حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
فقه العلاقة مع الآخر بين التعايش والانغلاق
الشيخ حسين الخشن



 

فقه العلاقة مع الآخر

بين التعايش والانغلاق

 

هل يدعو الإسلام إلى القطيعة مع الآخر واجتنابه والتمايز عنه في مواطن السكن وأنماط العيش وسلوكيات الحياة ليعيش المسلمون في مجتمع منعزل عن الآخرين؟

 

أم أنّه يدعو إلى التعايش مع الآخر والانفتاح عليه ونسج خيوط العلاقة معه بما يحفظ للمسلم هويّته ويَحُول دون انجرافه مع الآخر فكراً وسلوكاً؟

 

قد نجد في واقعنا من ينظّر لفقه القطيعة والتباعد عن الآخر وضرورة تقسيم البلاد إلى دارين: دار الكفر ودار الإسلام، ويرى هؤلاء أنّ ابتعاد المسلم عن غيره وتواجده في مجتمع المسلمين الخاص بهم، كفيل بحفظ هويته الدينية التي تميّزه عن الآخر إن من حيث العمق والمضمون وما يحمله من اعتقادات أو يقوم به من ممارسات، وإن من حيث الشكل والظاهر وما يختص به من طريقة لبسه وتزيّنه أو نحو ذلك، فهل إنّ هذا النمط من التفكير سليم من الناحية الشرعية وواقعي من الناحية العملية؟

 

 

لا إفراط ولا تفريط

 

قد يكون من نافلة القول: إنّ الدعوة إلى الابتعاد التام عن الآخر أو إبعاده عن دائرة المجتمع الإسلامي لا تملك حجّةً شرعيةً، فالإسلام لا يوافق على "التطهير" الديني كما لا يوافق على "التطهير" العرقي، ويعتبر "التطهير"، عرقيّاً كان أو دينيّاً هو نوعٌ من العصبيّة المذمومة والمحرَّمة.

 

وفي مقابل ذلك، فإنَّ الدعوة إلى مسايرة الآخر والتماشي معه بما يؤدّي إلى ضياع معالم الشخصيّة الإسلامية وملامحها، والتنازل عن بعض الشعائر، والتغاضي عن بعض المنكرات، وتجاوز حدود الله، هي دعوة مرفوضة، ونعتقد أنّها تنطلق من عقدة نقصٍ وانهزام نفسي أمام الآخر وتفوّقه المادي والتقني.

 

 

التعايش مع الآخر

 

وفي مقابل إفراط أولئك وتفريط هؤلاء فإنّنا نعتقد أنّه وفي ظلّ هذا التداخل والتنوّع الديني في غالب بلدان العالم المعاصر، ممّا لا يمكن تغييره أو تبديله بحكم موازين القوى الفعلية، ولأسباب تاريخية أو غيرها، قد تكون الدعوة إلى عزل المسلمين ومنع اختلاطهم بالآخرين غير عملية ولا ذات جدوى، لأنّ مخاطر الاختلاط والتلاقي إن لم تَطَلْ المسلم في الشارع والمدرسة فإنّها ستطاله في بيته من خلال وسائل الاتصال الحديثة، من "الإنترنت" إلى "الستالايت" وما إلى ذلك، على أنّ هذا النمط من التفكير يستبطن في طيّاته قلة الثقة بالمسلمين أو بالمبادئ والقيم الإسلامية، بافتراض أنّها تهتز في نفس المسلم أمام أدنى احتكاك مع الآخرين. وعليه، فيكون الأجدى، بدل أن نحوط الفرد المسلم بجدران خارجية تحول دون تواصله مع الآخر، أن نعمل على تحصينه من الداخل وتعزيز ثقته بدينه، ليستطيع مواجهة التحدّيات الفكرية والأخلاقية الضاغطة بكلِّ صلابة الإيمان وروحيّة التقوى.

 

إنّ الإسلام لا يريد للمسلم أن يعيش حبيس بيته منعزلاً عن الآخرين، ولا يطلب منه أن يبني بينه وبين الآخر جُدراناً، ماديةً كانت أو نفسية، وإنّما يدعو إلى الانفتاح على الآخر والتعايش معه، - أو قلْ إلى العيش معه، لأنَّ كلمة التعايش قد تحمل في مضمونها معنى تكلّف العيش- ولكنّه يريده تعايشاً يحفظ هوية المسلم من التلاشي والضياع.

 

وقد لا يحتاج الباحث إلى كثير عناء ليكتشف وفرة الشواهد التاريخية والنصوص الدينية والأحكام الفقهية التي تدعو وتحثّ على صنع مناخ التعايش والتلاقي مع الآخرين، سيّما من أتباع الشرائع السماوية، فالإسلام لم يلغِ أهل الكتاب، بل اعترف بهم وبحقوقهم المتنوّعة، بالأخصّ الدينية منها، كحرية المعتقد وممارسة الشعائر والعبادات، وقد أسّس القرآن الكريم أُسُسَ هذا التعايش، معتبراً أنّ الذي يحكم العلاقة معهم هو قانون القسط والعدل وأخلاقية البرّ والإحسان، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8].

 

وقال أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر: "وأَشْعِرْ قلبك الرحمة للرعيّة واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"[1].

 

كما أنّ مجتمع النبيّ (ص) في المدينة كان مجتمعاً متنوّعاً من الناحية الدينية، وقد اعتبر النبيّ (ص) في كتابه الذي يشكِّل أهمّ وثيقة دستورية وقانونية صدرت عنه لتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود في المدينة أنّ اليهود والمؤمنين أمّة واحدة، جاء في ذلك الكتاب: "وإن يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلاّ مَن ظلم فإنّه لا يُوتِغُ- يهلك- إلاّ نفسه وأهل بيته"[2]، وكان مقدّراً لهذا القانون أن يحكم العلاقة مع اليهود على الدوام لولا غدْر اليهود ونقضهم للعهود والمواثيق.

 

ونشير هنا إلى أنّ نظام الإسلام في العلاقة مع الآخر ليس منحصراً بنظام الذمّة المعبّأ بخلفية سوداوية يحملها الآخرون عن الإسلام بفعل التطبيق السيّئ لهذا النظام في بعض المراحل التاريخيّة، بل إنّ هناك- بنظر جمع من الفقهاء- نظاماً آخر يكفل أن يعيش الناس في ظلّ دولة واحدة تمنح مواطنيها من المسلمين وغيرهم كامل حقوق المواطنة، وهو نظام التعاهد. وانطلاقاً من هذا، يكون التقسيم الثنائي للبلاد إلى بلاد الكفار وبلاد المسلمين غير دقيق، فهناك قسم ثالث، وهو البلاد المشتركة التي قد يحكمها نظام التعاهد أو ما يُعرف بالعقد الاجتماعي، ويتحوّل الناس في ظلّه إلى مواطنين تجمعهم الأخوّة في الإنسانية، بدل أن يتمّ تصنيفهم والتعامل معهم على أساس انتماءاتهم الدينية والمذهبية.

 

 

من أخلاقيات التعاطي مع الآخر

 

وبالانتقال من القوانين التي ترعى العلاقة مع الآخر إلى أخلاقيات التعاطي معه، نجد حرصاً إسلامياً على التعامل معه على أساس المحبّة والأخوّة الإنسانية:

 

أ‌-       الجدال بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].

 

ب‌-      التزاور، نقرأ في سيرة رسول الله (ص) ما يحثّ على التزاور مع الجار غير المسلم، فقد رُوِي أنّه "كان لرسول الله جار يهودي لا بأس بخلقه فمرض، فعاده رسول الله مع أصحابه"[3]. ولدى مراجعة النصوص الواردة في أدب الجوار وبيان حقوق الجار نجدها مطلقة وشاملة للمسلم وغيره.

 

ونقرأ في سيرة أمير المؤمنين (ع)، أنّه احتاج إلى الطعام ذات يوم فلم يجد غضاضة من اقتراض ثلاثة أصوع من جاره اليهودي شمعون[4]. وهذا يدلّل على أنّ العلاقات مع غير المسلمين كانت طبيعية جداً بحيث لا يجد عليّ (ع) حرجاً في أن يقترض من جاره اليهودي.

 

أ‌-           صلة الأرحام، ونلاحظ أنّ الإسلام يأمر بصلة الرحم ولو لم يكن مسلماً، ففي الخبر قلت لأبي عبد الله (ع): يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: "نعم، حقّ الرحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك فإنّ لهم حقّين، حقّ الرحم وحقّ الإسلام"، فإنّه "يدلُّ على أنّ الكفر لا يُسقط حقّ الرحم". كما قال العلامة المجلسي تعليقاً على الحديث[5].

 

وأخرج الطبراني من حديث جابر مرفوعاً: "الجيران ثلاثة: جار له حقّ وهو المشرك له حقّ الجوار، وجار له حقّان وهو المسلم له حقّ الجوار وحقّ الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق جار مسلم له رحم، له حقّ الإسلام والرحم والجوار"[6].

 

د- مشايعة صاحب الطريق، وندب الرسول (ص) إلى مشايعة الصاحب في الطريق ولو كان غير مسلم، فعن أمير المؤمنين (ع) "أنّه صاحب رجلاً ذمّياً فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟ قال: أريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (ع)... فقال له الذمي: لمَ عدلت معي؟ فقال له: هذا من تمام الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيّنا.."[7].

 

هـ- استرضاع غير المسلمة، ورغم حِرْص الإسلام وتشدُّده في أمر تربية الولد وتغذيته، فإنّه جوّز استرضاع غير المسلمة كما في روايات أهل البيت (ع) ففي الخبر: "هل يصلح للرجل أن ترضع له اليهودية والنصرانية والمشركة؟ قال: لا بأس، وقال: امنعوهم (يقصد المرضعات) من شرب الخمر"[8].

 

و- الصلاة في معابدهم، وعلى الرغم أيضاً من تشدّد الإسلام في أمر الصلاة ولباس ومكان المصلّي، نجده يسمح للمسلم أن يقيم الصلاة في معابد اليهود والنصارى والمجوس، فعن حكم بن الحكم قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول وسئل عن الصلاة في البِيَع والكنائس؟ فقال: صلِّ فيها قد رأيتها ما أنظفها!"[9].

 

وفي (سبل السلام) للشوكاني: "أنّ ابن عباس كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير، وقد رُوِيت الكراهة عن الحسن ولم يرَ الشعبي وعطاء بن أبي رباح بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأساً، ولم يرَ ابن سيرين بالصلاة في الكنيسة بأساً، وصلى أبو موسى الأشعري وعمر بن عبد العزيز في كنيسة"[10].

 

إنّ ما نرمي إليه من استعراض الشواهد القرآنيّة والنبويّة والتاريخيّة المتقدّمة، ليس بيان تفاصيل العلاقة مع الآخر، بل تكوين رؤية عامة حول طبيعة العلاقة معه، وتكوين هذه الرؤية من الضرورة بمكان قبل دخول الباحث أو الفقيه في دراسة التفاصيل، وإن كان فقهنا- مع الأسف- لم يدرج على ذلك، فقد أوغل الفقيه في دراسة تفاصيل المسائل المبحوث عنها قبل أن يعمل على اكتشاف النظرية العامة التي تشكّل الإطار المتكامل الذي ينتظم تحته وداخله كلّ التفاصيل، ومن هنا تأتي الفتاوى متناثرةً ومبعثرةً لا رابط بينها وتكثر الاستثناءات والتخصيصات.

 

والرؤية العامة التي يمكن استنتاجها من كل ما تقدّم، هي أنّ العلاقة التي تحكم المسلمين بغيرهم في الظروف الطبيعية هي علاقة التعايش والتعاون والتجاور والتزاور، لا علاقة التقاطع والتدابر والتناحر، كيف وقد أباح الإسلام للمسلم أن يتزوَّج من الكتابية- على قول مشهور- فكيف يدعوه إلى قطيعة الآخرين ويسمح للمسلم بالتزاوج منهم؟! وهل يطلب من الزوج أن يبني حاجزاً مادياً أو نفسياً بينه وبين زوجته؟

 

 

قراءة جديدة في فتاوى القطيعة

 

إلّا أنّ المتأمل في جملة من فتاوى الفقهاء، يجد أنّها تؤسّس لمنطق الانفصال والقطيعة، من قبيل الفتوى بنجاسة كلّ من ليس مسلماً نجاسة ذاتية مادية[11]، مع ما تعنيه من اجتناب كلّ ما لامسه برطوبة مسرية خشية تنجس بدن المسلم أو ثيابه أو مأكله ومشربه، ومع ما تخلقه في نفس المسلم من حاجز نفسي تجاه الآخر مشفوع بنظرة ازدرائية تتقزّز منه وتتعامل معه كما تتعامل مع الكلب أو الخنزير ولاسيما عندما يقرأ المسلم العادي أو تتلى على مسامعه عبارة "الكافر وأخواه" الواردة في بعض الكتب الفقهية ويقصد بأخويه فيها الكلب والخنزير!

 

ومن هذا القبيل الإفتاء بحرمة ذبائح أهل الكتاب[12]، ومنعهم من دخول المساجد والمشاهد المشرفة، وعدم تمكينهم من القرآن الكريم وهكذا الفتاوى التي تنفي ثبوت أيّة حرمة لهم، ولذا يجوز سبّهم ولعنهم وغيبتهم ويصل الأمر أحياناً إلى جواز استلاب أموالهم وغير ذلك ممّا تحدّثنا عنه سابقاً، وما نريد أن نثيره حول هذه الفتاوى، على الرغم من احترامنا للقائلين بها، أنّها ليست من المسلّمات الفقهية والضروريات الدينية، لذا يكون من حقّنا الدعوة إلى قراءتها من جديد، ولكنّنا ندعو إلى قراءتها مجدّداً في السياق الذي يراعي الملاحظات المنهجية الآتية، وهي ملاحظات نرى ضرورة اعتمادها في دراسة هذه الفتاوى وأمثالها، تاركين الدخول في التفاصيل للكتب الفقهية.

 

أولاً: إنّ دراسة هذه الفتاوى لا بدّ أن تتمّ في إطار الرؤية الإسلامية العامة التي تحدّد طبيعة العلاقة مع الآخر، ومن غير السليم دَرْسها بشكلٍ متناثر وبعيداً عن تلك الرؤية التي أسلفنا الحديث عنها، كما إنّ من اللازم استنباط حكم العلاقة بالآخرين من مجمل النصوص والشواهد التي تسلّط الضوء على الموضوع، بما في ذلك الشواهد التاريخية من سيرة النبيّ (ص) والأئمة (ع)، وعدم الاكتفاء بالنصوص الخاصة الواردة في المسألة كما يحصل أحياناً، وعلى سبيل المثال: عندما نلاحظ المعالجة الفقهية لحكم دخول غير المسلمين إلى المساجد، نجد تركيزاً على النصوص الخاصة الواردة في المسألة وإغفالاً للشواهد التاريخية الكثيرة التي تتحدّث عن دخول المشركين أو أهل الكتاب إلى المسجد النبويّ وغيره، وعلى مرأى ومسمع من رسول الله (ص)، كما حصل في قصة نصارى نجران وغيرها[13].

 

ثانياً: ولا بدّ أيضاً من ملاحظة الوجوه أو الأبعاد المتعدّدة للنص الديني، فإنّ هذا النص ليس دائماً في وارد إعطاء حكم مولوي إلهي يكتسب صفة الدوام والاستمرارية، بل إنّه أحياناً كثيرة يعالج مشاكل ظرفية ويقدّم لها حلولاً وتدابير مؤقتة، كما قيل ذلك في النصوص التي استدلّ بها على نجاسة الكافر، حيث يرى بعض الفقهاء أنّ النجاسة التي تدلّ عليها هذه النصوص "ليست من نسخ ساير النجاسات الناشئة عن قذارة الشيء، بل هي في الحقيقة تحريم سياسي من قبل شارع الإسلام ليتنفّر منه المسلمون.."[14]، ومع قطع النظر عن صحة استنتاجه في هذه المسألة بالخصوص وعن تتمة كلامه الذي لا يخلو من بعض الملاحظات، لكن المبدأ الذي ينطلق منه سليم.

 

ثالثاً: ومن اللازم أن نضع في الاعتبار ونحن ندرس واقع العلاقة مع الآخر، أنّ الفتاوى المتقدّمة لا ترسم صورة كاملة عن حقيقة العلاقة، بل إنّها قد تكون نتيجة فهم معين للنصّ الديني، وربّما ساهم في تكريس هذا الفهم عوامل عديدة، أهمها التراكمات التاريخية السلبيّة التي غذّتها الحروب ولا سيّما الحروب الصليبية بما تركته من بصمات وجراحات بليغة في اللاوعي الإسلامي، ما أسهم في بناء جدار الانغلاق على الذات وتكوين نظرة إسلامية سوداوية حكمت العلاقة مع الآخر، وكان من الطبيعي أن تُنتج هذه الأجواء السلبية التي أرخت بظلالها على تاريخ العلاقة مع الآخرين حركات إسلامية ذات نزعة تصادمية مع الآخر، خاصّة أنّ سيل الظلامات التي يتعرّض لها الإسلام والمسلمون من الآخر لم ينقطع إلى يومنا هذا.

 

 

صور مشرقة ومتبادلة

 

على أنّ الصورة التي تعكس واقع وتاريخ علاقة المسلمين بغيرهم قد بالغ ويبالغ البعض في تشويهها وتضخيم الجانب المأساوي والمظلم منها، ناسياً أو متناسياً الصور المضيئة، وقد ذكرنا آنفاً عدة نماذج من سيرة النبي (ص) والأئمة (ع) تعكس الجانب المشرق من الصورة، وهو الذي ينبغي اتخاذه قاعدة ومقياساً، لأنّه نابع من مصدر الشرعية الإسلامية، وأكتفي هنا بذكر نموذج إضافي يعكس العلاقة الطيبة والروحية السامية والتسامحية التي كان عليها الرّواد الأوائل من مجاهدي المسلمين، فإنّ هؤلاء المجاهدين "كانوا يتخيرون أحياناً المواقع التي بها كنيسة- مثلاً- فيتخذون من جوارها مدينة يتخذونها حاضرة أو عاصمة لحكمهم، كمدينة تونس.. سميت كذلك لأنّ عقبة بن نافع الفهري فاتح المغرب كان يسمع قرب معسكره أنغام القسس وهم يترنمون في الليل بترانيمهم فقال: هذه البقعة تؤنس فسميت كذلك"[15].

 

ومن الصور المشرقة التي تعكس احترام الإسلام لكرامة الآخر وتؤسس لقاعدة "شمولية الأخلاق الإسلامية" وعدم قابليتها للتجزئة: ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه كان له "صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذائين ومعه غلام له سندي يمشي خلفهما، إذا التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال: يا ابن الفاعلة أين كنت؟! قال: فرفع أبو عبد الله (ع) يده فصكّ جبهة نفسه، ثم قال: سبحان الله تقذف أمّه! قد كنت أرى أنّ لك ورعاً فإذا ليس لك ورع، فقال: جعلت فداك إنّ أمّه سندية مشركة فقال: أما علمت أنّ لكلِّ أمّة نكاحاً، تنحّ عني، قال: فما رأيته يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما".

 

 وفي رواية أخرى: "إنّ لكل أمّة نكاحاً يحتجزون به عن الزنا"[16].

 

وفي المقابل نجد صوراً مشرقة من تعامل أهل الكتاب وخصوصاً المسيحين منهم مع المسلمين وقد حدّثنا القرآن الكريم عن قرب النصارى عاطفياً من المسلمين قال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة: 82].

 

ويذكر الرحّالة الشهير ابن جبير في رحلته "أنّ النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عزّ وجل فتجب مشاركتهم"[17].

 

 

لا تَشَبَّهُوا باليهود

 

وعلى ضوء الرؤية المتقدمة يلزمنا قراءة ما ورد في النصوص من النَّهي عن التشبُّه بالآخرين، من قبيل ما ورد عنه (ص): "حُفّوا الشوارب واعفوا اللحى ولا تَشَبَّهوا باليهود"[18]. فمثل هذه النصوص يلزمنا وضعها في السياق المتقدم وقراءتها على هذا الأساس، وإذا قرأناها كذلك قد لا نجد أنّها تؤسس لفقه القطيعة والتمايز الكلي عن الآخر بقدر ما تعالج عقدة نفسية كان يعيشها أهل الجزيرة قبل الإسلام في نظرتهم القائمة على إجلال اليهود والشعور بالدونية أمامهم، باعتبار أنّهم أهل كتاب سماوي، وكانوا يمنّون الناس ويستفتحون عليهم بنبي يبعثه الله فيهم، وقد بقيت آثار هذه النظرة ورواسبها إلى ما بعد الإسلام، فأراد النبي (ص) تحطيم الهالة أو القداسة المصطنعة لليهود في أنظار الناس، وتركيز شخصية المسلمين وتثبيت ثقتهم بأنفسهم وتخليصهم من شعور الدونية المذكور ولو بإيجاد تمايز شكلي مع اليهود.

 

وهذا ما يؤشر إليه قول أمير المؤمنين (ع) عندما سئل عن قول رسول الله (ص): "غيِّروا الشيب ولا تَشَبَّهوا باليهود"، فقال: "إنّما قال ذلك والدين قُلّ، فأمّا الآن وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار"[19]، فيفهم من كلامه (ع) أنّ النبي (ص) إنّما دعا إلى عدم التشبه باليهود عندما كان المسلمون فئة قليلة، والقلّة غالباً ما يتحكّم بذهنها هاجس الكثرة، فتحاول مسايرتها والتشبّه بها وتقليدها ومحاكاتها في كلِّ شيء، أما وقد اتّسع نطاق الدين بكثرة أتباعه "وضرب بجرانه" بتمكّنه واستراحته، فلا قيود على المسلمين، "فامرؤ وما اختار".

 

 ولا يبعد عن هذا السياق ما ورد عن الإمام الصادق (ع): "أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائه: قل للمؤمنين: لا تلبسوا لباس أعدائي كما هم أعدائي"[20]، فإنّ هذا الخبر مع غضّ النظر عن سنده، لا يريد تأسيس قاعدة عامة بضرورة مخالفة الآخر في كلِّ ما يفعله ويختصّ به على مستوى الأكل والشرب واللباس والسلوك، إذ إنّ الكثير من مآكل ومشارب وملابس الآخرين من غير المسلمين محلَّلة، فهل نتركها مخالفة لهم؟!

 

ولعلّه لذلك فسّر الشيخ الصدوق الحديث بما يلي، قال: "لباس الأعداء: السواد، ومطاعم الأعداء: النبيذ والمسكر والفقاع... ومسالك الأعداء: مواضع التهمة ومجالس شرب الخمر..."[21].

 

وحاصل الكلام: إنّ ما يرفضه الإسلام هو الانصهار والذوبان بالآخر فكراً وسلوكاً، بما يفقده هويته وأصالته ويُميّع شخصيّته، إنّه يربأ بالمسلم أن يخجل بهويّته والتزامه ومظهره الإسلامي فينسحق أمام الآخر وحضارته ويميل مع كلِّ ريح متخلِّياً عن دينه وتقاليده، ويدعوه في المقابل إلى أن ينفتح على الآخر، لكن من موقع العارف بدينه وهويته، الواثق بنفسه، المعتزّ بانتمائه إلى الدين الذي يعلو ولا يُعلى عليه حجّةً ومنطقاً عقيدةً وشريعة.

 

 

أَخْرِجوا اليهود من جزيرة العرب

 

وربما اعتبر البعض أنّ قول النبي (ص): "أَخْرِجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب"[22]، يمثّل دليلاً على إقرار الإسلام سياسة التطهير الديني، فإنّنا نعلّق على ذلك:

 

أولاً: إنّ هذا الحديث لم يثبت عند بعض الفقهاء، يقول الفقيه الكبير السيد الخوئي (رحمه الله): "المشهور بين الفقهاء أنّ على المسلمين أن يُخرجوا الكفّار من الحجاز ولا يسكنوهم فيه، ولكن إتمامه بالدليل مشكل"[23].

 

لكن يمكن دفع التشكيك السندي بالحديث، وذلك بسبب تضافره وروايته من طرق الفريقين، كما ذكرنا ذلك في كتاب "حكم دخول غير المسلمين إلى المساجد".

 

ثانياً: إنَّ من الوارد أن يكون ذلك تدبيراً مؤقتاً ارتآه رسول الله (ص) وأوصى المسلمين بتنفيذه حرصاً على سلامة الدولة الإسلامية الفتيّة من أيِّ عدوان داخلي يعمل على تقويضها، يقوم به اليهود الذين عُرفوا بالكيد للإسلام والمسلمين.

 

ثالثاً: إنّ الحكم لو ثبت، فهو حكم خاص بهذه البقعة الإسلامية التي تعتبر قاعدة الدولة والحركة الإسلامية ومركز التوحيد وقبلة المسلمين ومكان حجّهم وعمرتهم ولا يمكن إلغاء الخصوصية عنها وإلحاق سائر البلاد بها.

 

 

 

 

17/12/2013م

 

 

[ من كتاب العقل التكفيري .. قراءة في المفهوم الإقصائي ]

 

 

 



[1]نهج البلاغة ج3 ص84.

[2]البداية والنهاية ج3 ص275.

[3] الكامل في التاريخ ج6ص179.

 [4]تفسير فرات ص521.

 [5]بحار الأنوار ج71ص131.

[6] سبل السلام للكحلاني ج4 ص165.

 [7]الكافي ج2 ص670.

 [8]المصدر نفسه ج6 ص43.

 [9]تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج2 ص122.

 [10]نيل الأوطار ج2 ص143.

[11] هذه الفتوى المشهورة عند فقهاء الإمامية، بل ادعى عليها بالإجماع، انظر: روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، للشهيد الثاني ج1 ص438، ومسالك الأفهام ج12 ص65.

[12] المشهور عند الشيعة هو حرمة ذبائح أهل الكتاب حتى مع ذكر الله على الذبيحة، بينما المشهور عند المذاهب الإسلامية الأخرى هو  الحلية، راجع حول ذلك: رسالة الشيخ البهائي (ت1031 هـ) الموسومة بـ "حرمة ذبائح أهل الكتاب".

 [13]راجع حول ذلك ما ذكرناه في كتاب "حكم دخول غير المسلمين إلى المساجد".

 [14]التعليقة على العروة الوثقى للمنتظري ج1 ص51.

 

[15]المجموع للنووي ج 14ص285.

[16] الكافي ج2 ص324.

 [17]رحلة ابن جبير ص234.

 [18]من لا يحضره الفقيه ج1 ص130، وفي مسند أحمد ج2 ص366 "جزوا الشوارب وأعفوا اللحى وخالفوا المجوس" وأخرجه الترمذي في السنن: ج4 ص187، والبخاري في الصحيح: ج7 ص56 وكذا النسائي في سننه: ج8 ص129 بدون إضافة "ولا تشبهوا باليهود" ولا إضافة "وخالفوا المجوس".

 [19]نهج البلاغة ج4 ص6، وقوله (ع): "والدين قل" أي قليل أهله، والنطاق هو الحزام العريض، واتساعه كناية عن سعة الانتشار، والجران على وزن نطاق مقدم البعير يضرب به الأرض إذا استراح، فيكون المعنى أنّه بعد قوة الإسلام فالمسلم بالخيار، إن شاء خضّب لحيته وإن شاء ترك.

 [20]من لا يحضره الفقيه ج1 ص163.

[21] عيون أخبار الرضا ج2 ص26.

 [22]المصنّف لابن أبي شيبة ج7 ص634، والمجموع للنووي ج19 ص428.

 [23]منهاج الصالحين ج1 ص400.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon