التطبير: رؤية إسلامية فقهية
الشيخ حسين الخشن
لعل من أغرب الوسائل المتبعة في إحياء الذكريات الدينية تلك الوسيلة أو الطريقة التي يعتمدها البعض في إحياء ذكرى شهادة الإمام الحسين (ع) والمتمثلة بضرب الرؤوس بالسيوف، وهو العمل الذي اصطلح عليه في بعض الأوساط بــ "التطبير" 1، فماذا عن شرعيّة هذه الوسيلة؟ ومتى جاءتنا
ومن أين؟ وما هي مبرّرات المدافعين عنها؟ وهل هي مبرّرات مقبولة؟
في المقابل، ما هو مستند المعارضين لها وحجتهم في رفضها؟ هذا ما نحاول تسليط الضوء عليه فيما يأتي:
عادة حادثة ودخيلة
إنْ لم يكن من الواضح عندنا بشكلٍ تفصيلي متى وكيف نشأت هذه العادة؟ ومَن هو أوّل مَن قام بهذا العمل أو سنّ هذه السنة؟ إلّا أنّه من المؤكّد أنّها عادة مستحدثة ولم تكن في عصر النبي(ص) ولا الأئمّة من أهل البيت (ع)، ولم ترد أيّة إشارة في شأنها، لا في كتب الحديث والروايات، ولا في
كتب التاريخ ولا في غيرها من المصادر، وذلك بالرغم من توفّر الدواعي لنقل مثل هذا التصرّف، ليس بسبب غرابته فحسب، بل وبسبب منافاته للتعاليم الإسلامية الآمرة بالصبر على المصائب والناهية عن الجزع وخمش الوجوه وشق الجيوب عند المصيبة.
وهكذا لم يُعهد ولم ينقل حدوث مثل هذا التصرّف فيما تلا عصر الأئمّة (ع) من قرون؛ لأنّ ما نقله بعض المؤرّخين – كالمقريزي في خططه، وأبي الفداء في تاريخه – عن مظاهر الاحتفال بعاشوراء في العصر الفاطمي والبويهي، ليس فيه إشارة إلى هذه العادة .2
يقول السيد محسن الأمين: "ولم ينقل ناقل أنّ أحداً فعلها من عوامّ الشيعة، ولا أنّ أحداً أجازها من علمائهم في الأعصار التي كانت ملوك البلاد الإسلامية فيها كلّها شيعةً"، ويذكر السيد مثالاً على تلك الدول : دولة الفاطميين والحمدانيين والبويهيين، ثم يضيف: "مع ما كان عليه بنو بويه من التشدُّد في نشر إقامة العزاء، حتى كانت في زمانهم تعطّل الأسواق في بغداد يوم عاشوراء، وتُقام مراسم العزاء في الطرقات" .3
ويرجّح الكثير من العلماء والباحثين أن تكون هذه العادة قد تسربت إلى الفضاء الإسلامي الشيعي من خارجه، وتبرز أمامنا عدة آراء في تحديد المنشأ أوالمصدر القادمة منه، فبينما يرجِّح السيد هاشم معروف الحسني أن تكون هذه العادة التي وصفها بالدخيلة والتي لا يقرّها الشرع قد تسرّبت إلى بعض الأقطار بعد أنْ حكمها الشيعة من الهنود القدامى 4، فإنّ الشهيد مطهّري يذهب إلى "أنَّ الطبل والتطبير عادات ومراسم جاءتنا من أرثودكس القفقاز وسَرَتْ في مجتمعنا كالنّار في الهشيم" .5
أمّا عن ظهورها في جبل عامل، فيقول السيّد محسن الأمين: "ولم تكن هذه الأعمال معروفة في جبل عامل، ولا نقل أنّ أحداً فعلها فيه، وإنّما أحدثها فيه في هذا العصر بعض عوامّ الغرباء، وساعد على ترويجها بعض من يرتزق بها، ولم ينقل عن أحد من علماء جبل عامل أنّه أذن فيها أو أمر بها في عصر من الأعصار..." .6
أجل، ثمّة إشارة بالغة الدلالة أشار إليها محمد بن طولون الصالحي الدمشقي في كتابه "إعلام الورى"، في أحداث سنة 907هـــ، حيث قال ما نصّه:
"في يوم عاشوراء، اجتمع جماعة من الأوباش والأعجام والقلندرية بدمشق، وأظهروا قاعدة الروافض من إدماء الوجوه وغير ذلك، وقام عليهم بعض الناس، وترافعوا إلى نائب الغيبة (وكيل الوالي أثناء غيابه) المذكور، فنصر أهل البدعة وشوّش على القائم عليهم" .7
صحيح أنَّ هذا النص يتحدَّث عن إدماء الوجوه لا الرؤوس، إلّا أنّ ذلك لا يقلِّل من دلالته على أنّ قضية الإدماء كانت منتشرةً في بعض الأوساط في بداية القرن العاشر وربّما فيما سبقه، ولاسيما بملاحظه قوله: وأظهروا "قاعدة الروافض" التي تشير إلى أنَّ قضيّة إدماء الوجه كانت معروفةً عند مَن أسماهم ابن طولون بــ "الروافض" وهو مصطلح يُنبَز به الشيعة كما هو معروف.
ولكن هذا النصّ لا يثبت امتداد هذه العادة إلى ما قبل القرن التاسع فضلا عن اتصالها بزمن الأئمّة (ع) كما لا يخفى، كما أنّه لا يدلّ على شرعيّة هذا التصرُّف كما هو واضح.
التطبير وخدمة القضيّة!
في ضوء ما تقدم من كون هذه العادة طارئة وغير متصلة بزمن المعصومين، يكون من الضروري أن نطلّ على الوجوه والمستندات التي تمسّك بها المدافعون عنها، لنلاحظ مدى تماميّتها وهل هي كفيلة بإثبات شرعيتها.
ولكن قبل ذلك يجدر بنا هنا أن ننبه إلى قضيةٍ في غاية الأهمية،وهي أنّه عندما نريد أن نحوِّل عملا ما إلى سُنّة نواظب عليها ونهتم بها ونعتمدها في إحياء الذكرى الحسينية أو غيرها من المناسبات، ونخرج بها إلى الرأي العام ، فإنّا علينا أن لا نقتصر في تقييمها على السؤال عن مدى إباحتها بالمعنى الفقهي، بل يجدر بنا أن نسأل عن مدى مساهمة هذه الوسيلة في خدمة القضية التي نتبناها ونؤمن بها والخط الذي ننتمي إليه، وهذا ما علينا أن نعرفه فيما يرتبط بعادة التطبير، إن لجهة مساهمتها في التعريف بأئمة أهل البيت(ع) وإيصال فكرهم إلى الآخرين وفتح قلوب الناس عليهم، أو – على الأقلّ - لجهة تأثيرها في تهذيب نفوس الذين يقومون بهذا العمل وهو ضرب رؤوسهم بالسيف ويحيون عاشوراء بهذه الطريقة الدموية، فهل يستطيع المدافعون عن هذه العادة أن يذكروا لنا مدى مساهمتها في تحقيق هذه الأهداف؟
أَوَليس جرح الرؤوس بالسيوف، ثم ضربها بالأكُفّ حتى ينزف الدم ويملأ الوجه والرأس واليدين ويلطخ الثياب كلّها يعدّ مشهداً منفِّراً للآخرين، ومثيراً لدهشتهم وتعجبهم، كما أنّه مفزع للأطفال ومرعب للنساء، وبالتالي يكون الإستمرار في هذا العمل مساهما في إغلاق قلوب الناس عن التعرف على مدرسة أهل البيت (ع) تحت عنوان إحياء ذكرهم؟! وبعبارة أخرى : نكون بهذا العمل قد ساهمنا من حيث لا نشعر في إماتة ذكرهم (ع) بدل أن نحييه وننشره!.
دعوة إلى المدافعين عن التطبير
ودعونا نتحدث بلغة الأرقام والإحصاءات، نتجنب لغة التهويل أو التخوين و اتهام المتمسكين بالتطبير والمدافعين عنه في نواياهم، كما قد يفعل بعضهم عندما يتهمون المعارضين لهم بالتقصير بحق أهل البيت (ع)، ونحن عندما لا نتهمهم فلأنه لا يحق لنا ذلك، كما لا يحق لهم ذلك أيضا، بل دعوني أقول: إننا لا نشك بإنتفاء نية الإساءة أو قصد التشويه عند معظم هؤلاء، بل وحرص الكثيرين منهم على نشر فكر أهل البيت(ع)، لكن من جهتنا، فإننا نختلف معهم، ليس فقط في شرعية هذا العمل، بل في تقييم الفائدة المرجوة منه، إذ نحن على قناعة تامة بأنه عمل يسيء إلى مدرسة أهل البيت (ع) وأتباعهم .
وفي ضوء ذلك، فإننا سوف نتحدث معهم بلغة الأرقام والإحصاءات،ونوجهها دعوة جديّة للمدافعين عن هذا العمل والمروجين له، ومفاد هذه الدعوة: أن تعالوا واختاروا أية جهة موثوقة من الجهات المختصة بالعمل الإحصائي وكلّفوها بالقيام بإجراء عملية استطلاع رأي واسعة تشمل شريحة كبيرة وواسعة من الناس ويكون المستهدف بهذا الإستطلاع ليس خصوص المسلمين الشيعة أو السنة ، بل وغير المسلمين أيضا، على أن يكون السؤال الموّجه إليهم واضحا ومحددا وبعيدا عن الاعتبار الديني أو المذهبي حتى لا تأتي الإجابة مبنية على موقف مذهبي مسبق سلبيا كان أو إيجابيا تجاه هذه الظاهرة، لنسأل - مثلا - السؤال التالي: لو رأيت أشخاصا يدمون أنفسهم بالسيوف أو السلاسل الحديدية تعبيراً عن حزنهم على موت فقيد أو قائد لهم، فما هو انطباعكم الأولي إزاء ذلك، هل تستسيغ هذا العمل ؟ أو أنك تستغربه وتستهجنه وتستنكره ؟ ويمكننا أن نقدّم للمستطلعَين صورةً عن أحد مواكب التطبير والإدماء ونسأل كل واحد منهم: ما هو رأيك بهذا العمل الذي يقوم به أصحاب هذه الصورة ؟ وعلى ضوء هذه الإجابات يمكننا أن نعرف إلى أي حد تخدم ظاهرة التطبير فكرنا وقضيتنا.
المؤيِّدون ومبرِّراتهم
وهنا نصل إلى المقاربة الفقهية لهذه المسألة الحساسة، وسوف نبدأ أولا بملاحظة أدلة المدافعين عن هذه العادة، ثم ننتقل إلى ملاحظة أدلة المعارضين والرافضين لها.
أما المدافعون عن التطبير فقد تشبَّثوا بعدّة وجوه وشواهد وهي ما يلي:
الأول: إنّه لا دليل على حرمة هذا العمل رغم أنَّ فيه إضراراً بالنفس، ولكن هذا المقدار من الإضرار لم تثبت حرمته، وإنّما ثبتت لدينا حرمة قتل النفس أو قطع الأعضاء أو نحو ذلك، أمّا ما دون ذلك من إلحاق الأذى بالنفس، فهو محكوم بالحليّة، بمقتضى أصالة البراءة والحلية الثابتة بحكم العقل القاضي بقبح العقاب بلا بيان، وبحكم الشرع، من خلال قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}. (الإسراء:15).
ولكن نقطة الضعف في هذا الاستدلال هي نهوض الدليل على الحرمة، كما سيأتي، ومعه، فلا مجال للتمسك بالأصل المذكور، كما هو معلوم ومحقق لدى الفقهاء والأصوليين.
الثاني: إنّه لا ريب في أنَّ البكاء والإبكاء على الإمام الحسين(ع) مطلوب ومستحبّ، كما نصت عليه الروايات العديدة والمتظافرة الواردة عن الأئمة (ع)، والبكاء أو الإبكاء فعلٌ يحتاج إلى محفّز، والمحفّز إمّا قوليٌّ كذكر المصائب وإنشاد المراثي، أو عمليٌّ كضرب الرأس بالسيف.
والجواب: إنّ ما دلّ على محبوبيّة البكاء والإبكاء ناظر إلى الطرق الإنسانيّة المألوفة لذلك، ولا يشمل الوسائل غير المتعارفة في التعبير عن الحزن، كما هو الحال في عادة ضرب الرأس بالسيف. هذا إنْ لم يثبت لنا حرمة هذه العادة، وإلّا سيكون خروجها عمّا دلّ على مطلوبيّة البكاء والإبكاء واضحاً وجليّاً؛ لأنّ ما يدلّ على مطلوبيّة شيء لا يستفاد منه مطلوبيّته ولو بالوسائل المحرَّمة، ألَا ترى أنّ ما دلّ على استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن – مثلاً – لا إطلاق له، لصورة إدخال السرور على قلبه بالطرق المحرَّمة كالغيبة أو الزنا أو نحو ذلك؟ .8
الثالث: إنّ في هذا العمل (إدماء الرأس) اقتداءً بالحسين(ع) وصحبه، ومواساةً وتعزيةً "لآل البيت (ع)"، ولا ريب في أنّ الاقتداء بالحسين(ع) مطلوب ومحبوب، ومواساة أهل البيت (ع) هي من أعظم القربات.
والجواب على هذا الاستدلال الذي هو من غرائب الكلام
أولا : إنّ الاقتداء بالإمام الحسين (ع) يكون بأن نُقتَل حيث قُتِل، ونجرح رؤوسنا حيث جَرَح رأسه، وهو لم يجرح نفسه بعقل بارد وهو يسير في الطرقات، وإنّما جرح نفسه وضحَّى بنفسه وهو في ساحة المعركة، يقاتل في سبيل الله، فلنجرح رؤوسنا ونبذل دماءنا في مواجهة العدو، فبذلك يكون الاقتداء .9
ثانيا: أمّا مسألة المواساة، فإنّها مطلوبة ومستحبَّة بالتأكيد، ولكن السؤال : كيف تكون المواساة، ثم لمن تكون ؟
أمّا السؤال الأول عن كيفية المواساة، فجوابه : أنها تكون بالطرق المألوفة والمتعارفة، دون الطرق المستهجنة أو المحرّمة، ومسألة أن يجرح الإنسان نفسه لأنَّ حبيبه جُرِح، أو يجلد ظهره لأنّ حبيبه جُلِد، ليست من أساليب المواساة لدى العقلاء، ليشملها ما دلّ على مطلوبيّة المواساة.
وأما السؤال الثاني، وهو : مَنْ نُواسي بهذه التصرُّفات؟
فالذي يتردَّد على الألسن أنّنا نواسي سيدتنا الزهراء (ع) أو رسول الله (ص) أو أمير المؤمنين (ع) ، نواسيهم بدمعتنا ولطمنا على الصدور وجرح رؤوسنا.
إلّا أنّ ملاحظتنا الأساسية على هذا الكلام هي: إنّ استخدام مفهوم المواساة في المقام وعلى الرغم من شيوعه على الألسنة لا يخلو من لبس أو مصادرة أو اشتباه، وذلك لأنّ المواساة إنّما تكون للإحياء بسبب تأثّرهم وحزنهم وانفعالهم البشري على فقد حبيب أو عزيز أو صديق، أمّا الموتى الذين توفاهم الله فلا معنى لمواساتهم! صحيح أنّ رسول الله (ص) وابنته فاطمة الزهراء (ع) ووصيّه أمير المؤمنين (ع) وغيرهم من آل البيت(ع) هم أحياء عند ربّهم يُرزقون إلّا أنّه وفق مقاييس ذلك العالم، فليس واضحا أنّهم يعيشون الحزن والغمّ والألم، لنواسيهم أو نخفف عنهم، بل هم في شوقٍ وفرح للقاء أحبابهم ومصيرهم إليهم { فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنزن } ( آل عمران 170) ، وفرح اللقاء هذا يغمرهم حيث إنهم سوف يعيشون معا في كنف رضوان الله وجنته البرزخية التي أعدّها للصالحين من عباده وأولياءه .
ولو سلّم أنّ الموتى يتأثرون ويتألمون في عالمهم البرزخي لما يجري على أقربائهم وأحبابهم في عالم الدنيا، فلا يبعد انصراف أدلة المواساة إلى مواساة الأحياء في عالمنا هذا، دون الأحياء في عالم البرزخ.
ومن اللطيف ما ذكره الشهيد مطهَّري تعليقاً على قضيّة مواساة الزهراء، قال (رحمه الله): "إنّ هذا أمر مثير للسخرية، فهل تحتاج الزهراء بعد مرور 1400 عام على المأساة إلى المواساة، في الوقت الذي نعلم أنّها الآن مجتمعة مع الحسين (ع)... وهل إنَّ فاطمة عندكم طفلة صغيرة حتى تظلّ تلطم وتبكي بعد 1400 عاماً حتى نأتي لنعزّيها ونأخذ بخاطرها هذا هو الكلام الذي يخرّب الدين" .10
الرابع: إنّ العقيلة زينب الكبرى (ع) عندما رأت رأس أخيها الحسين(ع) مرفوعاً فوق الرمح أمام محملها نطحت جبيبنها بمقدَّم المحمل حتى سالَ الدم وتقاطر من تحت قناعها11، وقد حصل هذا العمل بمرأى الإمام زين العابدين (ع) وقد أقرّه وأمضاه ولم ينهها عنه.
ولكن هذا الدليل مردود لعدة وجوه أهمها:
أولا : إنّ الرواية التي نقلت ذلك ضعيفة السند؛ لأنّها مرسلة، كما صرّح بذلك العلامة المجلسي 12، قال: "رأيت في بعض الكتب المعتبرة رُوي مرسلاً عن مسلم الجصاص"، ثم ذكر الرواية، ومع ضعف الرواية سنداً فلا تصلح لإثبات حكم شرعي، وهو إباحة ضرب الرؤوس بالسيوف، والظاهر أنَّ الكتاب الذي نقل عنه المجلسي هذه الرواية هو "المنتخب" للطريحي، كما ذكر العلامة النقدي 13، وكون الكتاب معتبراً عند المجلسي كما ذكر في كلامه، لا يعني أنّ رواياته كلّها معتبرة عنده، فضلاً عن غيره، كما هو واضح.
ثانيا: إنّ من المستبعد صدور هذا الفعل من العقيلة زينب(ع)؛ لأنّه مخالف لوصيّة أخيها الإمام الحسين (ع)، فإنّه أوصاها قائلاً: "أُخيّة، إنّي أقسمت فأبري قسمي، لا تشُقِّي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هَلَكْت" 14. وهذه الوصيّة فضلاً عن كونها واردة في مصادر أكثر اعتباراً من تلك الرواية، فإنّها منسجمة مع العمومات أوالمطلقات الكثيرة الناهية عن خمش الوجه، وفي بعضها النهي عن لطمه15 ، واستناداً إلى هذه الروايات أفتى فقهاؤنا بحرمة خمش الوجه ولطمه، بل ادعي عليه الإجماع .16
فإذا كان الحسين (ع) ينهى زينب(ع) عن مجرّد خمش وجهها، فكيف تنطح جبينها حتى يسيل الدم؟!
وقد تطرح محاولتان لرفع المنافاة المذكورة بين ما تضمنته تلك الرواية وما اشتملت عليه الوصية :
المحاولة الأولى: أن يقال: إنّ الإدماء لم يكن مقصوداً لزينب(ع) ولا كانت تتوقّعه عندما لطمت رأسها، فلا يتنافى فعلها هذا مع وصية الإمام (ع) لها.
ولكنّ هذا التوجيه لئنْ رفع المنافاة، فإنّه سيقضي على إمكانية الإستدلال بالرواية لإثبات جواز الإدماء؛ لأنّ إدمائها (ع) لرأسها غير مقصود لها بحسب الفرض.
المحاولة الثانية: أن يقال: إنّ وصية الحسين (ع) نهتها عن خمش الوجه، وكلامنا في إدماء الرأس.
بيد أنّ هذه المحاولة أضعف من سابقتها، وذلك لأننا في هذه المرحلة من البحث لا نبغي الاستدلال بما جاء في الوصية على حرمة التطبير ليورد علينا بما ذكر، وإنّما نريد القول بأنّ الوصية معارضة للرواية المذكورة، والمعارضة محققة، لأنّ تلك الرواية لم ترد في إدماء الرأس ليقال بعدم المنافاة بينها وبين الوصية، وإنما نصّت على أن زينب نطحت جبينها حتى سال الدم، والجبين جزء من الوجه، فالتعارض بينها وبين الوصية الناهية عن خمش الوجه محكم، هذا على أن لقائل أن يقول: إنّ ما ورد في الروايات من النهي عن خمش الوجه يستفاد منه حرمة إدماء الرأس أيضا ولو في غير الوجه أيضا، لأنّ خمش الوجه هو بنظر العرف مثال للإدماء، أو أنه تعبير عن الجزع.
الخامس: إنّه ورد في الخبر عن الإمام الرضا (ع): "... إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا..." 17، بتقريب أنّ تقريح الجفون معناه جرحها .
ولكنّ هذه الرواية، فضلاً عن كونها غير نقيّة السند18، ، فإنّها لا تدلّ على المدعى وهو جواز التطبير، إذ يمكن الاعتراض على دلالاتها:
أولا: إنَّ تقريح الجفون هو عبارة عن ظهور أثر البكاء على جفون العين، فترى محمرة لذلك، وهذا التقريح لا يصل إلى حد الجرح كما لا يصل ضرره إلى حدّ ضرب الرأس بالسيف وما يستتبعه من نزف كثير للدم وربّما إغماء، ولذا فإنّ الكثير ممن يضربون قاماتهم يضطرون إلى مراجعة المستشفيات والأطباء، كما نرى ذلك رأي العين، وعليه، فلا يقاس الأعلى بالأدنى.
ثانيا: إنَّ تقريح الجفون – كما يرى السيّد الأمين في رسالة التنزيه – يحصل بصورة قهرية، نتيجةً لكثرة البكاء وليس عن اختيار وتعمُّد – كما في ضرب الرأس – وإنْ لم يمكن الجزم بذلك، فلا أقل من احتماله احتمالاً قوياً يمنع من الاستدلال. وعِلْمُ الإمام (ع) بترتّب القرح على بكائه غير معلوم إلّا من باب عِلْم الغيب الذي لو سلم لا يكون مناطاً للتكليف.
السادس: إنّ الإدماء هو من مصاديق الجزع، والجزع وإن كان مبغوضاً في المصائب لكنه جائز في خصوص مصيبة أبي عبد الله الحسين(ع)، بل ومحبوب، طبقاً لما جاء في الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار (ع) والتي تتقدم على العمومات والمطلقات الناهية عن الجزع تقدم الخاص على العام والمطلق على المقيد.
ويلاحظ على ذلك:
أولاً: إنّ الرواية الأساس والتي عليها الاعتماد من روايات الجزع هي رواية معاوية بن وهب عن الصادق (ع) والتي جاء فيها: "كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (ع)" 19 ، وبصرف النظر عن سند ها وما فيه من إشكال 20، وبصرف النظر أيضاً عما قيل بشأنها أو يقال من منافاتها لحكم العقل باعتبار أنّ الجزع في بعض تعبيراتها العنيفة كالتطبير أو نحوه مما قد يدخل تحت ظلم النفس هو أمر قبيح في ذاته 21، أو هو في الأقل صفة غير حسنة في الإنسان بل مستقبحة عقلائياً، وبصرف النظر عما قد يُطرح كمعارضٍ لرواية الجزع تلك، والمعارض هو ما تقدم من نهي الإمام (ع) لزينب عن خدش وجهها حزناعليه، باعتبار أنّ الخدش من مصاديق الجزع كما هو واضح، وبصرف النظر أيضاً عن منافاته - أي الجزع- لقيمة الصبر التي أكدّ عليها القرآن بتأكيدات لا تقبل التقييد، الأمر الذي يجعل من الصعب الركون إلى هذه الرواية أو غيرها في إثبات هذا الحكم المخالف للمطلقات والعمومات الناهية عن الجزع ولا سيما بناءً على مبنى حجية الخبر الموثوق، أقول: بصرف النظر عن ذلك كله، فإنّ هذا الخبر يتضمن ما لا يمكن الالتزام به وهو الحكم بكراهة البكاء إلاّ على الإمام الحسين (ع)، فإن هذا مما لا يمكن الإلتزام به، إذ كيف يُحكم بكراهة مطلق البكاء، والحال أنه أمر فطري، وقد بكى رسول الله(ص) على ولده إبراهيم (ص) وعلى جعفر بن أبي طالب، وبكت الزهراء (ع) على أبيها(ص) وعلى أختها رقية بنت رسول الله (ص)، وبكى الكثير من الأئمة (ع) في موارد مختلفة . 22
ولأجل ما ذكرناه من الإشكال فقد سعى غير واحد من الفقهاء لتوجيه الكراهية الواردة في هذا الخبر بتوجيه يرفعع الإشكال والإعتراض ، وقدّم في هذا المجال توجيهان:
الأول: ما ذكره الشيخ يوسف البحراني حيث قال: إنّ "المراد بالكراهة هنا عدم ترتب الثواب والأجر عليه مجازاً لا الكراهة الموجبة للذم" .23
الثاني: ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من أنّ "المراد بالكراهية فيه الكراهية العرفية، لعدم مناسبته – أي البكاء- مع الوقار والعظمة والمنزلة" .24
إلا أنّ هذين التوجيهين مخالفان للظاهر، ولا سيما الثاني، فلا يصار إليهما، والسيد الخوئي رحمه الله معترف بأنّ ما ذكره هو تأويل للخبر، فلا ملزم للأخذ به، لأنّنا ملزمون باتباع الظواهر دون الإحتمالات والتأويلات، ومن الواضح أنّ حمل الكراهية في كلام المعصوم على الكراهة العرفية هو مجرد احتمال يحتاج إلى قرينة، لأن المعصوم هو في صدد بيان الأحكام الشرعية، لا الأحكام العرفية، على أن كراهية البكاء عرفا وعدم مناسبته للوقار أمرغير دقيق، إذ لنا أن نسأل أين هو العرف الذي يستنكر البكاء؟ وهل يستنكره بالنسبة للرجال أم للنساء ؟ لا يخفى أنّ النساء من دأبهن البكاء ولا يعيبهن ذلك، والرجال أيضا يبكون في المصائب ولا يعيبهم ذلك ولا ينافي وقارهم، أجل المكروه عرفا هو مرتبة من البكاء تبلغ حد الجزع، وفي ضوء ما تقدم من عدم وجود جواب مقنع للإشكال المتقدم، فسوف يضعف الوثوق بالخبر المذكور، ويزداد وهنا على وهن، ولا سيما على مبنى القائلين بحجية الخبر الموثوق.
ثانياً: مع التسليم بصحة الرواية وقابليتها لتخصيص المطلقات وإمكان توجيه كراهة البكاء الواردة فيها بشكل أو بآخر، إلاّ أنّ كون التطبير من مصاديق الجزع غير واضح، لأن التعبير عن الجزع لدى الناس لم يعهد من خلال الإدماء ولم يُعرف عن أحداً أنه كان يعبر في حالات جزعه بجرح رأسه وإدماء نفسه بشكل متعمد واختياري، وإن كان قد يحصل الإدماء ويترتب على بعض تصرفات الإنسان الجزع بشكل غير مقصود له.
ثالثاً: مع التسليم بمصداقية التطبير للجزع إلا أنّ ما دلّ على حرمة التطبير ولو بالعنوان الثانوي – كما سيأتي- يخرجه عن المصداقية المذكورة إخراجاً حكمياً، لأنّ الجزع - على فرض إباحته - لا يُؤدى بطريقة محرمة، أترى هل يتوهمنّ أحد أنّ دليل الجزع يشمل صورة خلع الإنسان ثيابه بالكلية والمشي عارياً أمام الناظر المحترم باعتبار أنّ ذلك من مصاديق الجزع؟! أو يشمل صورة خلع المرأة لحجابها وكشفها لأجزاء من جسدها بنفس الإعتبار؟ وهل يتحقق الجزع بقطع الإنسان لبعض أصابع يده؟! بالطبع لا، لأنّ دليل الجزع ليس مشرّعا أو مبيحا للمحرمات، وإنما يؤدى الجزع – على فرض شرعيته في نفسه - بالطرق المشروعة، وعليه، فلا بدّ من إثبات عدم حرمة التطبير في الدرجة الأولى ليتمسك بعد ذلك بدليل الجزع لإثبات إباحته.
رابعاً: إنّ المستفاد من بعض الروايات أنها وضعت سقفاً أعلى للجزع فلا يُتجاوز، ففي خبر جابر عن أبي جعفر (ع)، قال: "قلت له: ما الجزع؟ قال: أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي" 25. فهذا هو أقصى الجزع وأشده أما ما هو غير ذلك أو أعنف منه كالتطبير فلا يدخل في الجزع، وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند، إلاّ أنّها تؤيد ما ذكرناه.
وهناك حجج أخرى لمؤيّدي التطبير أضعف ممّا تقدّم فلا ضرورة لذكرها.
المعارضون وحججهم
تمسَّك معارضو التطبير بأحد وجهين:
الأول: أنَّ هذا العمل فيه إضرار واضح بالنفس، وكلّ إضرار بالنفس حرام، ويدلّ على ذلك العقل الذي يحكم بقبح ظلم النفس، وسيرة العقلاء المستقرة على ذمّ من يجرح نفسه ويدميها بغير سبب مشروع، وهكذا النصوص الكثيرة، مثل ما ورد عن إمامنا الباقر (ع): "ولكنّه سبحانه خَلَقَ الخَلْق، فعلِم ما تقوم به أبدانهم فأحلّه لهم... وعَلِم ما يضرّهم فنهاهم عنه..." 26، إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة والأدلّة التي يُستفاد منها حرمة الإضرار بالنفس ولو لم يصل إلى حدّ الهلاك المحتم. (راجع للتوسّع في شأن هذا الدليل وما أورد عليه ما ذكرناه في كتاب: "في فقه السلام الصحيّة التدخين نموذجاً").
وقد اتّفق الفقهاء، كما ينقل السيّد محسن الأمين: أنّه إذا خاف المكلّف حصول الخشونة في الجلد وتشقّقه من استعمال الماء في الوضوء، انتقل فرضه إلى التيمُّم ولم يجز له الوضوء، مع أنّه أقل ضرراً وإيذاءً من شقّ الرؤوس بالمدى والسيوف .27
وقد تمسّك بهذا الدليل في المقام كلٌّ من السيد الأمين والسيد فضل الله، وقد اعترف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه الله في كتابه "الفردوس الأعلى" بأنّ مقتضى القواعد الفقهية من حرمة الإضرار وإيذاء النفس وإلقائها في التهلكة هو حرمة التطبير والإدماء، وإن حاول رحمه الله في استدراك له أن يثبت الحلية في صورة ما لو صدر هذا العمل بنحو العشق وقصد الحب لأبي عبد الله الحسين(ع)، ولكن محاولته هذه غير موفقة، لأن النوايا الحسنة لا توجب تغيير الحكم الشرعي كما لا توجب تغيير الموضوع في المقام وهو الإضرار بالنفس .28
الثاني: إنّ هذا العمل لو افترضنا أنّه مباح بالعنوان الأولي، ولكن بما أنّه صار موجباً لوهن المذهب وهتكه، ورمي أتباعه بالوحشية والتخلّف والسخرية منهم، فيحرم بالعنوان الثانوي، ولا سيما أنّ الأئمّة (ع) قد أمروا أتباعهم بأن لا يفعلو ما يُسيء إليهم: "كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، حبِّبونا إلى الناس، ولا تُبغِّضونا، جرّوا إلينا كلّ مودّة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح..." 29. وقد تمسّك بهذا الدليل كثيرون من العلماء والفقهاء (كالسّادة: الأمين وفضل الله والخامنئي وهاشم معروف الحسيني، والشيخ مغنيّة..)، وأقرّ آخرون بأنّ هذا العمل لو كان موجباً للهتك والسخرية فهو محرَّم، كالسيد الحكيم الذي أفتى "بأنّه لا مانع منها إن لم يكن فيها خوف الضرر... ولم تكن موجبةً للسخرية وتهييج عداوة الغير" 30، ونظير هذا الكلام قاله السيد الخوئي في الإجابة على بعض الاستفتاءات .31
وطبيعي أنّ صدق عنوان الهتك والتوهين أو السخرية - كما عبَّر السيد الحكيم - لن يدركه أو يتوجه إليه إلّا مَنْ له اطّلاع على أصداء المسألة في الواقع العالمي، وما تعكسه وسائل الإعلام من ردود الفعل تجاهها، وما تتركه من انطباعات سيّئة في نفوس الآخرين إزاء أتباع مدرسة أهل البيت (ع).
وقد يقول قائل: إذا كان استهزاء الآخر وسخريته موجباً لترك هذه العادة وتحريمها، فهذا يستلزم رفع اليد عن الحجّ والصلاة وغيرهما من العبادات؛ لأنَّ الغير قد يسخر من حجّنا وما فيه من أعمال قد تبدو غريبة، مثل رمي الجمرات أو الطواف بالبيت أو السعي بين جبلي الصفا والمروة.. وهكذا قد يَسخَرْ الآخرون من صلاتنا وما فيها من ركوع وسجود.. أفهل نترك الحج والصلاة أو غيرها من الشعائر حتى لا يسخر منا الآخرون؟!
والجواب: إنّ الصلاة والصيام والحجّ هي من العبادات والفرائض التي قام عليها الدين، وما كان كذلك فلا مجال لرفع اليد عنه بسبب سخرية الآخرين واستهزائهم، وأمّا التطبير فليس واجباً، وإنّما هو – إن لم يكن محرماً- على أحسن التقادير عمل مباح، والمباح يتغيَّر حكمه بتغيّر العناوين، أو طروء عناوين ثانوية عليه كعنوان الهتك أو نحوه، ولا يقاس بالواجب إطلاقاً.
هذا كلّه لو كان هذا العمل (التطبير) يؤتى ويؤدى لا بقصد القربة والعباديّة، وأمّا مع الإتيان به بعنوان التعبُّد والتقرُّب إلى الله سبحانه، كما هو الملحوظ خارجاً فسوف يبرز أمامنا وجه ثالث للتحريم، ألَا وهو عنوان البدعة، فإنَّ أي عمل عبادي أو شعائري يؤتى به بكيفيّة خاصةً، إن لم يقم عليه دليل خاص، كان ابتداعاً في الدين وتقوّلاً على الله بما لم يقله.
ولكن يمكن التعليق على ذلك بأنه يكفي لخروج العمل عن الإبتداع وجود الأمر به ولو كان دليله عاما، ولا حاجة للدليل الخاص، فتأمل.
موقف العلماء من ضرب الرأس
قد يحلو للبعض أن يقول: إنَّ القول بتحريم التطبير شاذٌّ ولم يتبنَّاه من يُعتدُّ به من العلماء والفقهاء، ولكن هذا الكلام ناشئ من قلّة الاطّلاع على آراء العلماء، فإنّ الكثير من علمائنا وفقهائنا وقفوا بوجه هذه العادة وغيرها من العادات الدخيلة، يقول الإمام الخميني في إشارة نرجِّح أنّها ناظرة إلى مسألة التطبير: "فنحن لا نقول ولا يقول أحد من المؤمنين إن كلّ عمل يقام بهذا العنوان هو عمل مقبول، بل إنّ العلماء الكبار اعتبروا الكثير من هذه الأعمال غير جائزة وكانوا يمنعون منها" .32
ويُعتبر العلامة الكبير السيد محسن الأمين من أشجع العلماء في مواجهة هذه العادة وغيرها من "المنكرات والبِدَع" – على حدِّ تعبيره – التي أدخلت على الشعائر الحسينية، وقد قاد (رحمه الله) حركةً إصلاحيةً في مواجهتها، وناصره في حركته هذه السيد أبو الحسن الأصفهاني، - مفتياً بحرمة ضرب الرأس – والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ عبد الكريم الجزائري المجتهد الكبير، وهكذا العلامة الشيخ محسن شرارة والسيد مهدي القزويني وغيرهم .33
وقد اعترف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء 34 بأنَّ مقتضى القواعد حرمة إدماء الرأس كما أسلفنا، وإن دافع عنه في بعض كتبه الأخرى، ونُقل عن السيد الحكيم قوله: "إنَّ ضرب القامة غُصَّة في حلوقنا" .35
وهكذا هاجم هذه العادة علماء آخرون، فالسيد هاشم معروف الحسني اعتبرها ظاهرةً شاذّةً ودخيلةً، وأنّها من الزيادات التي أساءت إلى المآتم الحسينية وإلى التشيّع، وقد استغلّها أعداء الشيعة للتنديد والتشويه والسخرية، وصاروا يقصدون بلدة النبطية يوم العاشر من المحرّم ويسمُّونه يوم جنون الشيعة، ويضيف بأنَّ الأئمّة بلا شكّ لا يرضون بهذه المظاهر ويتبرَّأون منها .36
وهكذا وجدنا الشيخ عبد الله نعمة يراها من الشوائب الغريبة البعيدة عن روح الذكرى وجلالها وأهدافها، وأنّها لا تتّصل بالدين بسبب أو نسب، وإنّما هي عادة دخيلة على المجتمع الشيعي امتصّها من خارجه 37، وبالجرأة عينها تصدَّى العلامة المرجع السيد فضل الله لمواجهة هذه العادة وتحريمها.
وأخيراً وليس آخراً، فقد دعا سماحة السيد الخامنئي إلى محاربة هذه الظاهرة والمنع منها؛ لأنّها تسيء إلى التشيُّع وتشوِّه صورته. وإثر موقف السيد الخامنئي هذا، فقد صدرت العديد من المواقف العلمائية المؤيّدة له والداعمة لرأيه.
ونختم الحديث بكلمة للشيخ محمد جواد مغنية تصوّر موقف العلماء اتّجاه هذه العادة، يقول رحمه الله: "وعلماء الشيعة بكاملها دون استثناء ينكرونها أشدَّ الإنكار، وإذا سكت عنها مَن سكت وغضّ الطرف، فإنّما يسكت خوفاً من بعض العوام الذين اتخذوها سبيلاً للاتّجار والكسب" {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] .38
* تعود كتابة هذا البحث حول التطبير إلى ما يقرب من عقد من الزمن، وقد نشر حينها في جريدة بينات الصادرة عن مكتب المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله وقد أجرينا عليه بعض التعليقات الطفيفة وألحقنا به بعض الإضافات.
1- أصل الكلمة مأخوذ من اللغة الفارسية، فإنّ "الطّبر والطبرزين: الفأس من السلاح، والكلمتان فارسيّتان"، (المنجد في اللغة 459، ونحوه ما في المعجم الوسيط، ج2، ص555).
2- راجع كلماتهما في سيرة الأئمّة الاثني عشر، للسيد هاشم معروف الحسني، ج2، ص107.
3- التنزيه ص31.
4- من وحي الثورة، ص167.
5- راجع كتاب: الإمام عليّ (ع) في قوتيه الجاذبة والدافعة ص165.
6- التنزيه، ص30.
7- نقلاً عن دائرة المعارف الشيعيّة، ج7، ص432.
8- راجع المكاسب المحرَّمة للشيخ الأنصاري، ج1، ص308.
9- أنظر: حديث عاشوراء للسيد فضل الله ، ص134.
10- الملحمة الحسينيّة، ج1، ص35.
11- فتاوى العلماء في الشعائر الحسينيّة، ص100،141.
12- بحار الأنوار، ج45، ص114.
13- زينب الكبرى، ص112.
14- الإرشاد، ج2، ص94 ورواه الطبري.
15- راجع الوسائل، ج15، ص583، الباب 31 من أبواب الكفّارات الحديث، ومستدرك الوسائل، ج2، 449، الحديث 10،6،1 من أبواب الدفن.
16 أنظر: ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة للشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني ج2 ص56.
17- أمالي الصدوق، ص190.
18- فإن الصدوق رواها عن شيخه جعفر بن محمد بن مسرور، وهذا الشيخ وإن ترضى الصدوق وترحم عليه، لكنّ ذلك لا يدل على التوثيق، طبقاً للمبنى الرجالي المشهور أنظر: معجم رجال الحديث ج5 ص90.
19- وسائل الشيعة ج14 ص505 من أبواب المزار ح10.
20- وقع الخلاف بينهم في صحة هذه الرواية، فقد وصفها صاحب الجواهر بالحسنة (جواهر الكلام ج4 ص365)، وكذلك السيد الخوئي رحمه الله (أنظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى ج9 ص365)، ووصفها صاحب الحدائق بـ "الرواية"، مع أنّ دأبه التصريح بصحة الروايات أو وثاقتها، لكن في صراط النجاة ج3 ص443 وصفت بالصحيحة، وظاهر الشيخ آصف محسني في كتابه "الأحاديث المعتبرة في جامع أحاديث الشيعة" ص82و291 تضعيفها.
أقول: ربما كان مرد الخلاف بينهم في توثيق الرواية إلى الإشكال في وثاقة رجلين واقعين في سند الرواية، وهما :
الأول: محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه، والد جعفر بن محمد بن قولويه صاحب كامل الزيارات، فمحمد هذا لا تصريح بوثاقته إلاّ أن يكتفى برواية ابنه جعفر عنه في كامل الزيارات حيث إنّه قد التزم بأن لا يروي في كتابه إلاّ عن ثقة، وهو قد أكثر الرواية عن والده مباشرة وبدون واسطة، (أنظر: معجم رجال الحديث ج18 ص174-175) ويؤيد ذلك قول النجاشي فيه إنه من خيار أصحاب سعد بن عبد الله الأشعري القمي.
الثاني: أبو محمد الأنصاري، وهذا لو كان متحداً مع أبي محمد الأنصاري الذي يروي عنه محمد بن عيسى العبيدي ومحمد بن عبد الجبار، والذي هو عبد الله بن إبراهيم الأنصاري كما حقق التستري وغيره (أنظر: قاموس الرجال ج6 ص210-211)، فيمكن توثيقه ، لشهادة محمد بن عبد الجبار بأنه "كان خيّراً" (الكافي ج3 ص127)، وأمّا قول نصر بن الصباح فيه "مجهول لا يعرف" فقد ردّه السيد الخوئي بأنه "لا يعتني به، لأنّ نصر بن الصباح ضعيف" (معجم رجال الحدث ج23 ص40-42) وقد مال صاحب قاموس الرجال أيضا إلى وثاقة أبي محمد الأنصاري، مقدماً تزكية محمد بن عبد الجبار له على غمز نصر بن الصباح فيه (قاموس الرجال ج11 ص1494 وج6 ص211)، هذا مع أنّ دلالة "كان خيّراً" على التوثيق لجهة عدم الكذب قريبة ولكن دلالتها على التوثيق لجهة العنصر الآخر المعتبرفي الوثاقة وهو الضبط لا تخلو من تأمل،ولا سيما أن هذا الكلام لم يرد في مقام الجرح والتعديل، ومما يبعث على الشك في وثاقته "أنّ ابن الغضائري" قال في ترجمته: "يلقى عليه الفاسد كثيراً... ويجوز أن يخرج شاهداً" (قاموس الرجال ج6 ص209)، وإن كان السيد الخوئي رحمه الله لا يعتد بتضعيفات ابن الغضائري، هذا كله لو ثبت أن أبا محمد الأنصاري في روايتنا متحد مع الأنصاري الذي يروي عنه العبيدي ومحمد بن عبد الجبار، لكنّ الاتحاد غير واضح، لأنه لم نجد رواية للحسن بن محبوب الزراد عن أبي محمد الأنصاري إلاّ في روايتنا هذه، وهكذا لم نجد رواية للأنصاري عن معاوية بن وهب إلاّ روايتنا هذه.
21- ذكر ذلك السيد فضل الله رحمه الله ، أنظر: التعليقات التي علّقها على أجوبة الشيخ التبريزي على بعض الإستفتاءات الموجهة إليه ص57،هذا ولكن يمكن التأمل في حكم العقل بقبح الجزع وكونه من مصاديق حكمه بقبح الظلم.
22- أنظر وسائل الشيعة ج3 ص282 الباب87 من أبواب الدفن..
23- الحدائق الناضرة ج4 ص 164.
24- التنقيح في شرح العروة الوثقى ج9 ص342.
25- وسائل الشيعة ج3 ص272 ح1 ب83 من أبواب الدفن.
26- الوسائل الباب 1، من الأطعمة أبواب المحرمة، الحديث 1.
27- التنزيه، ص28.
28- راجع لمعرفة مزيد من التفاصيل حول رأيه هذا، والتعليق عليه : ما ذكرناه في كتاب: "عاشوراء ..قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء".
29- بحار الأنوار، ج75، ص 348.
30- فتاوى العلماء في الشعائر، ص88.
31- المسائل الشرعية، ج2، ص339.
32- كشف الأسرار، ص169.
33- أعيان الشيعة، ج10، ص178.
34- الفردوس الأعلى، ص21.
35- نقل عنه ذلك السيد مرتضى العسكري، راجع: حوارات في الحرمين، ص270.
36- من وحي الثورة الحسينيّة، ص167.
37- روح التشيُّع، ص499.
38- الإسلام مع الحياة، ص68.