حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
العلاقات الإسلامية الإسلامية بين الانفتاح والذوبان
الشيخ حسين الخشن



 

العلاقات الإسلامية الإسلامية بين الاندماج والذوبان

 

  ثمة اتّجاهان متعاكسان في النظرة إلى العلاقة التي ينبغي أن تسود بين المذاهب الكلامية والفقهية المختلفة داخل الساحة الإسلامية:

 

الاتجاه الأول: دعا ويدعو باستمرار إلى ما يشبه القطيعة وبناء كيان مستقل ومنعزل عن الآخرين، بل ربما يدعو بعضهم إلى ما يمكن تسميته بالتطهير المذهبي بهدف إبقاء ساحته الخاصة ذات لون واحد وصبغة مذهبية معينة.

 

الإتجاه الثاني: وفي المقابل يتّجه آخرون للدعوة إلى التعايش بين أبناء المذاهب الإسلامية المتنوّعة، والاندماج في مجتمع واحد متعاضد يتعاون أبناؤه على السراء والضراء دون أن تمزّقه الخلافات المذهبيّة.

 

أمام هذين الاتجاهين نجد أنفسنا منحازين للاتجاه الثاني لا من موقع الهوى والرغبة الشخصية، بل من موقع الحجّة الشرعية والمصلحة الإسلامية المستقاة من دراسة الواقع بموضوعية، فلو رجعنا إلى الكتاب والسُّنّة نستفتيهما في ذلك لأفتيا بضرورة التآخي بين المسلمين والتعاضد والتناصر والتواصي فيما بينهم، بل إنّا لا نجد مانعاً من بناء مجتمع متنوّع من الناحية الدينية فضلاً عن التنوّع المذهبي، وما أكّدته نصوص الكتاب والسُّنّة جسَّدته السيرة العملية لرسول الله (ص) الذي أرسى قواعد أول مجتمع متنوّع دينياً من خلال وثيقة المدينة التي نصّت- كما تقدّم- على أنّ المسلمين واليهود يمكنهم تشكيل مجتمع واحد وأن يكونوا "أمة واحدة"، مع بقاء كلّ جماعة على دينهم ومعتقداتهم، وقد كان مقدَّراً لهذه الوثيقة الدستورية أن تحكم العلاقة بين المسلمين واليهود لولا أنّ الطرف الآخر وهم اليهود نقضوها وأداروا ظهورهم لها.

 

 

أهل البيت (ع) والدعوة إلى الاندماج

 

وإذا كان النبي (ص) دعا إلى تشكيل مجتمع متنوّع دينياً، فإنّ الأئمّة من أهل البيت (ع) حذوا حذوه ودعوا إلى التعايش مع الآخرين، ولاسيّما من أبناء المجتمع الإسلامي، وهذه وصاياهم وتعاليمهم لشيعتهم تدعو إلى الاندماج في المجتمع الإسلامي والتواصل مع الآخر من خلال حضور جماعة المسلمين وتشييع جنائزهم وعيادة مرضاهم وأداء حقوقهم[1]، ففي الخبر الصحيح سُئل بعض الأئمة (ع): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟ قال: "تنظرون إلى أئمّتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنّهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدّون الأمانة إليهم"[2].

 

وإذا عطفنا هذه الروايات على ما ذكرناه في حديث سابق من تأكيد إسلامي على مبدأ الأخوّة الإسلاميّة، وحَمْل الآخر على الأحسن وأخذه بالظاهر، فنستنتج من ذلك أنّ هدف الإسلام ورسوله (ص) وقادته وعلى رأسهم الأئمّة من أهل البيت (ع) هو الحفاظ على وحدة المجتمع الإسلامي وتماسكه رغم تنوّعه المذهبي، لا ليكون للسُّنّة مدينتهم وللشيعة مدينتهم، وللسُّنّة مسجدهم وللشيعة مسجدهم، وللسُّنة سوقهم وللشيعة سوقهم، بل ليكون المسجد والسوق والمدينة لكلِّ المسلمين.

 

 

قاعدة "سوق المسلمين"

 

وفي هذا السياق تندرج قاعدة فقهيّة هامة أصّلها فقهاء المسلمين وقد عُرفت بقاعدة السوق، ومفادها: أنّ كلّ ما يُؤخذ من سوق المسلمين على اختلاف مذاهبهم من لحوم أو جلود فهو محكوم بالحلية والإباحة والطهارة، فيجوز أكله ولبسه والصلاة فيه دون سؤال عن كيفية ذبحه أو مصدره أو ما إلى ذلك، ففي الرواية: سألت أبا الحسن (ع) عن الجلود والفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق الجبل، أَيَسْألُ عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف (أي غير شيعي)؟

 

قال (ع): "عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم (المسلمين) يُصَلّون فيه فلا تسألوا عنه"[3].

 

وفي حديث آخر صحيح سئل أبو جعفر عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدري ما صنع القصّابون فقال (ع): "كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه"[4].

 

 وفي رواية ثالثة بعد أن نهى الإمام (ع) عن المسألة قال: "إنّ أبا جعفر (ع) كان يقول: إنّ الخوارج ضيَّقوا على أنفسهم بجهالتهم إنّ الدين أوسع من ذلك"[5].

 

إنّ لهذه الروايات مدلولاً فقهيّاً واضحاً ومباشراً، وهو حلية وإباحة وطهارة ما يُؤخذ من سوق المسلمين ولو لم يكونوا معتقدين بإمامة أهل البيت (ع)، لأنّ السوق في هذه الروايات يُراد به ما يشمل سوق عامة المسلمين "لو لم نقل باختصاصه بالعامة لعدم وجود السوق للخاصة في تلك الأعصار"[6]، ولها أيضاً مدلول آخر يتّصل بالاجتماع الإسلامي حيث يُستفاد منها حرصاً بالغاً ورغبة أكيدة في بقاء المجتمع الإسلامي متواصلاً متماسكاً دون أن تمزّقه الاختلافات المذهبية.

 

ولم ينفرد أئمّة أهل البيت (ع) بتأكيد قاعدة السوق، فقد تبنّاها سائر فقهاء المسلمين، فعن نافع قال: سُئِل ابن عمر عن الجبن الذي يصنعه المجوس فقال: "ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسأل عنه" ونحوه ما رُوِي عن الزهري[7]، وقد حكى ابن حزم "إجماع الأمّة كلّها نقلاً عصراً عن عصر أنَّ من كان في عصره (ص) وبحضرته في المدينة إذا أراد شراء شيء ممّا يُؤكل أو ما يُلبس أو يُوطأ أو يُركب أو يَستخدم أو يَتملّك أي شيء كان، أنّه كان يدخل سوق المسلمين أو يلقى مسلماً يبيع شيئاً يبتاعه منه، فله ابتياعه ما لم يعلمه حراماً بعينه أو ما لم يغلب الحرام عليه، غلبة يخفى معها الحلال، ولا شكّ أنّ في السوق مغصوباً ومسروقاً ومأخوذاً بغير حقّ، وكلّ ذلك كان في زمن النبي (ص) إلى هلّم جرا، فما منع النبي من شيء من ذلك"[8].

 

 

مخاوف الاندماج

وقد تشعر بعض المذاهب بخطورة الاندماج والدعوة إليه، لأنّه يُفقدها هويّتها ويجعلها عرضة للذوبان في بحر الأكثرية، ولذا فهي ترى أنّ تميّزها وانعزالها عن الأغلبية أصلح لها، لأنّه يحفظ وحدتها الداخلية ويعزّز تماسك أفرادها، وانطلاقاً من هذا، فإنّ البعض قد يُنظِّر لمنطق الانفصال عن الآخرين ويؤكّد على ضرورة إيجاد الفواصل والحواجز النفسية والفكرية مع المذاهب الأخرى، خوفاً من الانجراف في التيّار المضادّ.

 

لكنّنا نرفض هذا المنطق جُملةً وتفصيلاً، وذلك لأنّنا إذ نشجِّع على الاندماج، فإنّنا ندعو إلى الاندماج الذي يحفظ لكلِّ جماعة خصوصيّتها لا ما يؤدّي إلى الذوبان والانصهار، إنّنا ندعو إلى الوحدة في خطّ التنوّع لا إلى التحوّل المذهبي أو تشكيل إسلام بلا مذاهب كما يحلو للبعض، إنّنا ندعو المسلم إلى الانفتاح على أخيه المسلم من موقع العارف بهويّته وخصوصيّته.

 

 

على أنّ هذه الدعوة الانفصالية لها مخاطر جمّة:

 

1-  فهي من جهة تؤسّس لبناء كيانات طائفيّة ضيّقة، وهو ما يهدّد بنشوء أو قيام صراعات على أُسُس مذهبيّة، تُضاف إلى كلِّ صراعاتنا العرقيّة والقوميّة والدينيّة.

 

2-  ومن جهة أخرى، فإنّ هذه الدعوة تعكس خوفاً غير مبرّر من الآخر، وهو مؤشّر على ضعف البناء الفكري، لأنَّ مَنْ يبني فكره وعقيدته على الحجّة القوية والقناعة الراسخة لا يخشى من الآخرين.

 

3-  ومن جهة ثالثة، فإنّ التركيز على الفواصل المذهبيّة وتعميقها وإغفال نقاط اللقاء يساهم في تأجيج الأحقاد المذهبية وإيقاد نار الطائفية التي تحرق الأخضر واليابس، وربما أسقطت الهيكل على رؤوس الجميع، في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون إلى تضييق شقة الخلاف والوقوف صفاً واحداً أمام الأخطار الخارجية التي تستهدف ديننا ووجودنا الإسلامي برمّته.

 

4- ومن جهة رابعة، فإنّ قضية الانقطاع عن الآخر خوفاً من التأثّر بأفكاره، "الضالة والمضلّة" غدت في أيامنا بدون جدوى، لأنّ آليات التواصل والاحتكاك بالفكر الآخر أصبحت عصيّة على المنع والالغاء في خضم ثورة المعلوماتية والتقنيات الحديثة، ولا سيّما مع وجود رغبة طبيعية وفضول إنساني في قراءة ومعرفة الفكر الآخر، وهذه الرغبة يحفّزها ويستفزّها اضطهاد الآخر ومحاولات قمعه ومحاصرته، على قاعدة أنّ كلّ محجوب فهو مرغوب.

 

ولهذا نقول: إنّ الأجدى- وبدل أن نُغمض عيوننا ونسدّ آذاننا عمّا يجري في الخارج - أن نعمل على تحصين مجتمعاتنا من الداخل، والأنفع أن نتسلّح ونسلِّح شبابنا وأبناءنا بسلاح الثقافة، عوضاً عن سلاح العصبيّة الضيّقة.

 

 

 

 

4/1/2014

 

[ من كتاب العقل التكفيري .. قراءة في المفهوم الإقصائي ]



 [1]راجع الكافي ج2 ص636، والاستبصار ج3 ص12.

 [2]الكافي ج2 ص636.

[3] تهذيب الأحكام ج2 ص371.

[4] المصدر نفسه ج9 ص72.

[5] المصدر نفسه ج2 ص368.

[6] كتاب الطهارة للإمام الخميني ج3 ص318.

 [7]راجع المصنف لعبد الرزاق ج4 ص539.

 [8]الإحكام في أصول الأحكام ج6 ص749.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon