عصمة الدماء والنفوس والأعراض
الشيخ حسين الخشن
عصمة الدماء والنفوس والأعراض
ومن المبادئ الإسلامية الهامّة على المستوى الإنساني مبدأ عصمة الدماء والنفوس والأعراض، والحديث عن هذا المبدأ أمر يكتسب أهمّية خاصة في وقتنا الراهن، ذلك أنّ أعمال العنف والقتل والإجرام بأبشع صورها والتي تتّسم بالوحشية المفرطة أصبحت عملاً
طبيعيّاً وخبراً عادياً، وغدا قتل المسلمين الذين يسقطون بسيف التكفير مجرّد أرقام تُتلى على شاشة التلفزة وتُقرأ في عناوين الصحف دون أن تحرّك ساكناً أو تهزّ ضميراً، وهذه الأعمال تقوم بها بعض الجماعات الإسلامية السلفية في بلدان شتّى مثل الجزائر والعراق
والسعودية وصولاً إلى سوريا التي ارتُكبت– ولا تزال- فيها الفظاعات، إلى غيرها من البلدان، ولم تُنْكر هذه الجماعات كثيراً ممّا نُسِبَ إليها بل اعترفت به، وربّما تفاخرت ببعض الأعمال التي لم تخلُ من التنكيل والتمثيل والتعذيب وقطع الرؤوس وشقّ الصدور
ونبش القبور وإحراق الأحياء .. الأمر الذي أساء قبل كلّ شيء إلى صورة الإسلام، وشوّه سمعة المسلمين في العالم، فصوّرهم الإعلام الغربي أمّة تسترخص الدماء وتستهين بإنسانيّة الإنسان.
وهذا ما يستدعي تضافر الجهود الفكريّة والتربويّة والإعلاميّة في سبيل تخليص الأُمّة من هذا المرض العضال، ووضع حدٍّ لهذه الاستهانة بالإنسان، ويهمّني هنا الإشارة إلى بعض القواعد الإسلاميّة ذات الصلة بقضيّة الدّم.
أولاً: محقونيّة الدماء
إنّ القاعدة الأساسية في الإسلام هي محقونية الدماء وعصمتها مع غضّ النظر عن هوية أصحابها المذهبية والدينية، لأنّ القتل وسفك الدماء قبيح في شريعة العقل والعقلاء باعتباره مصداقاً واضحاً للظلم وهو ممّا استقل العقل بقبحه، وأمّا في الشريعة الإسلامية، فإنّ حفظ
النفوس هو من أهم المقاصد التي هدفت الشريعة إليها، ولذا اعتبر الله سبحانه أنَّ قتل نفس واحدة تعادل قتل البشر جميعاً وأنّ إحياءها يعادل إحياءهم جميعاً، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}[المائدة: 32].
ويلاحظ أنّ الآية لم تُضِفْ أيَّ قيد على النفس التي يحرم قتلها، مثل قيد الإسلام أو الإيمان، في دلالة واضحة على أنّ عصمة الدماء تتجاوز كلَّ الأُطُر الدينية أو غيرها، وإذا كانت بعض الروايات أضافت قيد "المسلم" أو "المؤمن" على النفس التي يَحْرُمُ قتلها، كما في
قوله (ص)- في رواية ابن عمر – "مَنْ أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كُتِب بين عينيه يوم القيامة: آيس من رحمة الله"[1] فإنّ ذلك خاضع لظروف الكلام ومناسبة الحديث، ولا دلالة فيه على نفي العصمة عن دم غير المسلم، ومن هنا ورد في الروايات
الكثيرة الأخرى التأكيد على حرمة غير المسلم وعصمة دمه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص عنه (ع): "مَنْ قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإنّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً"[2].
وتبقى إباحة القتل في بعض الموارد استثناءً تجوّزه بعض الضرورات الإنسانيّة وتفرضه المصالح النوعية النظامية، من قبيل القتل قصاصاً أو دفاعاً عن النفس أو قتل المفسد في الأرض أو غير ذلك، وقد أشارت الآية أعلاه إلى موردين من هذه الموارد التي تبيح القتل
وهما: القتل قصاصاً، وقتل المفسد في الأرض.
ثانياً: أصالة الاحتياط في الدماء
ولمزيد من الاهتمام بالنفوس نقرأ في النصوص الإسلامية تحذيرات شديدة اللهجة بشأن الإقدام على سفك الدماء والاستهانة بالأرواح والإعانة على الجريمة ولو بشطر كلمة، ففي الحديث عن ابن عمر قال: "إنّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها
سفك الدم الحرام بغير حلّه"[3].
وعنه (ص): "لَزوالُ الدنيا أهون على الله من دم يُسفك بغير حق[4].
وفي الحديث عن الإمام علي بن الحسين (ع) قال: "قال رسول الله (ص) لا يغرّنكم رحب الذراعين بالدم فإنّ له عند الله قاتلاً لا يموت، قالوا: يا رسول الله وما قاتل لا يموت؟ فقال: الموت"[5].
وعن الإمام الباقر (ع) عنه (ص): "قال أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء فيوقف ابنَي آدم، فيقضي بينهما ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد ثم الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلني فيقول
أنتَ قتلته فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً[6].
وعن الباقر (ع) أيضاً قال: "إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم فيقال له: بل ذكرت عبدي فلاناً فترقى ذلك حتى قتل فأصابك من دمه"[7].
وانطلاقاً من هذه النصوص وغيرها أسّس الفقهاء قاعدة خاصة في باب النفوس والدماء هي قاعدة الاحتياط، خلافاً للقاعدة العامة المحكمة في أكثر الأبواب الفقهية، عنيت بها قاعدة البراءة والإباحة، ومفاد الاحتياط هنا: أنَّ أدنى شبهة كفيلة بحقن دم الإنسان ولو كان قاتلاً
أو متّهماً بالقتل.
إنّ ذلك كلَّه لا بدّ أن يؤسِّس لذهنيّة إسلاميّة تتورّع عن سفك الدماء وتتجنّب الخوض في كلِّ ما يعين على سفكها بغير حقّ.
ثالثاً: درء الحدود بالشبهات
إلى ذلك ثمّة قاعدة شرعية أخرى تصبّ في الاتجاه نفسه، وهي قاعدة "درء الحدود بالشبهات"، وهي قاعدة متسالم عليها لدى فقهاء المسلمين[8]، والأصل فيها ما ورد عنه (ص): "ادرأوا الحدود بالشبهات"[9]، ومؤدّاها، أنّ إقامة الحدّ منوطة بعدم وجود شُبْهة
في البَيْن، ومن الأمثلة الواضحة لذلك ما يرتبط بمقامنا، فلو أنّ لو شخصاً تلفَّظ بكلمة الكفر، وظُنَّ أنّه قالها مكرَهاً أو مشتبَهاً، فيسقط الحدّ عنه ولا يُكفَّر، لأنّ الحدود مبنيّة على التخفيف، وهكذا لو صدر القتل يقيناً من شخص، لكنَّ التحقيقات القضائية لم تُوصِل القاضي إلى
قناعة بأنّه قام بالقتل العمد، بل احتمل قوياً أن يكون ذلك شُبهة أو دفاعاً عن النفس، فلا يُصار إلى القصاص منه.
والقاعدة المذكورة- بناءً على التفسير الآنف- هي قاعدة عقلائية، وقد تلتقي مع ما هو معروف في الأدبيات القضائية من "أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، ولكنّها ببعض التفسيرات الفقهية أوسع من ذلك، فإنّ بعض الفقهاء يرى أنّه حتى مع ثبوت الإدانة ظاهراً، فإنّ المتهم
محقون الدم ما دامت الشبهة الواقعية موجودة، وإن اعترض على ذلك آخرون بأنّ لازم رفع الحد لمجرد الشبهة الواقعية أن لا يبقى إلا موارد قليلة تقام فيها الحدود[10]. وقد يُقال لهؤلاء: إنّ ذلك ليس لازماً باطلاً، لأنّ الإسلام بنى الحدود على التخفيف، ومن هنا جاء
التشدّد في وسائل إثبات الحدود، ممّا قد يصل إلى مستوى الصعوبة البالغة في إثبات موجباتها كما في الزنا وغيره.
رابعاً: قتل المسلم وترويعه!
والغريب في أمر الجماعات التي تحمل الفكر التكفيري وتستهين بالأرواح وتسترخص سفك الدماء أنّها لا تفرّق بين مسلم وغيره، بل تنتهك حرمات الجميع معتبرة أنّ عامة المسلمين ممّن لا يوافقونها الرأي والفكر هم بحكم الكفار الحربيين، وربّما كانوا شرّاً منهم، كما جاء
في كلمات بعض رموزها، هذا على الرغم من أنّ الله سبحانه يقول في كتابه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}[النساء: 93].
وفي الحديث: "أُتي رسول الله (ص) فقيل له: يا رسول الله قتيل في جهينة! فقام رسول الله (ص) يمشي حتى انتهى إلى مسجدهم، قال: وتسامع الناس فأتوه فقال (ص): من قتل ذا؟ فقالوا يا رسول الله ما ندري، فقال: قتيل بين المسلمين لا يُدرى مَن قتله! والذي بعثني بالحقّ
لو أنّ أهل السماء والأرض شركوا في دم امرئ مسلم ورضوا به لأكبّهم الله على مناخرهم في النار"[11].
وعنه (ص): "كلُّ المسلم على المسلم حرام ماله وعِرضه ودمه، حسب امرئ من الشرّ أن يحقّر أخاه المسلم"[12].
وقد نهى (ص) عن ترويع المؤمن وتخويفه، ففي الحديث عنه (ص): "مَنْ روّع مؤمناً لم يؤمن الله روعته يوم القيامة..."[13] واعتبر (ص) أنّ حرمة المؤمن هي قدس الأقداس وليس فوقها حرمة، ولذا تراه يقول مخاطباً الكعبة: "ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك
وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لَحُرْمَةُ المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، مالُه ودمُه وأن يُظنّ به إلاّ خيراً"[14].
خامساً: ضوابط الحرب وأخلاقيّاتها
إنّ القواعد الآنفة حول عصمة الدماء والأعراض هي أُسُس قانونيّة لا بدّ من مراعاتها في حال السِّلم، أمّا في حالة الحرب التي تُفرض على المسلمين وتؤدّي إلى انتهاك حُرُماتهم واحتلال ديارهم وتهجيرهم واستلاب خيراتهم، فتختلف الصورة وتتبدّل الأحكام ويصبح من
حقّ المسلم بل من واجبه أن يدافع عن نفسه، ويواجه الاحتلال ويقاوم العدوان مقاومة الشرفاء ويقاتله دون تهاون أو هوادة، لكن مع ذلك فإنّ للحرب في الإسلام ضوابطَ وأخلاقيّات كثيرة تقيّد حركة المجاهد المسلم ويُمنع من تجاوزها وإلاّ فقدَ أَجْره ولم يَعُد مجاهداً في سبيل
الله، بل ربّما عُدّ باغياً في حال تجاوزه للحدود، ويهمّني هنا أن أُشير إلى بعض الضوابط الأخلاقية التي أَمَرَ الإسلام بها ودعا إلى احترامها ومراعاتها في حال الحرب، وإن كنّا نجد بعض المنتمين إلى الإسلام في هذه الأيام لا يعيرونها اهتماماً:
1- رعاية الأسير: يُحرِّم الإسلام قَتْل المحارب بعد أن يقع في أسر المسلمين ويأمنوا شرّه وغدره، بل يوصي بحمايته والإحسان إليه إلى أن يتمّ إطلاق سراحه مَنّاً أو فداءً، وقد أوصى الإمام علي (ع) بقاتله ابن ملجم فقال في وصيّته (ع): "أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره،
فإن أصحُّ فأنا وليُّ دمي، وإن شئتُ عفوتُ وإن شئت استفدت وإن هلكت فاقتلوه"[15].
2- استثناء الأطفال والنساء والشيوخ: يحرم كذلك التعدّي على غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ، وأكتفي هنا بنقل وصية رسول الله (ص) إلى أُمراء السرايا ونضعها برسم المسلمين ورسم العالم برمته، فقد كان (ص)- كما جاء في الحديث المعتبر عن الإمام
الصادق (ع)- "إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إليها.."[16].
3- حرمة الغدر والفتك: إنّ المسلم لا يغدر ولا يفتك، وقد أكّدت الوصية النبويّة الآنفة على ذلك، ومن أبلغ كلماته (ص) في هذا الشأن "الإيمان قيد الفتك"[17]، والفتك: "أن يهاجم الرجل الآخرَ وهو غافل فيشدّ عليه فيقتله"، وقد أعطانا الإمام عليّ (ع) مثلاً أعلى
في هذا المجال عندما قال- فيما رُوِي عنه-: "أيّها الناس لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ألا إنّ لكلّ غدرة فُجرة ولكلِّ فُجرة كفرة، ألا وإنّ الغدر والفجور والخيانة في النار"[18].
4- حماية اللاجئ: كلُّ مَنْ يدخل بلاد المسلمين لاجئاً أو مستأمناً ويُعطى الأمان من السلطات المخوّلة بذلك يغدو في حماية المسلمين وحِفْظهم ولا يجوز التعدّي عليه، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}[التوبة: 6].
ويبلغ اهتمام الإسلام بمسألة اللاجئ حداً يسمح فيه بمنح الأمان لمن ظنّ أنّ المسلمين أمّنوه وإنْ هُمْ لم يفعلوا ذلك، ففي الخبر عن الإمام الصادق (ع): "لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا: لا، فظنّوا أنّهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين"[19].
ومن المؤسف والمخجل في آن أنّ بعض المسلمين غدوا يطلبون اللجوء السياسيّ إلى البلدان الغربية التي تمنّ على بعضهم فتمنحه اللجوء والحماية والنصرة بما لا يجده في بلده الأُم، وهذا من هوان الزمان على هذه الأمة! والأبشع من ذلك كلّه ما يقوم به بعض المسلمين من
الاعتداء على بعض الأجانب ولا سيّما الغربيين المتواجدين في بلاد المسلمين عمّالاً أو سيّاحاً ضيوفاً، أو لاجئين، ضاربين عرض الحائط كلّ الأخلاق والقيم الإسلامية التي تمنع الإساءة إلى كلّ هؤلاء وتمنحهم الأمن والأمان، وقد ورد عنه (ص): "من أمّن رجلاً على دمه
فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً"[20].
وهكذا فإنّ الرسول أو المبعوث أو الموفد الدبلوماسي آمن على نفسه كاللاجئ فلا يجوز التعرّض له بسوء، سواء كان ينقل الرسائل أو يسعى للصلح بين الطرفين أو لهدنة مؤقتة، وقد قال (ص) لرسولي مسيلمة الكذّاب: "لولا أنّ الرُّسل لا تُقتل لضربت أعناقكما"[21]،
رغم اعترافهما أمامه بنبوة مسليمة.
5- الوفاء بالعهود: ومن تعاليم الإسلام التي تعد مقياساً للتديّن والإيمان قضية الوفاء بالعهود والعقود قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}[المائدة: 2]، وقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون: 8] ، ويندرج في العقود
الواجبة الوفاء: إعطاء الآخر تأشيرة دخول إلى البلاد الإسلامية، فإنّها تمثّل عهداً وإذناً له بدخول أرض المسلمين آمناً مطمئناً، فيجب على المسلمين الوفاء بهذا العقد أو العهد ما دام الآخر ملتزماً بمضمونه ولم يستغل وجوده في البلد الإسلامي للقيام بأعمال عدوانيّة أو تجسّسيّة
ضدّ الإسلام والمسلمين، قال سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: 7].
6- حرمة التمثيل: وأمر آخر حرص عليه الإسلام حِرصاً بالغاً هو حرمة التنكيل والتمثيل بأجساد الموتى والقتلى، ولو كانوا محاربين أو مجرمين، ففي وصيّة عليّ (ع) لابنه الحسن (ع): "يا بني عبد المطّلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوصاً تقولون قتل أمير
المؤمنين ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثِّلوا بالرجل فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور"[22].
7- رعاية البيئة والحيوان: وتمتدّ التعاليم الإسلامية والوصايا النبوية التي تحدّ من سلطة الإنسان أثناء اندلاع الحرب لتشمل البيئة، حرصاً على حمايتها- قدر المستطاع- من الأضرار والحفاظ على عناصرها الرئيسية- كالماء والحيوان والأشجار- من التلوث والانقراض. وعلى
ضوء ذلك ورد النهي عن الإفساد في الأرض، وإلقاء السّم في مياه أو طعام أو بلاد الأعداء، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "نهى رسول الله أن يلقى السمّ في بلاد المشركين"[23]، مما قد يستفاد منه المنع من استعمال الأسلحة الذرية والكيميائية بطريق أولى[24].
ويُمنع المحارب من قطع الأشجار أو حرقها إلاّ في حالات الضرورة، جاء في وصية النبي (ص) الآنفة الذكر: "ولا تقطعوا شجرةً إلا أن تضطرّوا إليها"، وفي وصية أخرى له (ص) لسرايا المجاهدين: "ولا تقطعوا شجرةً مثمرة ولا تحرقوا زرعاً"[25].
وهكذا يوصي النبيّ (ص) أمراء الجند بأن لا يعقروا من البهائم والدواب ما لا حاجة لهم في أكله[26].
الذبح باسم الله
هذه بعض التعاليم التي تعكس أخلاقية الإسلام وتعاليمه في حالات الحرب والقتال، وهي تعاليم تنبض بالرحمة والإنسانية، وإنّ انتماءنا للإسلام يفرض علينا نشر هذه القيم وتعميمها في العالم بأسره مساهمة في تنقية صورة الإسلام، وقبل ذلك فإنّ علينا أن ننشرها في أوساطنا ا
لإسلامية وأن نربّي الأُمّة عليها بدلاً من ثقافة العنف وقطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد، أو غير ذلك من مظاهر الوحشية التي يمارسها البعض في أيامنا باسم الله واسم رسوله، والله ورسوله بريئان من ذلك، فهذا رسول الله يوصي بالرحمة بالحيوان والإحسان إلى البهيمة
وأن يحدّ ذابحها شفرته قبل الذبح فما بالك بالإنسان ! فقد رُوِيَ عنه (ص): "إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليُرِحْ ذبيحته"[27]، ولكنا مع الأسف بُلينا بأناس غلاظ قساة لا تعرف الرحمة
إلى قلوبهم سبيلاً، أساؤوا إلى الإسلام أكثر ممّا أحسنوا حتى تندّر البعض في وصفهم بالقول:
قد بُلينا بـ "إمام" ذكر الله وسبّح
فهو كالجزّار فينا يذكر الله ويذبح
سادساً: هل بُعث النبي بالذبح، أو بالرحمة؟
وفي مقابل ما قدّمناه، فقد يتمسك دعاة الذبح والنحر، وقطع الرؤوس والأعناق، بحديث مرويّ عن رسول الله (ص) يذكر فيه أنّه بُعث بالذبح، وإليك نصّ الحديث قبل التعليق عليه:
"عن عبد الله بن عمرو قال: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله (ص) فيما كانت تظهر من عداوته، وقد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحِجْر فذكروا رسول الله فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرّق
جماعتنا وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله (ص) فأقبل يمشي حتى استلم الركن فمرّ طائفاً بالبيت، فلما أن مرّ بهم غمزوه ببعض القول، قال: وعرفتُ ذلك في وجهه، ثم مضى (ص) فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتُ ذلك
من وجهه، ثم مضى (ص) ومرّ بهم الثالثة غمزوه بمثلها، ثم قال (ص): أتسمعون يا معشر قريش أمّا والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح، قال: فأخَذَت القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلاّ لكأنّما على رأسه طائر واقع، حتى أنّ أشدّهم فيه وطأة قَبْل ذلك يتوقاه بأحسن ما يجيب
من القول، حتى أنّه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً"[28].
وقد اتخذ التكفيريّون هذه الرواية مستنداً لأعمال العنف وسفك الدم التي يُقْدِمون عليها، كما أنّ بعضهم رفعها كشعارٍ له، إلاّ أننا نرفض هذا الحديث رفضاً قاطعاً، وذلك لسبَبَيْن:
أولاً: إنّه يجعل الهدف من بعثة النبي (ص)، أو عنوان رسالته ذبحَ الناس، وهذا مخالف للقرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]، ولِمَا رُوِيَ عنه (ص): "إنّما بُعِثت رحمة مهداة"[29] إنّ شعار "جئتكم بالذبح" هو شعار تنفيري
إقصائي دموي، فكيف يرفعه النبي (ص) ويجعله عنواناً لدعوته ولا سيما أنّه لا يزال في مرحلة الدعوة إلى الله؟!
ثانياً: إنّ هذا الكلام قيل في مكة قبل الهجرة كما يدل سياقه، وعندما خاطبهم النبي (ص) بعبارة: "لقد جئتكم بالذبح"، كما يفترض الحديث خافوا وأُصيبوا بالذعر، وهذا الأمر يبعث على التعجّب والاستغراب، لأنّ المرحلة المكية امتازت باعتماد النبي (ص) فيها أسلوب المداراة والصبر والأناة وتحمّل الأذى، كما أنّ موازين القوى كانت في غير صالحه، فكيف يواجههم بهذه الكلمة وهو لا يملك دفع الأذى عن نفسه فضلاً عن أصحابه؟!
ثم كيف يصاب هؤلاء بالخوف والذعر حتى يقول بعضهم له: "اذهب راشداً"، مع كونهم في عزّ قوتهم وجبروتهم وعنادهم؟! إنّ ذلك غير مفهوم بحسب المنطق الطبيعي للأمور!
إلاّ أن يقال: إنّ الله سبحانه وحماية لنبيّه (ص) المهدّد من قريش قد أوحى إليه أن يواجههم بهذه الكلمة، أو أجراها على لسانه، الأمر الذي أوقع الرعب والخوف في قلوب المشركين بطريقة غير اعتيادية، بيدّ أنّ هذا لو كان محتملاً ووارداً كان معناه أنّ العبارة المذكورة هي نفسها واردة في سياق التخويف والتهويل في محاولة لحماية النفس أكثر من ورودها على نحو الجد لتكون قاعدة للنبي (ص) وللمسلمين في التعامل مع غيرهم.
10/12/2013
[ من كتاب العقل التكفيري .. قراءة في المفهوم الإقصائي ]
[1]أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 15865
[2]أخرجه النسائي 6949 وأبو داوود 2760.
[3] أخرجه البخاري 6863 والبيهقي في السنن الكبرى 15829.
[4]ذكره ابن أبي عاصم في كتاب الزهد ص138.
[6] المصدر نفسه، ج16 ص564.
[8]المبسوط للطوسي ج3 ص66، المبسوط للسرخسي ج18 ص172، الدر المختار ج7 ص115، المغني ج10 ص155، السرائر: ج2 ص351 إلى غير ذلك.
[9]الفقيه ج4 ص74، كنز العمال: ج5 ص309.
[10]ذكر ذلك السيد الخوئي، راجع: محاضرات في المواريث ص192.
[11] مَن لا يحضره الفقيه، ج4 ص97، والكافي ج7 ص273.
[12]أخرجه الشيخان والنسائي، راجع: كنز العمال ج1 ص93.
[14]أخرجه النسائي عن ابن عمر راجع كنز العمال ج1 ص93.
[15] مناقب آل أبي طالب ج3 ص95، وراجع نحوه ما في نهج البلاغة ج3 ص21، والكافي ج1 ص299.
[16]الكافي ج5 ص27، 29، 30.
[17] راجع بحار الأنوار ج47 ص137 وج44 ص343.
[19] المصدر نفسه، ج5 ص31.
[20]مجمع الزوائد ج6 ص286.
[21] مسند أحمد ج3 ص488، سنن أبي داوود ج1 ص628.
[22] نهج البلاغة ج3 ص78، والمعجم الكبير للطبري ج1 ص100، وتاريخ الطبري ج4 ص114.
[24]قد عالجنا حكم تصنيع الأسلحة الكيميائية واستخدامها في الحروب، وهكذا حكم قطع الأشجار وإحراق الغابات في كتاب الإسلام والبيئة، فليلاحظ.
[26] وسائل الشيعة الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث3، وقد أشبعنا هذا الموضوع بحثاً في كتاب "الإسلام والبيئة" فليراجع.
[27] سنن أبي داوود ج18 ص643، وسنن الترمذي ج2ص431، وسنن النسائي ج7 ص227، وبحار الأنوار ج62 ص315.
[28]صحيح ابن حبان ج14 ص218، ومسند أحمد ج2 ص218.
[29] مجمع الزوائد ج8 ص257.