حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية: تشوه العبادة في زمن التصحر الروحي
الشيخ حسين الخشن



في زمن التصحر الروحي والأخلاقي ما أحوجنا إلى حديث الروح والأخلاق، فاسمحوا لي ونحن على ضفاف شهر الصيام شهر العبادة والقيام، شهر ضيافة الله، أن نتساءل: كيف نعبد الله في هذا الشهر وفي كل شهر؟ 

 

إنّ العبادة - كالكثير من المفاهيم الدينية الأصلية – قد تعرضت للكثير من التشوّه، مع مرور الزمان وتعاقب الأيام، وذلك أنّ الدين، كالنبع، فإنه يخرج من عين صافية، ويظل كذلك إلى أن يسير في الأودية ويقطع الجبال والسهول.. فيحمل معه في رحلته الطويلة الكثير من الأوساخ التي تلوّث صفاءه، والدين كذلك، ومن هنا كان بحاجة باستمرار إلى عملية تصفية أو عملية إحياء وتجديد، وبحاجة إلى حراس يرصدون كل التشوّه الذي تعرض له ليصححوه، وكان بحاجة إلى الاجتهاد المستمر، فالاجتهاد هو القوّة المحركة للدين.

 

 والتشوّه الذي أصاب العبادة يمكن رصده على أكثر من صعيد:

 

تحويل العبادة إلى طقوس

 

الصعيد الأول: على مستوى المضمون الروحي الفاعل والمغير، فقد تمّ مسخ العبادة وتحويلها إلى مجرد طقس وعمل شكلي لا روح فيه، فهو خالٍ من المضمون والحيوية، باختصار: تتحول الصلاة إلى مجرد عادة حتى لو تركها المرء استوحش كما جاء في الحديث، لكن كم أنّ هذه الصلاة مغيرة في حياتنا؟ كم يُطهّر الصوم من قلوبنا؟ هذا ما لا نعتني به ولا نعيره كبير اهتمام، ونلاحظ أن أداء العبادة في كثير من الأحيان يصبح أمراً ضرورياً لا باعتبار حاجتنا الروحية إليها بل باعتبار أنّها أصبحت جزءاً مكملاً من صورتنا الاجتماعية، ولذا نسمع من يقول: أنا عمري خمس وأربعون سنة وإلى الآن لم أحج ماذا سيقول عني الناس؟! أو أنت صرت ابن ستين سنة وإلى الآن لم تصم أو لن تذهب إلى المسجد؟! فالمسألة ليست ماذا سيقول الله عني، والموضوع ليس ماذا أريد  أو ما احتاجه أنا، وإنّما الموضوع ماذا تريد الناس وما الذي سيقولونه عني! 

 

وهكذا تمتد الشكلانية إلى علاقتنا بالنبي (ص) أو الإمام (ع) فتجد – مثلاً - أنّ بعض الشباب يضع وشماً على عضده يتضمن ذكر الله، أو عبارة "لا فتى إلاّ علي ولا سيف إلاّ ذو الفقار"، أو يعلق سيف الإمام (ع) في رقبته، مختصراً الإمام علي (ع) بالسيف، هذا هو التشويه والمسخ الحقيقي للدين والرموز الدينية، تماماً كما أنّ بعض النساء المنحرفات تضع الصليب في عنقها!

 

العبادة ليست شكلاً ولا مظاهر ولا أعمال استعراضية، ولم تشرع لأجل ذلك، العبادة روح، أنت في الصلاة لست في حالة رياضة بدنية، كما كان يقال لنا ونحن صغار، بل أنت في رياضة روحية، أنت تقف بين يدي الله تعالى، أنت في حالة عروج إلى الله، ويجب أن نتحسس هذا الأمر بمشاعرنا ونعيشه في أعماق قلوبنا، وأنت عندما تدخل إلى المسجد، فلا بدّ أن تشعر بشعور مختلف عن دخولك لأي مكان آخر، ألا وهو شعور من يدرك ويعي أنّه في بيت من بيوت الله، {في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال..}،[النور 36]، لقد كان الواحد من أئمة أهل البيت (ع) إذا توجّه إلى الصلاة تغيّر لونه، وإذا كبّر تكبيرة الإحرام ارتعدت فرائصه، فإذا سئل: لماذا أصابك ذلك؟ يقول: أتدرون بين يدي من أقف؟ إني أقف بين يدي جبار السماوات والأرض، أقف بين يدي العزيز المقتدر، ففي الحديث أنّ علي بن الحسين (ع) كان إذا توضأ للصلاة وأخذ في الدخول فيها، اصفر وجهه وتغير لونه، فقيل له مرة في ذلك،؟ فقال: إني أريد الوقوف بين يدي ملك عظيم" 1.

 

إنّ العبادة التي تنطلق من قلب مقبل على الله سوف تمنحنا الأمن والإطمئنان، لأنّ الله تعالى هو مصدر الأمن والسلام، {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد 16]، هذه هي حقيقة الصلاة، وظيفتها أن تمنحك الاطمئنان والسلام االداخلي:{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد 28]، وفي ضوء ذلك تكون العبادة حاجة لنا ولنفوسنا القلقة والخائفة، ولقلوبنا المليئة بالأمراض والأحقاد، والصلاة هي التي تساهم في تطهيرها من كل ذلك.

 

تقزيم العبادة

 

الصعيد الثاني: على مستوى الامتداد والشمولية، حيث تمّ تقزيم العبادة وإلغاء دورها ووظيفتها الاجتماعية والإنسانية، فالعبادة غدت صلاة وصوماً وحجاً دعاءً ... ولا شك أنّ هذه تأتي على رأس العبادات، لكنّ عبادة الله لا تنحصر بذلك، فهي أوسع من ذلك بكثير، فالأنشطة الإنسانية والخدمات الاجتماعية عندما يؤديها الإنسان بهدف تخفيف أوجاع المعذبين ولا يريد بذلك منهم جزاءً ولا شكوراَ، فإنّها تكون أعمالاً عبادية، ولنسمع إلى بعض كلمات علي(ع) وهو يرشدنا إلى هذا المفهوم الواسع للعبادة:

 

1- يقول(ع): " إنّ من العبادة لين الكلام وإفشاء السلام" 2. فطبقاً لهذا الحديث فإن كل كلمة طيبة تبلسم جراح فقير أو محتاج أو تواسي مريضاً أو تعزي مفجوعاً .. فإنها عبادة وكل من يلقي السلام على الآخرين فإنه في حالة عبادة لله، وما أجمل هذا المعنى الذي يتيح لنا أن نعبد الله في حديثنا مع الناس وسلامنا عليه !

 

2- وفي كلمة أخرى له (ع): "أفضل العبادة غلبة العادة" 3، وهذا الحديث يوسع مفهوم العبادة لما يشمل مجاهدة الإنسان لنفسه في سبيل التخلص من العادات السيئة التي ورثها من أهله أو أصدقائه أو غيرهم. فعندما تكون معتاداً على أمر قبيح كشرب الدخان أو المخدرات - مثلاً - وتجاهد نفسك للتخلص من هذه العادة القبيحة، فأنت في أفضل أنواع العبادة.

 

3- وفي كلمة ثالثة له (ع) "أفضل العبادة العفاف" 4، وفي ضوء هذا الحديث فإنّ مفهوم العبادة يتسع ليشمل سلوك الإنسان وتعامله مع الجنس الآخر، فعندما تقع عينا الرجل على امرأة لا تربطه بها رابطة شرعية، أو تقع عينا امرأة على رجل لا تربطها به رابطة شرعية، فمكنه أن يعصي الله بهذه النظرات غندما ينظر بشهوة إلى الآخر، ويمكنه أن يعبد الله بهذه النظرات، عندما يحرص على أن تكون نظراته بريئة، بل إن ذلك هو من أجمل وأفضل مصاديق العبادة، وفي حديث آخر عنه(ع):" غضّ الطرف عن محارم الله سبحانه أفضل عبادة" 5.  

 

ميزان قبول الصلاة 

 

  وعن هذا الترابط الوثيق بين العبادة وبين سلوك الفرد في المجتمع نجد أن بعض النصوص الإسلامية تعتبر أن ميزان قبول العبادات المعروفة كالصلاة ونحوها عند الله تعالى، إنّما هو بمدى تأثيرها على حياة الفرد وتغييرها لسلوكه في المجتمع، قال تعالى:{ إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) : " اعلم أن الصلاة حجزة الله في الأرض فمن أحب أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته، فلينظر،فإن كانت حجزته عن الفواحش والمنكر، فإنما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز" 6

 

وهناك قصة رائعة في هذا المجال حدثني بها بعض المؤمنين وخلاصتها: أّنه كان يعمل أجيراً في زراعة الأرض وفلاحتها عند رجل مسيحي، وكان هذا الفلاح المسلم عندما يأخذ استراحة الأكل عند الظهيرة يستغلها لأجل الصلاة والطعام ، وقد لاحظ رب العمل ذلك منه، فسأله: لماذا تصلي؟ قال: إن الله تعالى يقول لنا في القرآن: {إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، قال له: فسر لي، قال له: إنّ صلاتي تعلمني أن لا أسرق ولا أغش ولا أخون ولا أغتاب.. قال: إذا كان الأمر كذلك فبدل أن تكون فترة استراحتك هي ربع ساعة فلتكن نصف ساعة !

 

العبادة عز للمؤمن

 

الصعيد الثالث: تخيل أن العبادة تربي الشخصية الضعيفة، وهذ مفهوم خاطىء بكل تأكيد، فالعبادة لا تهدف إلى إذلال الإنسان ولا سحق شخصيته، كما قد يتخيل البعض، كلا ، بل العبادة تريد أن تبني الشخصية العزيزة القوية، وإنّ حالة الشكوى الوحيدة التي لا يشعر فيها أحدنا بالذل والحقارة هي الشكوى لله تعالى، يقول أمير المؤمنين (ع): "إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً إلهي أنت كما أحب فوفقني لما تحب" 7.

 

العبادة لا تهدف إلى سحق شخصيتنا بل إلى بناء الشخصية العزيزة، لأنّك تقف وأنت الضعيف أمام مصدر القوة لتستلهم وتستمد منه الصبر والعزيمة والقوة، ولذا كان أقوى الناس وأشجعهم على مرّ التريخ هم أعبد الناس، وكما قال الشاعر في وصف أمير المؤمنين (ع):

 

"هو البكاء في المحراب ليلاً       هو الضحاك إن جدّ  الضراب" . 8

 

العبادة الواعية

 

الصعيد الرابع: على صعيد الوعي، فالعبادة التي يريدها الله تعالى منا هي العبادة الواعية التي تفتح قلوبنا وعقولنا على الخير ولا يريد منا تعالى العبادة العمياء الصماء التي نؤديها دون وعي ودون بصيرة، أو نؤديها وقلوبنا سوداء تحمل الحقد للآخرين ، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف:  "تفكر ساعة خير من قيام ليلة" 9، وفي الحديث أيضاً أنّ الإمام علي (ع) رأى خارجياً يتهجد فقال: "نوم على يقين خير من صلاة في شك" 10. وعنه (ع): "التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين" 11، وإن هؤلاء الذين يعبدون الله تعالى وهم يفتقدون العقل والبصيرة هم أضرّ على الدين من أعدائه والمعلنين بالحرب له .
 

1-دعائم الإسلام ج1 ص158.

2-عيون الحكم والمواعظ ص142.
3-المصدر نفسه ص131.
4-الكافي ج2 ص79.
5-عيون الحكم والمواعظ ص349.
6-معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص237.
7-الخصال للصدوق ص420.
8-من قصيدة للناشىء الصغير (ت 365هـ) ، انظر أعيان الشيعةج 8 ص .284
9-المحاسن للبرقي ج1 ص26.
10-نهج البلاغة ج4 ص22.
11-عيون الحكم والمواعظ ص53.
 





اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon