التقمص
الشيخ حسين الخشن
وجّه إليّ بعض الأخوة المتابعين للموقع الإلكتروني - أكثر من مرة - سؤالاً عن الموقف الإسلامي من التقمّص، وهل هو عقيدة صحيحة ومقبولة؟ أو أنها فكرة مرفوضة ولا تنسجم مع أصول الاعتقاد الإسلامي؟
وفي الإجابة على هذا السؤال أقول: - مع احترامنا لكل الناس - إننا لا نستطيع القبول بهذه العقيدة أو الموافقة عليها. وتحديد موقفنا من هذه الفكرة، نبينه - بشكل مختصر - ضمن المحاور التالية:
1- التقمص تاريخاً ومفهوماً
إنّ الاعتقاد بالتقمص هو فكرة آمنت بها بعض الطوائف والفرق قديماً وحديثاً، وينسب الاعتقاد به إلى بعض الفلاسفة القدامى والمـتأخرين. ومن الفرق الدينية التي آمنت بفكرة التقمص وعرفت به طائفة الدروز، في المقابل فإنّ الديانات السماويّة التوحيدية كافة
رفضت فكرة التقمص رفضاً قاطعاً.
والتقمص يعني انتقال النفس أو الروح من جسم بشري إلى جسم آخر، فمع موت الإنسان المتحقق بخروج روحه من جسده فإن هذه الروح تحلّ في جسم طفل وليد. فالجسم هو بمثابة القميص للروح تلبسه لفترة معينة ثم عندما يبلى القميص (الجسد) تنتقل الروح
إلى قميص آخر. والتقمص هو أحد أصناف تناسخ الأرواح المطروح عند علماء الكلام والفلاسفة، فإنّ التناسخ - عندهم - تارة يكون بانتقال نفس الإنسان إلى جسد إنسان آخر ويسمى ذلك بالنسخ، وأخرى يكون بانتقالها إلى جسم حيوان ويسمى ذلك بالمسخ،
وثالثة يكون بانتقلها إلى نبات ويسمى بالفسخ، ورابعة يكون بانتقالها إلى جماد، ويسمى بالرسخ[1].
ونشير هنا إلى أنّ قلّة المصادر "الدرزية" المتبناة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية، تجعلنا أمام ضبابيّة في موقف الدروز إزاء بعض النقاط التفصيلية المتصلة بموضوع التقمص، من قبيل:
- هل أنّ النفس تبقى خالدة ولا تموت وتنتقل على الدوام من خلال التقمص من جسد إلى آخر، ويستمر الأمر على هذه الحالة إلى ما لا نهاية، أو أنّ التقمص والتناسخ ينقطع في مرحلة معينة، وهي مرحلة قيام الناس لرب العالمين؟
- متى تحل الروح المفارقة في الجسد الجديد، هل تحل فيه وهو في الرحم أو بعد الولادة مباشرة؟ وإذا كانت تحل فيه وهو في بطن أمه، فهل تحل فيه عند انعقاد النطفة أو بعد اكتمال صورة الجسد الإنساني؟
2- الموقف الإسلامي من التقمص
ولأننا تعودنا الصراحة والوضوح في بيان مواقفنا وطرح أفكارنا، فإننا نرفض فكرة التقمص ولا نقبل بها، لأنّ الدليل لا يساعد عليها، بل إنّ علماء الكلام[2] قد ذكروا عدة وجوه في إثبات استحالة التناسخ بأنواعه المشار إليها، وإليك بعض الملاحظات النقدية ا
لتي بالإمكان أن تسجل على هذه الفكرة:
أولاً: إنّ القائلين بالتقمص وتناسخ الأرواح هم بين رأيين:
الرأي الأول: أن يكون اعتقادهم بتناسخ الأرواح مبنياً على إنكار مبدأ المعاد، أو متضمناً لذلك، كما ينسب ذلك إلى القائلين بالتناسخ. فإنّهم لا يعتقدون بالبعث والمعاد ولا يرون أنّ ثمّة يوماً خاصاً للحساب أو أنّ هناك جنة وناراً، أجل إنّ الثواب أو العقاب إنما
يحصلان في الطور الجديد الذي ستنتقل إليه الروح بعد التقمص، ليُعاقب الكافر أو العاصي من خلال انتقال روحه إلى جسد آخر يعيش معه حياةً ملؤها الشقاء والمعاناة والألم، ويثاب المطيع من خلال انتقال روحه إلى جسد آخر يعيش معه في طور جديد حياةً
روحية هانئة.
وهذا القول مرفوض رفضاً قاطعاً، لأنّ معناه - كما هو واضح - إنكار المعاد، والحال أنّ الإيمان بالمعاد هو من أسس الاعتقاد الديني التي تلاقت عليها رسالات السماء كافة، وقد عدّ المسلمون الاعتقاد بالمعاد أصلاً من أصول الدين .
الرأي الثاني: أن لا يكون اعتقادهم بالتقمّص مختزناً ولا متضمناً إنكار عقيدة المعاد، بل يكون المقصود بالتقمّص هو عملية تناسخ مؤقتة للأرواح بهدف إعطاء فرصة ثانية أو ثالثة .. للإنسان تأكيداً لاختباره واختياره قبل يوم المعاد.
وهذا الرأي وإن كان أهون حالاً من الرأي الأوّل، لكنه رأي لا يعضده الدليل المقنع، لا من العقل ولا من النقل، بل إنّ الدليل النقلي قائم على بطلانه. فالنصوص الإسلامية الموثوقة تدل على أنّ الروح تنتقل إلى باريها في عالم جديد وهو عالم البرزخ، وليس
إلى جسد إنسان آخر. وتدلّ هذه النصوص على أنّ كل مولود يفتح عينيه على الدنيا، فإنّ روحاً جديدة تنفخ فيه وتحلّ في جسده، وليست روحاً قديمة تحل فيه عقيب مفارقتها لجسد إنسان آخر انتقل إلى دار الفناء.
ثانياً: إذا كان القائلون بالتقمّص يعتقدون أنّ "البشر لا يتناقصون ولا يزيدون وأنّ الأرواح معدودة منذ بداية الخلق"[3] فكيف لهم أن يفسّروا لنا حقيقة لا غبار عليها، وهي حقيقة تكاثر الخلائق جيلاً بعد جيل، بحيث إنّ عدد الناس كما هو معلوم وتؤكده
الإحصاءات هو في تزايد مستمر وقد شارف العدد في هذا الزمن على الستة مليارات نسمة؟ فكيف يحصل التكاثر مع أنّ تناسخ الأرواح لو كان صحيحاً لكان لازم ذلك أن لا يتكاثر الجنس البشري وأن تبقى أفراده محدودة وثابتة، لأنّ المولود الجديد – طبقاً
لنظريّة التقمص - لا تحلّ فيه روح جديدة، بل روح سابقة كانت تسكن في جسد آخر؟
ثالثاً: هل أنّ القميص (وهو الجسد) ضروري للنفس أو الروح بحيث إنّها لا تستغني عنه في بقائها؟ أو أنه ليس ضرورياً لها ويمكنها الاستغناء عنه ولو لفترة معينة ؟
إذا قيل: إنّها لا تستغني عنه، فهذا يعني أنّه وعند موت إنسان فإنّ روحه - لا محالة - سوف تنتقل مباشرة ودون انتظار إلى جسد جديد؟ وهنا يواجه هذه النظرية اعتراض وهو أنه في بعض الأحيان يحصل لنا اليقين بعدم ولادة أشخاص بعدد الذين ماتوا، كما
في الحالات التي تحصل فيها إبادة جماعية تطال عشرات أو مئات الآلاف من الناس في خلال دقائق معدودة، كما في صورة إلقاء القنابل النووية على المدن الكبيرة والتي تبيد الآف الناس فوراً، فأين تذهب هذه الأرواح أو النفوس المفارقة يا ترى؟ وكيف تبقى
بلا جسد مع أنّ الجسد ضروري بالنسبة إليها كما هو المفروض!؟
وأما إذا قيل: إنّ الروح بإمكانها أن تستغني عن الجسد (القميص)، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه أنّه لو لم يولد إنسان جديد عند مفارقة الروح لجسد صاحبها، فأين تذهب الروح المفارقة يا ترى؟ هل تبقى منتظرة معلّقة إلى حين ولادة إنسان جديد فتحلّ فيه؟
وكيف لأصحاب هذه النظرية إثبات ذلك؟ وهذه قضايا لا يكفي في إثباتها الافتراضات والادعاءات المحضة، وإنما تحتاج إلى أدلة عقلية أو نقلية أو علمية.
رابعا: من المعلوم أنّ النفس البشرية - ومنذ مجيئها إلى عالم الدنيا - تسير في خط تصاعدي تنمو فيه معارف الإنسان وتتكامل ثقافته ويزداد وعيه، وعليه فإنّ السؤال الموجّه إلى التناسخيين أو التقمصيين هو: أنّه بعد موت الإنسان وانتقال النفس إلى جسد جديد
بالتقمص، فهل تعود النفس إلى حالتها الأولى ممحيّة الذاكرة ومجردة من كل ما وصلت إليه من كمالات أو اكتسبته من ملكات أو مهارات؟ أو أنّ هذه النفس تنتقل بكل كمالاتها وملكاتها وقواها الإدراكية والغضبية والشهويّة المكتسبة إلى الجسد الجديد؟
فعلى الأول: أي إذا كانت النفس - وبعد تقمصها - تعود إلى حالتها البسيطة الساذجة التي كانت عليها عندما حلّت في الجسد الأول، فهذا يرد عليه:
أولا: أنه - والحال هذه - كيف لها أن تستعيد صوراً قديمة أو تتذكر أموراً أو أحداثاً جرت معها في التجربة الأولى؟! وبالتالي فأنّى لنا أن نثق بما يتم تناقله من أخبار عن حالات استرجاع عفوي لتلك الصور والذكريات ؟! وما الذي يمنع أن تكون صوراً
مستولدة ومخلوقة لهذه النفس؟
ثانياً: على أنّه إذا أعيدت النفس وقد محيت ذاكرتها من كل آثار التجربة السابقة، فهذا معناه أنها ستكون كمن يواجه تجربة أولى له في الحياة، وهذا لا ينسجم مع ما يقوله أصحاب التقمص بأن الغرض منه - التقمص - هو إعطاء فرصة جديدة للإنسان، ليصلح
ما أفسده في التجربة السابقة. فالاحتجاج - في محكمة العدل الإلهي - على الإنسان بأننا أعطيناك فرصة ثانية وثالثة لتصلح حالك لكنك لم تستجب، إنّما يكون له - أي الاحتجاج - معنى إذا كان هذا الإنسان يشعر ويعي أنه أمام فرصة جديدة واختبار جديد .
وأمّا على الثاني: أي إذا انتقلت النفس إلى الجسد الجديد بكل قواها وكمالاتها وملكاتها التي اكتسبتها في التجربة الأولى، فهذا يلاحظ عليه:
أولاً: إنّه خلاف الواقع، لأننا نجد أنّ المواليد الجديدة ليس لديها من المواهب والملكات والقدرات العقليّة والعلميّة مما كان لدى الإنسان الأول، بل إنّ هذه المواليد تبدو خالية من أي ملكات ومهارات وإنما تنمو عقلياً كما تنمو جسدياً .
ثانياً: إنّ هذا - على فرض وقوعه فعلاً - يعني أنّ النفس مع انتقالها إلى الجسد الجديد فإنّها سوف تنتقل إليه محملة بأعباء سابقة، والذاكرة إذا كانت مشبعة ومثقلة بصور التجربة الأولى ومسكونة بأحداثها ومعاناتها، فهذا سيفرض على النفس في طورها الجديد
اتجاهات واختيارات محددة لا دخل لإرادتها فيها؛ أي أنّ النفس وبسبب التجربة الأولى وما تحفره فيها من صور، سوف تغدو أسيرة اتجاهات معينة بما يملي عليها تصرفات محددة، قد لا تختارها لو خليت أو جردّت من التجربة الأولى، وهذا خلاف منطق
العدل الذي هو - حسب زعم القائلين بالتقمص - الهدف الكامن وراء الإعادة الجديدة.
القرآن الكريم والتقمص
هذا كله بصرف النظر عن النصوص الدينية عموماً، والنص القرآني خصوصاً. أمّا لو أخذنا هذه النصوص بعين الاعتبار، فسوف نجد أنّها تدلّ بشكل واضح على عدم صحة عقيدة التقمص، وإليك توضيح ذلك:
أولاً: قال تعالى بشأن أهل الجنة: {لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم} [الدخان56]، حيث دلّت الآية بصراحة تامة على أنّه ليس هناك سوى موتة واحدة قد مرّت عليهم، ما ينفي فكرة التناسخ والتقمص، لأنّه بناءً على هذه النظرية
فإنّ هناك العديد من الموتات والإحياءات .
وغير بعيد عن جو تلك الآية ما جاء في قوله تعالى: {أفما نحن بميتين إلاّ موتتنا الأولى ومنا نحن بمعذبين} [الصافات 60].
ثانياً: قال تعالى :{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون 99 – 100]، فقد دلّت هذه الآية المباركة على أنّ الإنسان بموته يدخل في عالم البرزخ
ويستمر كذلك إلى يوم البعث، ما يعني أنّ حديث الإعادة إلى الحياة عبر جسد جديد هو حديث غير مطروح..
وربما يُعترض على القائلين بالتقمص أيضاً، بأنّ العديد من الآيات القرآنية تدل دلالة قاطعة على أنّ النفس البشرية تتوفى وتقبض من قبل الله، قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42] وقال سبحانه: {كل نفس ذائقة
الموت} [آل عمران: 185]، فالنفس - إذاً – تموت وتضمحل ولا تنتقل من جسد إلى آخر.
ولكن يلاحظ على ذلك بأنّ موت النفس لا يعني فناءها وانعدامها، بل إنّها باقية، وتوفيها هو أخذها من الجسد وافية أي تامة، وهذا المعنى للتوفي هو ما يستفاد من الاستعمالات المختلفة للكلمة ولا سيما الاستعمالات القرآنية، وقد نصّ على ذلك اللغويون[4].
وقد تسأل: إذا كان التوفي يعني أخذ النفس أو الروح من الجسد، فأين تذهب هذه النفس بعد التوفي؟
والجواب: ينقسم العلماء في الإجابة على هذا السؤال:
1- فمنهم من يعتقد أنّه يصار بها إلى جنة البرزخ أو ناره، تبعاً لإيمان صاحب النفس أو كفره، وقد حدّثنا القرآن عن أنّ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وحياتهم هي عبارة عن الحياة البرزخية، قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل
أحياء عند ربهم يرزقون} [ آل عمران 196، وراجع البقرة 154].
2- ومنهم من يعتقد أنّ الروح تحل في جسد مثالي في فترة البرزخ الفاصلة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، والعذاب أو الثواب إنما تناله الروح بواسطة الجسد المثالي.
وأما احتمال قيام النفس وحلولها في جسد آخر فقد عرفت بطلانه، على أنّ الإجماع الإسلامي بل وإجماع أتباع الديانات التوحيدية الثلات قائم على رفض حلولها في جسد آخر .
3- مستندات القائلين بالتقمص
يستند القائلون بالتقمص إلى بعض الوجوه، نشير إلى وجهين منها:
الوجه الأول: وهو محاولة تبرير التقمّص بطريقة عقلية؛ وخلاصة هذا الوجه الذي نقله بعض الكتّاب المدافعين عن فكرة التقمص، عن بعض مشايخ العقل الدروز[5]: أنّ تناسخ الأرواح يمنح الإنسان فرصة جديدة في هذه الحياة، فإذا كان في التجربة الأولى قد
أخفق ولم يوفّق لسلوك طريق الخير، فربما يتعظ في المرة الثانية أو الثالثة، ما يجعل التقمّص وفقاً لهذا التبرير أكثر انسجاماً مع عدل الله تعالى ورحمته ولطفه، وبتعبير بعضهم أنّه " بالتقمص يثبت عدل الله في مخلوقاته، وتتكافأ الفرص وتتاح لكل مخلوق"[6].
ولكننا نلاحظ على هذا الكلام:
أولاً: إنّ العمر الذي يمنحه الله للإنسان في هذه الدنيا - ولا سيما عندما يمتد هذا العمر بالإنسان - يشكّل فرصة كافية ووافية ليعتبر ويؤوب إلى رشده ويعود إلى ربه، كيف وباب التوبة أمام العصاة يظل مفتوحاً إلى آخر العمر، طبقاً لما أكدت عليه النصوص
الدينية وورد في العديد من الأحاديث الشريفة، كما أنّ العبر والدروس التي تواجه الإنسان كل يوم وتذكره بربه هي أكثر من أن تحصى أو تعدّ.
ثانياً: هل التقمص وانتقال الروح من جسد إلى آخر عام لكل البشر منذ بدء الخليقة وإلى نهاية الدنيا وبعث الأجساد من القبور، أو أنّه خاص بطائفة معينة وجيل محدد؟
إن كان التقمص عاماً وشاملاً لكل البشر منذ بدء الخليقة وإلى نهاية العالم، فهذا يعني أن هذا الجنس البشري والذي مرّت عليه الآف السنين قد أعطي مئات الفرص، وهذا بكل تأكيد ما لا تحتاجه عملية اختبار الإنسان، لأن الفرصة تمنح للشخص مرة أو اثنتين
أو ثلاث، أما أن تمنح له مئات الفرص، فهذا أمر غريب ولا يقتضيه منطق العدل ولا يحتّمه.
وأمّا إذا كان - التقمص - خاصاً بفئة معينة وطائفة محدودة وجيل بشري خاص، فهذا هو الظلم بعينه، لأنّه ما المميز لهؤلاء أو لهذه الطائفة أو الجماعة حتى يعطوا هذه الفرصة دون سواهم! ومعلوم أنّ من بديهيات العقل أن الله تعالى هو العدل المطلق الذي لا
يظلم عباده مثقال ذرة.
ثالثاً: إذا كان المبرر لمبدأ التقمص هو ما ذُكر من إعطاء فرصة جديدة للناس، فالفرصة إنما يحتاجها العصاة والفسقة والكفرة، أما المؤمنون العاملون العابدون الذين نجحوا في التجربة الأولى، فليس ثمة ما يبرر إعادة إحيائهم وتقمصهم، بل قد تكون الإعادة
وبالاً عليهم، إذ قد لا ينجحون في التجربة الثانية كما نجحوا في التجربة الأولى، فتكون إعادتهم – والحال هذه - ظلماً لهم وسبباً لمعاناتهم وشقائهم .
الوجه الثاني: وهو من أهمّ الوجوه التي يعتمد عليها القائلون بفكرة التقمّص، وهو الاستناد إلى عينات ونماذج مختلفة يتم تناقلها، وفحواها أنّ ثمة أشخاصاً عديدين قد تقمصوا وعادوا إلى الحياة بصور وأجساد جديدة. ومما يؤكد – حسب ما يدعى – حصول ا
لتقمّص، أنّ الوليد الجديد يستحضر صوراً ذهنية وذكريات عاشها شخص آخر لا تربطه به أية رابطة، ولم يجمعهما زمان ولا مكان، بل ربما عاشا ظروفاً مختلفة. وهذا ما قد يعبر عنه بالاسترجاع العفوي للذكريات، وهو إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ
الروح التي استوطنت هذين الجسدين هي روح واحدة، وأنها انتقلت من أحدهما إلى الآخر بالتقمص.
وتعليقاً على هذا الكلام نقول:
أولاً: إنّ هذه القصص التي تتناقل على الألسنة عن حصول التقمّص بحاجة ماسّة إلى التدقيق فيها، بغية التأكد من صدقيتها من جهة، ومن انسجامها مع فكرة التقمص من جهة أخرى. ومن الطبيعي، فإنّ هذا لن يتسنى حصوله بمجرد الدعاوى بل لا بدّ إجراء
دراسات محايدة وجادة ومستوعبة، تعمل على دراسة الحكايات المتداولة بشكل تفصيلي، وتتعرف على ملابسات كل قضية منها، وتدرس ظروفها وتلاحظ مدى تقاطعها مع القضيّة الثانية والثالثة..
ثانياً: إنّ هذه الحالات نادرة نسبيّاً بالقياس إلى عدد أفراد الإنسان، فلماذا لا يتذكر كل الناس حياتهم السابقة؟! وإذا كان المبرر الذي يُعطى للتقمّص هو منح الإنسان فرصة جديدة لاختباره وامتحانه علّه يعمل على تغيير واقعه المنحرف ويراجع حساباته ويعمل
على إصلاح نفسه، فهذا المبرر هو مبرر عام ولا يختص بإنسان دون آخر، بل هو يفرض أن يشعر أو يستذكر كل فرد من أفراد الإنسان حياته السابقة أو يستعيد بعضاً من فصولها ومشاهدها ومحطاتها، ليعي أنّه أمام فرصة جديدة، ويحسن استغلالها والإفادة
منها، وبذلك تقوم الحجّة عليه. وأما لو لم يتذكر شيئاً عن حياته السابقة، فكيف ستقام عليه الحجة بذلك؟ وحيث إنّ الغالبية العظمى من بني الإنسان لا يذكرون شيئاً عن حياةٍ سابقة عاشوها، فهذا يعني أنّ التقمص يفقد فلسفته ومبرره.
ثالثاً: إنّ من الممكن – بعد التوثق من تلك القصص والحكايات - إيجاد تفسيرات دينية أو نفسية أو غيرها لظاهرة ماعُرف بالاسترجاع العفوي للذكريات، وليس بالضرورة أن ينحصر تفسير تلك القصص بالتقمص وانتقال الروح من جسد إلى آخر. وإليك بعض
هذه التفسيرات المتصورة والمعقولة لهذه "الظاهرة" والتي قد تكون أقرب إلى التصديق من تفسيرها بالتقمص:
1- التفسير الديني، وهو أنّه من الممكن (وهذا ما نطرحه احتمالاً أو رأياً قابلاً للتأمل والمدارسة) أن يكون انتقال هذه الأفكار من إنسان إلى آخر قد حصل بواسطة ما يعرف قرآنياً بـ"القرين"، وهو مخلوق من الجن يقوم بدور الوسوسة للإنسان بخفاء، فما الذي
يمنع أن تكون هذه الذكريات هي من فعل القرين أو الشيطان، بحيث "أوحى" للإنسان بصورٍ معينة عن بعض الأعمال أو المواقف التي كان يقوم بها شخص آخر متوفى، وهيأ له وكأنّ هذه الأعمال هي أعماله وتصرفاته.
2- التفسير النفسي، ألا يمكن أن تكون هذه الصور التي تتراءى للإنسان عن حياة أخرى قد عاشها، هي مجرد صور خيالية أو تهيؤات نفسية تعيش في كوامن النفس، نتيجة بعض المؤثرات أو الظروف الخاصة التي يعيشها الإنسان. أو العقد النفسية التي تعتريه
أو الهواجس أو الأماني أو أحلام اليقظة التي يستغرق في التفكير بها، وتسيطر على عقله ومخيلته، فيتراءى له أنها صور ومشاهد ومواقف قد عاشها في حياة سابقة؟
3- التفسير الروحي، إنّ هذا العالم فيه الكثير من الأسرار الخافية، وعالم الروح عالم محاط بالكثير من الأسرار والغموض، قال تعالى: {يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [ الإسراء 85 ]، هل أخذنا المنام نموذجاً لما
يحصل أو يجري مع الروح؟ فالإنسان منا قد يرى في منامه شيئاً معيناً أو إنساناً أو حدثاً ما وهو لا يعرف عنه شيئاً، ثم لا تمضي سوى أيام أو أسابيع حتى يعاين ما رآه في المنام رأي العين وعلى أرض الواقع، أليس هذا بالأمر المستغرب حقاً؟!
وباتضاح هذا، فلنا أن نسأل فيما نحن فيه: أليس من الممكن والوارد أنّ تكون الروح قد تلاقت في عالم المنام مع روح أخرى وتهامست الأرواح وتعارفت، وحصل نتيجة ذلك تبادل في الأفكار وتلاقح في المعلومات بطريقة غير مفهومة لنا بشكل تام ولا نعيها
بوضوح؟
4- التفسير التخاطري، وما المانع في أن تكون القضية من قبيل التخاطر، وهو التقاط الإنسان لبعض الصور والأفكار بطريقة غامضة؟
إلى غير ذلك من الاحتمالات التي يمكن أن تفسر لنا هذه الظاهرة، وهو الأمر الذي يجعل احتمال التقمص ضعيفاً للغاية.
الوجه الثالث: وربما حاول القائلون بالتقمص الاستدلال بالقرآن الكريم، من خلال التمسك ببعض الآيات، ومن أبرزها قوله تعالى: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل } [غافر 11] فقد دلّ على أنّ هناك إماتتين، وهذا
لا يمكن تفسيره أو فهمه إلاّ وفقاً لمبدأ التقمص، لأنّه إذا أمكننا تفسير الإحياءتين: بالإحياءة التي يعيشها الإنسان في الدنيا، وهي الإحياءة الأولى، والإحياءة التي يعيشها بعد المعاد وهي الإحياءة الثانية، لكن كيف نفسّر الإماتتين؟ إنّ الإماتة الأولى معلومة
وواضحة، وهي ما نراه رأي العين من موت كل واحد من بني الإنسان في منتهى عمره، أمّا الإماتة الثانية، فلا تفسير لها إلاّ بافتراض إعادة الميت إلى الحياة، ليموت مجدداً بعد دورة جديدة له في هذه الحياة، وهذا ما يعتقده القائلون بالتقمص .
والجواب على ذلك:
أولاً: إنّ الآية دلّت على وجود إماتتين وإحياءتين فقط، وهذا لا ينسجم مع عقيدة التقمص، وذلك لأنّ القائلين بالتقمص إن كانوا ينكرون المعاد فهذا يعني أنهم يقولون بإماتات وإحياءات لا حد لها ولا حصر، وإن كانوا يعتقدون – ولو في نهاية المطاف – بالمعاد،
فهم أيضاً - لا محالة - قائلون بالعديد من الإماتات والإحياءات خصوصاً بالنسبة للأجيال الأولى من الجنس البشري، ولا ينحصر الأمر عندهم بإماتتين وإحياءتين، ولذا فالآية الشريفة مغايرة لمعتقدهم ولا تدل عليه بأية حال.
ثانياً: بصرف النظر عن الإشكال السابق، فإنّ الآية لا ينحصر تفسيرها ولا يتوقف فهمها على الاعتقاد بفكرة التقمص، بل ثمة وجوه أخرى في تفسيرها هي أقرب إلى الاعتبار وإلى ظاهر الآية الكريمة من تفسيرها بالتقمص، وإليك بعض هذه الوجوه :
أحدها: أن الإماتة الأولى هي في الدنيا بعد انتهاء الحياة، والإماتة الثانية هي بعد حساب القبر وقبل البعث، لأن الإنسان وبعد موته تتم إعادة الروح إليه في القبر ليحاسب حساب القبر، ومن ثم ترفع هذه الروح عن الجسد مجدداً إلى يوم البعث، حيث تعود إليه
من جديد.
ثانيها: أنّ المقصود بالميتة الأولى هي ما كان عليه الإنسان قبل خلقه وبعث الروح فيه، لأنّ الموت يطلق على ما ليس فيه حياة فعلية إذا كان له قابلية الحياة، ويشهد لذلك قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه
ترجعون} [البقرة 28]، وكذلك قوله تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} [الأنعام 122]، وقوله عزّ من قائل: {.. فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به
الأرض بعد موتها..} [ فاطر 9].
ثالثها: أنّ المقصود بالموتة الثانية هي الموتة الواقعة بعد الرجعة، وهذا ما يراه جمع من مفسري الشيعة بناءً على العقيدة المعروفة التي آمن بها مشهور الشيعة، وهي الاعتقاد بالرجعة، وقد ورد ذلك في بعض الروايات[7].
وخلاصة القول: إنّ التقمّص هو فكرة لا تستند إلى برهان عقلي مقنع، ولا إلى دليل نقلي صحيح، بل إنّ البراهين العقلية والنقلية تدحض هذه الفكرة وتثبت وهنها.
7/12/2013