو مسجد ضرار، أي لا يريد بانوه سوى مضارة أهل مسجد قباء، بل هو مسجد كفر وإرصاد لمن حارب الله ورسوله (وهو أبو عامر الراهب) ، فأرسل النبي (ص) بعض أصحابه وأمرهم بتخريبه وهدمه.

 وهكذا دخل هذا المسجد في سجلات التاريخ، كما دخل مسجد قباء فيها، ولكن شتان بين المسجدين، فأحدهما: وهو مسجد قبا دخل في سجلات التاريخ الناصعة، بعد أن خلّده الله تعالى بقوله لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ولذا تحول إلى محجة يؤمه المؤمنون إلى يومنا هذا. والآخر: دخل هو وبانوه في سجلات الغدر والخيانة والنفاق، وقد خلد الله قصته أيضاً بقوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (1)

 

 

دروس الآية

 

الدرس الأول: هو درس الإخلاص في العمل، بأن تكون أعمالنا كلها لله وحده، عندما نصلي أو نصوم أو نحج أو نجاهد أو نتصدق أو نبني مسجداً.. قال تعالى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (البينة - 5)، وقال سبحانه وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18 - الجن) والعمل عندما يكون لله تعالى، فإنّه ينمو ويزكو ويثمر، "ما كان لله ينمو"، أما إذا كان لغير الله، فكان دافعه الحسد والحقد والغدر أو الرياء والعصبية فإنّه سيبور وينهار ولن يزكو ولن يثمر عند الله. وإنّ الله لا ينظر إلى حجم العمل الذي نعمله في سبيله، بل ينظر إلى قلوبنا ونوايانا "إنّما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى"، كما ورد في الحديث النبوي الشريف 2 وميزان الله لا يزن كمية العمل، وإنّما يزن نوعيته، فهل أعمالنا لله أم لا ؟ عندما نبني مسجداً أو نتصدق على فقير أو مسكين فلمن نعمل ذلك ؟ راقبوا نوايكم جيداً، أو دعني أصحح كلامي فأقول: لنراقب نوايانا جيداً حتى لا نكون ممن تحدث عنهم الله تعالى في قوله قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) (سورة الكهف).

 أسمعتم بقصة مسجد بهلول؟ بهلول كان في زمن هارون الرشيد وكان يتظاهر بالجنون وهو من أعقل الناس، وله كلمات وتصرفات عجيبة تدل على حكمته وتدينه، وذات مرة يجد مسجداً قد بني للتو وكتب عليه مسجد فلان (اسم الباني) بناه قربة إلى الله تعالى، فجاء بهلول إلى هذه العبارة ومحاها وكتب بدلاً عنها "مسجد بهلول"، ولما عرف باني المسجد بالأمر غضب غضباً شديداً وذهب إلى هارون وشكى إليه فعل بهلول، فأمر هارون بإحضار بهلول، ولما حضر قال له الرجل: كيف تفعل ذلك يا بهلول؟! بهلول: وماذا فعلت؟ الرجل: أزلت اسمي عن مدخل المسجد ووضعت اسمك، فأنا دفعت المال لبناء المسجد وأنت تسرق جهدي وتضعه باسمك؟! بهلول: ألست قد بنيته لله وابتغاء مرضاته؟ الرجل: طبعاً بنيته لله! بهلول: على ماذا تخاف إذاً، فالله لن يضيع عنده أجر من أحسن عملاً، فسواء كان باسمي أو اسمك فالله لن تشتبه عليه الأمور، إلاّ أن  تكون بنيته ليشكرك الناس ويمتدحوك؟

 

الدرس الثاني: إنّ الحسد مرض قاتل، يردي صاحبه ويورده المهالك، ويحرق إيمانه، كما تحرق النار الحطب، وفي الآيات وما ورد في نزولها نجد نموذجين جليين لمخاطر الحسد وعواقبه الوخيمة:

 

1- النموذج الأول هو أبو عامر الراهب، والذي كان زاهداً متنسكاً، ولما بعث الله محمداً رسولاً كان يفترض به أن يكون من أوائل من يدخل الدين الجديد، لكنه رفض الإسلام وامتلأ قلبه بالحسد، لأنّ الله لم يختاره ليكون هو النبي وليس محمداً، ولذا حقد على النبي(ص) وظل الحسد يغلي في قلبه إلى موته، ودخل العرب جميعاً في الإسلام إلا هو ذهب إلى قيصر الروم، ليطلب مساعدته على قتال النبي (ص) ! 

2-  النموذج الثاني: هم جماعة المنافقين من بني عوف الذين دفعهم حسدهم لأقاربهم لبناء مسجد الضرار، ففضحهم الله وكتب عليهم الشقاء والهلاك بسبب حسدهم وحقدهم، كما كتب الشقاء على أبي عامر الراهب لحقده.

 

الدرس الثالث: ضرورة الحذر والتنبه، وعدم الاغترار بالمظاهر المخادعة، فإنّ أعداء الإسلام والمنافقين يعملون بدهاء في سعيهم لتخريب الدين عن طريق الدين، فأبو عامر والمنافقون لم يبنوا لهم مركزاً مفضوحاً، لمحاربة الله ورسوله، وإنما بنوا مسجداً، ليخدعوا الضعفاء والبسطاء، وليشكل ذلك غطاءً جيداً لأعمالهم الخبيثة ونواياهم الشريرة، وفي زماننا هذا نجد أنّ بعض الطامحين إلى السلطة أو الغارقين في الشهوات والذنوب أو بعض السلاطين المستبدين والمستكبرين يبنون المساجد الفخمة والجميلة والمزركشة بأفضل أنواع  الزخارف ولدى التدقيق تجد أنّهم لا يفعلون شيئاً من ذلك لله، وإنما لأجل مصالح سياسية وسلطوية ومادية رخيصة، إنّها في حقيقة الأمر مساجد بنيت ضراراً وخداعاً، ولم تبن على أساس التقوى. وكمْ حورب الدين باسم الدين! ألم يحارب علي (ع) يوم صفين باسم القرآن عندما رفعت المصاحف في وجهه؟! وانطلت الحيلة على الكثيرين من السذج وترتب على ذلك تغيراً خطيراً في مسار الأحداث، ألم يحاول إعلام السلطة أن يبرر قتل الإمام الحسين بحجة "دينية"، وهي زعمهم أنّه "خرج عن حدّه فقتل بسيف جده"؟! وهكذا فإنّ أمكر أساليب مواجهة الدين والمؤمنين هو بناء المساجد على قاعدة مساجد الضرار.

 

 وهكذا نلاحظ  أنّ بعض الناس المتدينين بحسب الظاهر والذين يرتادون المساجد سواءً في القرى أو المدن يندفعون في بعض الأحيان لبناء مسجد هنا أو هناك، وعندما تبحث عن الخلفيات تكتشف أنّ الباعث لبنائها ليس هو رضوان الله، وإنما المنطلق لهم في بنائها هو بعض العصبيات، إذ كيف تبني العائلة أو العشيرة أو الجماعة الفلانية مسجداً لها ونحن لا مسجد لنا هذا الأمر يسيء إلى سمعتنا ! فلا بد ّإذن أن نبني مسجداً أفضل من مسجدهم ! وهكذا يبني هؤلاء مسجداً، ويبني أولئك مسجداً، ومع الوقت يحصل نزاع وتنشب خلافات وانشقاقات بين المؤمنين أنفسهم باسم المساجد، فهؤلاء من أنصار هذا المسجد، وأولئك من أنصار المسجد الآخر!! إنّ هذه المساجد التي تبنى على هذه الأسس هي مصاديق واضحة لمساجد الضرار،  والله عز وجل لن يبارك بها.

 

الدرس الرابع: أنّ الترهّب والزهد قد يكون خداعا وكذباً ولأغراض دنيوية، كما هو الحال في زهد أبي عامر الراهب، وإلاّ لو كان هذا الرجل راهباً وزاهداً بحق وكان هدفه مرضاة الله لاتبع النبي (ص) وعرف النور الذي معه، وهكذا هم بعض المترهبين إنّهم من طلاب الدنيا والجاه، ولكن لما لم يحصلوا على الدنيا من أسبابها المباشرة إذا بهم يأتونها عن طريق الدين، فيتخذونه مطية لأهدافهم، أسمعتم قصة ذاك الرجل الذي سعى للرئاسة والثروة عن طريق الدنيا فلم يتسن له ذلك فطلبها عن طريق الدجل باسم الدين؟ جاء في الرواية عن أبي عبد الله الصادق (ع)  "كان رجل في الزمن الأول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها فطلبها من حرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشيطان فقال: يا هذا قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها، وطلبتها من الحرام فلم تقدر عليها، أفلا أدلك على شيء يكثر به دنياك ويكثر به تبعك؟ - قال: نعم، قال: تبتدع ديناً وتدعو إليه الناس، (قال:)، ففعل، فاستجاب له الناس فأطاعوه وأصاب من الدنيا (قال:) ثم إنه فكر وقال: ما صنعت شيئاً؟ ابتدعت ديناً ودعوت الناس إليه، ما أرى لي توبة إلا أن آتي من دعوته إليه فأرده عنه (قال:) فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه فيقول: إنّ الذي دعوتكم إليه باطل وإنما ابتدعته كذباً، فجعلوا يقولون له: كذبت، هو الحق ولكنك شككت في دينك فرجعت عنه (قال:) فلما رأى ذلك عمد إلى سلسلة فأوتد لها وتداً ثم جعلها في عنقه فقال: لا أحلها حتى يتوب الله علي، (قال:) فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان بن فلان: وعزتي وجلالي لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك ما استجبت لك حتى ترد من مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه 3.

 

ولهذا فلا نغتر بكل من لبس لباس أهل الدين، فقد يكون منافقاً، أو متجراً باسم الدين، وعلينا أن لا ننخدع بظاهر هؤلاء، وإنما نختبر أمثال هؤلاء من خلال سلوكهم وورعهم وتقواهم، لا من خلال طول لحاهم أو إسدال حنك عمائمهم .   

 

 

1-مصادر القصة: تفسير القمي ج 1ص 305، التبيان للشيخ الطوسي ج 5ص 297، تاريخ المدينة لابن شبةج1 ص55، جامع البيان للطبري ج11 ص 31 وما بعدها.

2-التهذيب للشيخ الطوسي ج 4 ص 186،وصحيح البخاري ج 1 ص2

3-المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج1 ص207.

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon