علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل
الشيخ حسين الخشن
"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"
"علماء أمتي كأنبياء [أو أفضل من أنبياء] بني إسرائيل"، هو حديث مشهور ينسب إلى رسول الله (ص)، ويتداوله العامة والخاصة، ويستشهدون به في الكثير من المواطن والمواضع ويرسلونه إرسال المسلمات، وربما اندفع البعض إلى استنتاج بعض الأحكام والتصورات العقائدية التي لا تخلو من جرأة على أنبياء الله تعالى بالاستناد إلى هذا الحديث، ولأجل ذلك، وبسبب أنّ المضمون الذي اشتمل عليه الحديث يثير اللغط والإشكال، لجهة أنه كيف يكون العالم أفضل من النبي (ع)؟! ولأنني أيضاً قد سئلت عنه من قبل بعض الأخوة الأعزاء، كان من الضروري أن ندرس الحديث سنداً ومضموناً، لنرى إن كان صحيحاً أم لا ؟ وأن كان بالإمكان الاعتماد عليه والاستناد إليه في بناء تصور عقدي في تفضيل علماء هذه الأمة على أنبياء بني إسرائيل أو تسويتهم بهم؟ وعلى فرض صحته فما المقصود بالعلماء الذين تتم مساواتهم بالأنبياء أو تفضيلهم عليهم؟
وإننا – بحسب معرفتنا - لم نر دراسة مستوعبة ووافية من هذا القبيل، وإنْ قرأنا عن وجود رسالة خاصة ألّفها بعض العلماء حول هذا الحديث، لكننا لم نعثر عليها[1]، أجل قد تطرق بعض العلماء لهذا الحديث بالتعليق والتوضيح أو الشرح في ثنايا كتبهم ومؤلفاتهم، إما على نحوعرضي وبإشارة عابرة، أو كفائدة مستقلة[2].
وكيف كان فإنّ بحثنا حول هذا الحديث يدور في المحاور التالية:
1- مصدر الحديث
إنّ المتأمل في المصادر الإسلامية الأساسية المعدّة لجمع الأخبار والروايات والآثار لدى الفريقين، أعني السنة والشيعة، لا يجد لهذا الحديث عيناً ولا أثراً، فلا هو موجود في كتب الحديث ولا كتب التاريخ ولا كتب التفسير ولا غيرها، وإنّما أوردته بعض الكتب المتأخرة دون إشارة إلى مصدره أو ذكرٍ لسنده، ومن رواه؟ وعمن رواه؟ وإليك بعض التوضيح حول هذه النقطة:
أ- بملاحظة كتب الشيعة ومصادرهم الأساسية لا يجد البحث المتتبع ذكراً لهذا الحديث، سواء في الكتب الأربعة أو غيرها من كتب الحديث أو التاريخ أو غيرها، وهذه كتب الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيد المرتضى وغيرهم من أعلام الشيعة كلها خالية من هذا الحديث، ولعلّ أول عالم شيعي أورد هذا الحديث هو العلامة الحلي (ت: 726هـ) فقد أورده في مقدمة كتابه الفقهي "تحرير الأحكام" في سياق حديثه عن فضل العلم وضرورة طلبه[3]، وهكذا أورده مرسلاً في بعض كتبه الأخرى أيضاً دون سند ودون الإشارة إلى مأخذه ومصدره[4]، ومن ثم أخذ الحديث بعد العلامة يتردد في بعض مؤلفات علماء الشيعة المتأخرين، وكتبهم الفقهية[5] والحديثية[6] والكلامية[7] و غيرها[8].
وقد رجّح بعض المحدثين المتتبعين لروايات الأئمة من أهل البيت (ع) أن يكون هذا الحديث قد تسرّب إلى الفضاء الشيعي من مصادر العامة، يقول الحر العاملي ( ت 1104 هـ):" لا يحضرني أنّ أحداً من محدثينا رواه في شيء من الكتب المعتمدة، نعم نقله بعض المتأخرين من علمائنا في غير كتب الحديث [9] ".
أجل هناك صيغة أخرى أو بالأحرى حديث آخر غير مشهور ولا يثير مشكلة كالتي يثيره الحديث المذكور، ونجد هذا الحديث الآخر مروياً في كتاب "الفقه الرضوي" كما سيأتي.
ب- أمّا عند السنة فإنّ هذا الحديث لا وجود له إطلاقاً في مصادرهم الحديثيّة وغيرها، ولعلّ أول عالم من أهل السنة أورد هذا الحديث في مؤلفاته هو الفخر الرازي (ت: 606هـ) حيث استشهد به في كتاب المحصول[10]، وذكره أيضاً في تفسيره[11]، ونجده أيضاً في كتب ابن عربي (ت: 638هـ)[12]، وابن خلدون[13]، وكذلك في إمتاع الأسماع[14].
2- سند الحديث
إنّ كل المصادر المشار إليها التي أوردت الحديث أوردته مرسلاً دون إسناد أو ذكر مأخذه أو مصدره في المؤلفات الحديثية المعدّة لجمع تراثنا الحديثي، سواء عند السنة أو الشيعة.
وقد ذكرنا قبل قليل أنّ بعض علمائنا قد رجّح أنّ يكون هذا الحديث تسرّب إلى الفضاء الشيعي من مصادر السنة، بل احتمل الشيخ الحرّ أن يكون الحديث من "روايات العامة أو موضوعاتهم"، بهدف اتخاذه " وسيلة إلى الإستغناء بالعلماء عن الأئمة (ع)، ولأنه يناسب طريقتهم، فقد أفرطوا في تعظيم علمائهم .."[15].
ولئن أصاب الشيخ الحرّ رحمه الله في نفي وجود الحديث في مصادر الحديث الشيعية، فإنّه لم يصب – ظاهراً - في اعتباره من روايات العامة، لخلو مصادرهم منه، بل إنّ بعض علمائهم قد صرّح بأنّه حديث لا أصل له في مصادرهم، قال الفتني: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، قال شيخنا الزركشي: "لا أصل له ولا يعرف في كتاب معتبر"، وروي بسند ضعيف: "أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم والجهاد"[16].
وفي فيض القدير: "فائدة: سئل الحافظ العراقي عما اشتهر على الألسنة من حديث "علماء أمتي كانبياء بني إسرائيل" فقال: "لا أصل له ولا إسناد لهذا اللفظ، ويغني عنه "العلماء ورثة الأنبياء" وهو حديث صحيح". [17]
ويقول العجلوني: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل": قال السيوطي في الدر: "ولا أصل له" وقال في المقاصد قال شيخنا يعني ابن حجر: لا أصل له" وقبله الدميري والزركشي وزاد بعضهم: ولا يعرف في كتاب معتبر[18].
3- متن الحديث
لهذا الحديث عدة صيغ:
1- الصيغة الأولى وهي أشهرها: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"[19]، ونظيره ما جاء في مصدر آخر: "علماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي"[20].
2- الصيغة الثانية: "علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل"[21].
ومن الغريب ما قاله السيد هبة الدين الشهرستاني من أنّ هذه الصيغة واردة في "أكثر الروايات" التي تنقل الحديث[22]، وإنما استغربنا ذلك لأنّ هذه الصيغة هي الأضعف حضوراً في الكتب التي أوردت الحديث بحسب تتبعنا، ونظير هذه الصيغة صيغة أخرى وهي: "علماء أمتي خير من أنبياء بني إسرائيل"[23]، وهذه الصيغة أضعف حضوراً وأقل تداولاً من سابقتها .
3- والصيغة الثالثة: "علماء أمتي بمنزلة أنبياء بني إسرائيل"[24]، والموجود في الفقه الرضوي: (وهو الكتاب المنسوب للإمام الرضا (ع) ولم تثبت صحة النسبة) "وروي أنه "العالم" قال: "منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل"[25].
4- إشكالية المضمون
ثم إنّه وبصرف النظر عن ضعف السند وعدم وجود مصدر معتبر للحديث، فهل إنّ مضمونه صحيح أم لا؟ وما هي الاعتراضات التي يمكن أن ترد عليه؟
لا يخفى إنّ مضمون الحديث يختلف من صيغة لأخرى، وقبول المضمون أو رفضه يختلف هو الآخر من صيغة لأخرى، وإليك التوضيح:
1- إنّ الحديث بصيغته الثالثة لا يثير مشكلة، لأنّ هذه الصيغة لا نظر فيها إلى مسألة التفاضل، لنقع في إشكالية أنه كيف لنا أن نفضّل العالم على النبي(ع)؟!، وإنما هي ناظرة إلى أنّ دور الفقيه - في زمن فقد الأنبياء - هو دور النبي (ع) ووظيفته هي وظيفته النبي (ع). وهذا المضمون لا غبار عليه بل هو واضح ومقبول، لأنّه ناظر إلى تنزيل الفقيه منزلة النبي(ع) في الوظيفة والدور لا في الفضيلة والمنزلة، ويقدّم بعض الفقهاء تفسيراً أو شرحاً آخر للحديث بصيغته الثالثة، فيقول: "إنهم - أي العلماء - بمنزلتهم – أي الأنبياء- في لزوم الاقتباس من علومهم، أو أنّهم في الفضيلة على غيرهم كالأنبياء بالنسبة إلى رعاياهم"[26].
2- وأما الصيغة الأولى للحديث فهي تحتمل أن يكون محط النظر إلى التنزيل الوظيفي لا التفضيلي والقيمي، فيكون غرضه (ص) - مع التسليم بالحديث - من أنّ علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل أنّهم مثلهم في حمل الرسالة والدعوة إلى الإسلام وحمايته وحياطته، وأنّ على الأمة أن تتعامل معهم على هذا الأساس، لا أنّهم مثلهم في الفضيلة والقيمة، فضلاً عن العصمة، هذا ولكن احتمال نظر الحديث بصيغته هذه إلى التساوي في الفضيلة قائم، وذلك فيما لو قصرنا النظر على خصوص المدلول اللفظي للجملة بعيداً عن القرائن الخارجية التي قد تجعلنا نستبعد هذا الاحتمال أو نرفضه، واحتمال نظره إلى المساواة في الفضيلة سيعيد طرح التساؤل مجدداً: كيف لغير النبي(ع) أن يسامي النبي (ع) في القيمة والفضيلة عند الله؟!.
3- وأما الصيغة الثانية للحديث، فلا يرد فيها احتمال التنزيل الوظيفي، لأنّها نصّ في التفضيل، وحينئذٍ يأتي التساؤل عن معقولية تفضيل غير النبي على النبي (ع) بشكل أكثر إلحاحاً من سابقه، إذ هنا لا نتحدث عن مجرد احتمال مساواة الفقيه للنبي(ع) في القيمة والفضيلة، وإنما نتحدّث عن أفضليته عليه؟!.
5- مجالات الاستدلال به
ويلاحظ أنّ الاستدلال بهذا الحديث عند المتمسكين به سار في اتجاهين:
المجال العقدي: حيث استدل به لإثبات أفضليّة الإمام المعصوم(ع) على النبي (ص) سواء حمل لفظ العالم على المعصوم فقط، أو أبقي على إطلاقه، بحيث يشمل كل علماء المسلمين، والأفضلية على الأول واضحة، وعلى الثاني أكثر وضوحاً، لأنّ الأفضل من الأفضل هو أفضل بدون شك، والإمام المعصوم أفضل من العالم وهو أفضل من النبي، فيكون الإمام أفضل من النبي (ع) بالأولوية[27].
المجال الفقهي: حيث تمسك جمع من الفقهاء بالحديث المذكور لإثبات ولاية الفقيه العامة، أو الخاصة، وذلك اعتماداً على دلالة الحديث على التشريك بين النبي(ع) والفقيه أو التسوية بينهما ولو في بعض الوظائف والمهام[28].
6- الاتجاهات في التعامل مع الحديث
لدى التأمل في كلمات العلماء الذين تطرقوا لهذا الحديث نجد أنّ هناك ثلاثة اتجاهات في التعامل معه:
الاتجاه الأول: هو القبول بالحديث على ظاهره والاستناد إليه، وأكثر ما نجد ذلك في مقام الاحتجاج والجدل.
الاتجاه الثاني: هو الاتجاه التأويلي، حيث ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى تقديم تفسير للحديث يبتعد به عمّا يقتضيه ظاهره المتبادر إلى أذهان أهل العرف العام، وينصبّ جهد هؤلاء التأويليين على إبعاد كلمة "العلماء" عن مدلوها في العموم والشمول، باعتبارها جمعاً محلّى باللام وهو يدل على العموم أو الإطلاق، وينقسم أصحاب هذا الاتجاه إلى قسمين:
1- الذين حملوا لفظة "العلماء" وفسّروها بخصوص الأئمة من أهل البيت(ع)، وهذا ما تبناه جمع من الأعلام[29].
2- الذين حملوا لفظ "العلماء" على خصوص "الأولياء العارفين المتمكنين"، كما قال ابن عربي[30].
ونلاحظ في هذا المجال كثرة التجاذبات التفسيرية حيث تسعى كل فرقة إلى تطبيق الحديث على علمائها واحتكاره لجماعتها، فالصوفية أو العرفاء يرون أن المراد بالعلماء هم "العرفاء"، والسّنة يرون أنّ المراد بهم خصوص علمائهم، وكذلك الشيعة وغيرهم من المذاهب.
وصحة هذا الاتجاه تتوقف على وجود دليل – من جهة أولى - على التقييد المذكور الذي يخرج لفظة "العلماء" عن ظاهرها في الإطلاق والتقييد، ومن جهة أخرى لا بدّ من التغلب على إشكالية التفضيل الآتية التي قد تثار على هذا الاتجاه ولا سيما في منحاه الثاني، ولا ينفع التقييد في إيجاد حلٍّ لها.
الاتجاه الثالث: رفض الحديث من أصله، لضعفه سنداً، وغرابته مضموناً، والحقيقة أنّ هذا الاتجاه سيكون هو الخيار الذي لا مفر منه إن لم يتسن لنا الانتصار لأحد الاتجاهين الأولين واثباتهما بالدليل.
7- في فقه الحديث
يهمنا في هذه الوقفة أن نتأمل في مدلول الحديث تأملاً اجتهادياً يتدبر في فقراته ويتفقه في مضامينه، وما نراه بحاجة للتأمل في الحديث هو موضوع أفضلية العالم على النبي (ع)، أو مساواته له، وحاصل الإشكالية التي تبرز أمامنا هنا: أنّ العالم حيث إنّه في معرض الخطأ والمعصية كيف يكون مماثلاً للنبي المعصوم(ع) الذي لا تصدر منه المعصية ولا يقع في الخطأ بمقتضى عصمته؟! وهذا يعني أنه لا يمكن قبول الحديث على إطلاقه ودون تصرف في دلالته.
وقد اتجهت كل المحاولات التأويلية إلى تقديم تفسيرات للرواية مرجعها إلى التصرف إمّا في إطلاق الأفضلية أو المماثلة، فيصار إلى تقييد الأفضلية أو المماثلة وتحمل على النسبية، وإمّا إلى التصرف في إطلاق لفظ "العلماء" وحمله على خصوص الأئمة(ع)، باعتبار أنّ أفضليته أو مساواتهم للأنبياء في الفضيلة أمر مفهوم بل ربما قيل: إنّ ذلك ثابت من خلال أدلة أخرى .
وفيما يلي نذكر بعض التوجيهات المطروحة في كلمات العلماء:
التوجيه الأول: ما ذكره الشهيد الثاني، قال رحمه الله: "فإنّ العالم الصالح في هذا الزمان بمنزلة نبي من الأنبياء، كما قال النبي(ص): "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، بل هم في هذا الزمان أعظم، لأنّ أنبياء بني إسرائيل كان يجتمع فيهم في العصر الواحد ألوف والآن لا يوجد من العلماء إلاّ الواحد بعد الواحد.."[31].
ولكن يمكن أن يقال: إنّ ندرة العلماء في عصر معين وإن كان يُحمّلهم مسؤلية كبيرة، ولكن هذا لا يعني أفضليتهم على الأنبياء أو مساواتهم لهم، لأنّ للتفاضل بين الناس موازين مختلفة كما سيأتي، وليست كثرة المسؤليات في حد ذاتها سبباً للتفاضل.
التوجيه الثاني: أن يقال: إنّ علماء الأمة هم مثل أو أفضل من أنبياء بني إسرائيل في كثرة المعرفة ودقة الفهم وسعة الأفق.
ولكنّ هذا التوجيه غير تام بنظرنا، لأنه من غير الثابت أنّ علماء الأمة على نحو العموم الاستغراقي هم مثل أنبياء بني إسرائيل في ذلك، أو أفضل منهم، على أنّ العلم والمعرفة وإن كان يمثل من الناحية القرآنية ميزاناً للتفاضل {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعمون}، وفي آية أخرى: {يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات}، إلاّ أنّه ليس ميزاناً وحيداً للتفاضل، بل القرآن يقدم لنا معايير أخرى للتفاضل، منها معيار التقوى : {إنّ اكرمكم عند الله أتقاكم}، ومنها: معيار الجهاد، {فضلّ الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً}، كما أن العلم إن لم يجتمع مع تزكية النفس فإنه سيكون وبالاً.
وكيف يكون العالم أفضل من أنبياء بني إسرائيل، والحال أنّ في هؤلاء من هو من أنبياء أولي العزم؟!
التوجيه الثالث: ما ذكره الحر العاملي رحمه الله في توجيه الحديث بصيغته الثانية وذلك بذكر عدة وجوه للشبه بين أنبياء بني إسرائيل وعلماء الأمة، قال:" أن يكون المراد جميع العلماء، ويكون وجه الشبه كثرتهم، فإنّ هذا المعنى موجود في الطرفين، ويكون حينئذٍ إخباراً بالغيب وإعجازاً له علي السلام"أن يراد العلماء ويكون وجه الشبه وجودهم في كل عصر مع قطع النظر عن الكثرة وهو حينئذٍ إعجاز له (ص)، لمطابقة الخبر الواقع إلى الآن". أو " يكون المراد العلماء، ويكون وجه الشبه تحمل المشاق الكثيرة والمتاعب العظيمة من الظلم والخوف فإنّ هذا الوصف موجود في المشبه والمشبه به وفيه إعجاز أيضاً، وإن نوقش في عدم كونه كلياً أجبنا بما مرّ في حديث الدنيا سجن المؤمن"، أو " يكون المراد العلماء ويكون وجه الشبه عدم إطاعة الرعية لهم، فإنّ هذا الوصف غالب في المشبه والمشبه به، وفيه حينئذٍ إعجاز أيضاً"، أو "يكون المراد العلماء ويكون وجه الشبه كثرة العلم فإنّ علماء الأمة إذا تعلموا العلوم المنقولة عنه وعن أهل بيته (ع) فقد علموا علماً كثيراً وحسن التشبيه بأنبياء بني إسرائيل في العلم، فإنّ المشبه به ينبغي أن يكون أقوى ولو باعتبار كثرة الأنبياء أو كثرة علومهم وزيادتها على علماء الأمة لا على علوم الأئمة (ع) فإنّهم أعلم قطعاً"
وأضاف خاتماً حديثه:" ويحتمل وجوهاً أخر، بل يحتمل كون وجه الشبه مجموع الصفات وأمثالها أو ما يمكن اجتماعه منها والله تعالى أعلم".[32]
ولكن هذه الوجوه وإن كانت محتملة لكنّ التوجيه الأرجح والأقرب في نظرنا والذي لا يثير مشكلة مضمونيّة يصعب الإلتزام بها، هو التنزيل بلحاظ الوظيفة والدور، فدور علماء الأمة هو دور الأنبياء في حمل الرسالة والدعوة إلى الله، ومن الطبيعي أنّ حمل الرسالة هو أمانة ثقيلة وقد يستتبع الوقوع في المشاق وتحمل المعاناة ومواجهة التحديات مما جعله الشيخ الحر وجوهاً مستقلة للشبه والتنزيل .
8- موقفنا من الحديث
في ضوء ما تقدم، يمكننا أن نلخّص الموقف إزاء هذا الحديث في نقطتين أساسيتين:
النقطة الأولى: بما أنّ الحديث لا سند له، ولم نعثر عليه لا نحن ولا غيرنا في المصادر الحديثية التي عليها المعوّل عند علماء الفريقين، لذلك لا يمكننا التعويل عليه، والاستناد إليه، ولا سيما في المجال العقدي الذي يتطلّب أدلةً مفيدة لليقين.
وربمّا يقال: إنّ شهرة الحديث جابرة لضعف سنده.
والجواب على ذلك :
أولاً: : إنّ هذا الحديث غير مشهور، لا شهرة خبرية ولا شهرة عملية، وتوضيح ذلك: أنّ الشهرة المتصلة بالخبر على نحوين:
1- تارة تكون بمعنى كون الخبر مشهوراً في روايته وتداوله على ألسنة الرواة والمحدثين وتعدد أسانيده والرواة له، وشهرة كهذه لا وجود لها في هذا الحديث كما لا يخفى.
2- وأخرة تكون شهرة عملية، والتي تعني عمل الفقهاء به والإفتاء بمضمونه، مع كونه ضعيف السند، حيث يقال حينئذٍ إن عمل المشهور بالخبر جابر لضعف السند، ومن الواضح أيضاً أنه لا وجود لشهرة من هذا القبيل.
بل يمكننا القول: إنّ الحديث شاذ طبقاً للنحوين المشار إليهما من الشهرة، لأنه ليس مشهوراً على ألسنة الرواة وفي كتب الأخبار ولا اشتهر العمل به والاستناد إليه في كلمات الأعلام.
ثانياً: على فرض وجود شهرة لهذا الحديث، فإنّها شهرة متأخرة جداً، ولا يعتد بالشهرة بين المتأخرين ولا سيما إذا جاء الاستشهاد بالحديث في موارد الاحتجاج والجدال، فإنّ الأخبار الواردة في هذا السياق غالباً ما يتساهل في أسانيدها، لأنّ الغرض هو إفحام الخصم وإسكاته أو تسجيل نقطة عليه، أو محاولة إلزامه بما يلزم به نفسه، وقد تخيّل بعض علمائنا أنّ هذا الحديث مروي من طرق السنة أو على الأقل مقبول، ولذا أخذوا يحتجون به عليهم لإثبات أفضلة الأئمة (ع) على الأنبياء (ع)،
ثالثاً: هذا بصرف النظر عن الموقف المبدئي من أنّ الشهرة ليست حجّة في نفسها فلا تصلح لجبر الخبر الضعيف، لأنّ ضمّ الضعيف ( وهو الشهرة) إلى جانب الضعيف ( وهو الخبر) لا ينتج حجة شرعية.
أجل نحن لا ننكر أنّ هناك شهرة لهذا الحديث على ألسنة العامة أو بعض الطلبة، أو العلماء، ولكن هذه الشهرة لم يتوهم أحد أنّها ذات قيمة، وهي التي يقال عنها: ربّ مشهور لا أصل له.
النقطة الثانية: لو سلمنا بصحة الحديث ، وصدوره عن النبي الأكرم (ص) متجاوزين ضعفه السندي، فإنّا نقول: من غير المستبعد أن يكون في صيغته الأولى ناظراً إلى تنزيل العالم منزلة النبي (ص) في الوظيفة والدور لا في الفضيلة.
اللهم إلاّ أن يقال: إنّه بناءً على ذلك فلا وجه لقصر التنزيل على أنبياء بني إسرائيل، لأنّ الفقيه أو العالم يقوم بدور النبي(ع) بشكل عام وليس خصوص أنبياء بني إسرائيل.
أمّا الصيغة الثانية للحديث فلا يمكن القبول بها، لا لوهنها سنداً فحسب، بل لما أسلفناه من دلالتها على أفضلية العالم على النبي (ع)، أو مساواته له، وهذا أمر غير مفهوم ويصعب الالتزام به، إذ كيف لغير المعصوم أن يكون أفضل من المعصوم الذي اختاره الله تعالى واصطفاه لتلقي الوحي.
والله ولي التوفيق
14/1/2014
[1] ذُكر أن للحاج ميرزا إبي القاسم بن الميرزا كاظم الزنجاني كتاباً أو رسالة بعنوان: "فصل الخطاب في شرح حديث علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل"، انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج 16 ص 228، وأعيان الشيعة ج 2 ص 409.
[2] ففي الفوائد الطوسية للشيخ الحر العاملي عقد فائدة خاصة حول الحديث ، انظر: الفوائد الطوسية ص 376- 381، وهكذا فعل العلامة الخاجوئي ، انظر: جامع الشتات ص 157 – 158.
[3] انظر: تحرير الأحكام ج1 ص38.
[4] كتاب الألفين ص323، وكتاب منهاج الكرامة ص172.
[5][5] الحدائق الناضرة ج11 ص207، جواهر الكلام ج13 ص359- وج21 ص396، وكتاب المكاسب للشيخ الأنصاري ج3 ص551 وغيرها.مستدرك الوسائل ج17 ص320، والأخير نقلته عن التحرير للعلامة الحلي.
[6] انظر: عوالي اللئالي ج4 ص77، شرح أصول الكافي للمازندراني ج6 ص61 – وج11 ص31، وبحار الأنوار ج2 ص23- وج24 ص307،
[7] انظر: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للشيخ علي بن يونس النباطي العاملي (ت: 877هـ) الإيقاظ من الهجعة في إثبات الرجعة للحر العاملي ص50.
[8] انظر: منية المريد للشهيد الثاني ص182، كتاب الأربعين للماحوزي ص413.
[9] انظر: الفوائد الطوسية ص 376، وبحار الأنوار ج100 ص نقله عن استاذه الشيح محمد ورجحنا أن يكون المقصود به الشيخ الحر ، انظركتابنا: الحر العاملي موسوعة الحديث والفقه والأدب ص
[10] المحصول للرازي ج5 ص72.
[11] تفسير الفخر الرازي ج17 ص115- وج19 ص98- وج29 ص184.
[12] انظر: تفسير ابن عربي ج2 ص56.
[13] تاريخ ابن خلدون ج1 ص315.
[14] امتاع الأسماع ج4 ص208.
[15] الفوائد الطوسية ص376.
[16] تذكرة الموضوعات للفتني ص20.
[17] فيض الغدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج4 ص504.
[18] كشف الخفاء للعجلوني ج2 ص64.
[19] لاحظ المصادر المتقدمة فهي بأجمعها ذكرت هذه الصيغة.
[20] معارج اليقين في أصول الدين للسبزواري من علماء القرن السابع الهجري.
[21] مفتاح الفلاح للبهائي ص ، وقد ألف بعض العلماء رسالة حول شرح الحديث بهذه الصيغة ،انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج 16 ص 228، وأعيان الشيعة ج 2 ص 409.
[22] انظر تعليقاته على أوائل المقالات ص178.
[23] جامع الشتات للخاجوئي ص157.
[24] نقله السيد الخوئي في مصباح الفقاهة ج3 29.
[26] حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني ج2 ص 386.
[27] انظر: الألفين للعلامة الحلي ص 343، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم ج 1 ص 131و213 ، وجامع الشتات ص 157
[28] انظر: التنقيح الرائع في مختصر الشرائع ج 1 ص 597.
[29] انظر: الفوائد الطوسية ص 377، وبحار الأنوار ج 24 ص 307، وجامع الشتات ص 158.
[30] تفسير ابن عربي ج2 ص56.
[32] الفوائد الطوسية ص378.